الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قضية الردة وثورة الاتصالات.. الجدوى التاريخية

وسام فؤاد

2006 / 7 / 5
ملف - 1 تموز 2006 - العلاقة المتبادلة بين العلمانية والدولة والدين والمجتمع


قضية الردة من القضايا الكبرى التي اصطدمت بطموح النخب العلمانية في المجتمعات العربية الساعية نحو توسيع نطاق الحريات وإطلاق المجال للإبداع بحد تعبيرهم. وربما كان طرح عقوبة الردة يتعلق بنموذج فكري يحاول أن يطرح نفسه كمشروع بنيوي كامل ومغلق، يؤخذ كله أو يترك كله، لكن المشكلة أن المشروعات الإسلامية المتعددة اختلفت حول هذا الموضوع، مما دفع للتشكك في اعتباره طرحا إسلاميا سماويا كرسته الشريعة في صورة حد من الحدود، حيث إن مفهوم الحدود له خصوصية تختلف عن مفهوم العقوبة العادية.

وبما أن الأمر يتعلق بحياة إنسان أولا، وبما أنه يتعلق بصورة دين سامق راق تجري المحاولات لتشويهه على قدم وساق، وبما أن دم الإنسان مكرم مصان في الشريعة، وبما أن هذه القضية الخلافية أنهكت نخبنا الثقافية العلمانية والإسلامية؛ فإن الأمر اقتضى مزيد توقف أمام هذا الطرح: طرح الردة، لفحصه ومناقشته نقاشا على مستوى الفكر والحاجة الاجتماعية. وكثيرا ما سبق الفكر الفقه فقاده، وكثيرا ما قدمت المناقشات الفلسفية للفقه أطروحات ذات نفع عظيم.

والأمر الأكثر إثارة وإلحاحا في طرح هذه القضية للمناقشة اليوم أن تداعيات المتغيرات العالمية، وعلى رأسها الثورة الاتصالية، تجعل من طرح هذه القضية والتمسك بها - من وجهة نظري - ضربا من العبث، يعكس انعدام فهم بعض القيادات العلمية الأصولية أو بعض قيادات الجناح الراديكالي للتيار الإسلامي لدلالة هذه التغيرات العالمية، ومن ضمنها دلالة التغير التكنولوجي وتداعياته على ما هو سياسي وفقهي، كما يعلن اهتزاز الوعي بالمسؤولية التاريخية لدى القيادات المسؤولة عن تحديد أولويات مشروعات النهضة السياسية وإدارة التفاعل العام حولها، في توقيت تاريخي نجد أوطاننا فيه أحوج ما تكون إلى الاجتماع على كلمة سواء.

ربما يكون هذا الكلام صادما لبعض القراء، لكن العبرة بالحاجة لطرح اجتماعي متماسك وقوي وفعال ومحفز للأمة، وهو ما دفع لإجراء بعض المراجعات الفقهية، وعلى رأسها مراجعة قضية الردة.



قضية الردة والاختلاف وحمى التساؤلات

من يريد فحص قضية الردة عليه أن يستوعب المقدمات التي يوفرها المجتمع الفقهي حول هذه القضية، ونشير في هذا الصدد ألى أن قضية الردة تشهد خلافًا على مستويين، على النحو التالي:

أ - في حين يصر جُل الفقهاء المقلدين للمذاهب الفقهية على التعامل مع الردة باعتبارها حدًّا من الحدود، فإن بعض الفقهاء المعاصرين - بما جمعوه من مجمل الأحاديث النبوية، فضلاً عن تفاسير القرآن - لا يرون في هذه القضية حدًّا، ولديهم من الحجج ما يردون به على كل صور استدلال الفقهاء القدامى ومقلديهم من الأصول القرآنية والنبوية على اعتبار أن عقوبة الردة الواردة تاريخيا تعد حدا من الحدود.

ب - وحتى الفقهاء القدامى أنفسهم اختلفوا في تفصيلات كل شيء يتعلق بقضية الردة، وبخاصة مسألة الاستتابة، بما يحيل هذه القضية إلى حيز المختلف فيه، الذي يستحيل معه أن يصير معه الأمر حدًا ثابتًا ومستقرًا. إن كون هذه القضية مثيرة للخلاف على هذا النحو العميق بحاجة لوقفة!!. فمتى كان "الحد الشرعي"، وهو – في تعريفه الاصطلاحي - عقوبة إلهية مقدَّرة لا راد لها، يصبح محل خلاف على هذا المستوى الجذري العميق؟ وبعبارة أخرى، متى أُثِير الخلاف في الفقه الإسلامي حول حد السرقة، أو الحرابة، أو غيرها من الحدود بصورة تتعلق بوجود هذا الحد أصلاً؟.

والإجابة هنا بالنفي قطعًا. فكل الخلاف الذي ثار في مواجهة هذه الحدود يتعلق بإدارة الظروف والملابسات المحيطة بها، ولا يتعلق بوجودها. وهذا الحال يجعل السؤال عن وجود هذا الحد مما يقدح في كونه حدًا، وهو الرأي الذي ذهب إليه وطوره فقهاء معاصرون عديدون أبرزهم الدكتور محمد سليم العوا الذي رأى أن الردة جريمة نعم، لكنها تقتضي عقوبة تعزيرية لا حدية.

غير أن مثل هذه القضية لا يمكن الوقوف فيه عند رأي عالم واحد، مهما عظم وزنه وعلت درجته في مراتب العلم، ولابد من نقاش مفتوح ومعمق بين المثقفين والعلماء من كل الاتجاهات لتمحيص هذه القضية.

وإذا كان المنافحون عن أن الردة ليست حدًا من الحدود قد ناقشوا كل الأدلة التي استند إليها القائلون بأن الردة حد باستثناء دليل الإجماع، فإن فريق العلماء الرافض اعتبار الردة من جرائم الحدود قد قدَّم شواهد تنقض القول القائل بحدوث إجماع على أن الردة حد من الحدود الشرعية. فهذا الخليفة المسلم عمر الفاروق يرى في الردة السجن، ويتبعه كثير من التابعين في هذا. وهناك فريق من الفقهاء ذهب إلى أن الاستتابة من جريمة الردة تكون أبدًا، أي أن المرتد لا يُقتل، بل يُستَتَاب طيلة حياته في رأي البعض. والاستتابة أبدًا – كمبدأ – تدفعنا للتساؤل عما إذا كان هذا المبدأ (مبدأ الاستتابة أبدًا) يرفض - في جوهره - اعتبار الردة حدًا. ثم، من الذي يقرر مثل هذا المقصد في هذا الرأي الفقهي؟



اتجاهات النظر التقليدية لقضية الردة

وحتى يمكننا تحديد محل إضافتنا للمنظور الفقهي التقليدي الذي تناول مسألة حد الردة، وجب علينا أن ننظر في المحل الذي تقف عنده سجالات الفقه بخصوص قضية الردة. ويمكن في إطار الحديث عن التيارات التقليدية التي تناولت مفهوم الردة التمييز هنا بين أربع اتجاهات:

الاتجاه الأول يرى أن الردة نوعان، لكن يشمل هذا الاتجاه تيارين فرعيين:

أولهما يرى أن الردة تنقسم إلى ردة مخففة، وهي التي لا تقترن بدعوة المرتد للردة أو للحال الذي صار إليه، وردة مغلظة وهي التي تقترن بدعوة المرتد للمذهب أو الحال الذي ارتد إليه، ويذهب إلى هذا الرأي فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، وهو يرى أن الردة المغلظة تستوجب الحد، ويرى فيه القتل كرأي الجمهور.

والاتجاه الفرعي الثاني يرى الردة ردتين أيضا، أولاهما "الخروج من الإسلام" وهو صنف من الردة يمثل حالة فردية يقوم فيها المرتد بالخروج من الدين من دون إضمار الأذى للدين أو للجماعة المسلمة، وثانيتهما "الخروج على الإسلام" وهو صنف من الردة يقوم فيه الخارج على الدين بالكيد للجماعة المسلمة ودينها. ويذهب لهذا الرأي الدكتور كمال المصري مسؤول الاستشارات الدعوية السابق بشبكة إسلام أونلاين، ومع هذا التحديد فإن د. كمال المصري لا يرى أن الردة حدا، بل يراها تعزيرا موكولا لولي الأمر.

الاتجاه الثاني يمثله د. محمد سليم العوا. ولم يهتم د. العوا بتقسيم الردة لتصنيفات فرعية، واكتفى بالقول بأنها تقع ضمن جرائم التعزير لا الحدود، مستندا في تقريره لذلك الحال إلى رفض القول بنسخ آية "لا إكراه في الدين"، ومناقشة أدلة القائلين بأن الردة حد، ولا يتسع المقام هنا لسرد حججه ومناقشاته لحجج الرأي القائل بأن الردة حد من الحدود، ويكفينا إثبات ما انتهى إليه.

الاتجاه الثالث يرى أن الردة هي الرجوع عن الإسلام إما باعتقاد أو قول أو فعل، وأن هذا التركيب في التعريف يقابل تعريف الإيمان بأنه: اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح. ويرى أنه إذا تقرر مفهوم الردة، فإن من تلبّس بشيء من تلك النواقض يكون مرتداً عن دين الإسلام، فيقتل بسيف الشرع؛ فالمبيح لدمه هو الكفر بعد الإيمان. ولا يميز هذا الرأي بين مستويات للردة، فهو يتعامل معها ككل واحد، معتبرا أن مقصد الردة كحد من الحدود هو تشريع قصد منه الشارع حفظ أحد المقاصد الكلية للشريعة ألا وهو الدين، ويمثل هذا الرأي الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف، الأستاذ المساعد في قسم العقيدة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

الاتجاه الرابع يمثله الأستاذ جمال البنا، ويرى أن الأصل في الإسلام حرية الاعتقاد، وأن القرآن الكريم ذكر الردة ذكرًا صريحًا في أكثر من موضع ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية؛ ولو أراد لذكر. كما يرى أن القرآن الكريم أوضح - بما لا يدع مجال للشك، وفي مئات الآيات، وبالنسبة لكل أبعاد قضية الإيمان - أن المعول والأساس هو القلب والإرادة، وصرح بأنه ليس للأنبياء من دخل في هذا بضغط أو قسر، وأنه لا إكراه في الدين، وأن من شاء فله أن يؤمن ومن شاء فله أن يكفر. كما أشار إلى أنه لم يرِد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل مرتدًا لمجرد ارتداده، على كثرة المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم، بل كان القتل لسبب العدوان بعد الردة، وكأن أ. جمال البنا يريد أن يقول إن العقوبة هي لاجتماع الجريمتين.



مشروعات الحوار والتعايش والحاجة لتحديد الموقف من قضية الردة

قضية الردة تعد من أخطر القضايا المطروحة على جدول أعمال الحالة الحوارية التي يريد القائمون على مستقبليات أوطاننا العربية تكريس الوعي بها وتعميقه، سواء داخل الأقطار العربية والإسلامية أو خارجها، سواء أكان طرف الحوار الغرب أو الشرق في حالة حوار الحضارات أو الثقافات، أو مع العلمانيين في حالة الحوار الإسلامي - العلماني في المجتمعات العربية والإسلامية، ناهيك عن أنها تعد قضية حاضرة بمستوى ما في حالة حوارات الأديان؛ وعلى رأسها الحوار الإسلامي ـ المسيحي، باعتبارها دالة على تحصين العقيدة الإسلامية من الاختراق، ووثوق أهلها في صدقية الرسالة المحمدية، وعدالة تعاليمها؛ بما ينأى بها عمليًا عن احتياج ضرب الحواجز أمام معتنقي الإسلام إن كانوا من المتشككين في سموه ورقيه، أو هكذا يثير الجانب المسيحي هذه القضية في وجه علماء الدين الإسلامي، وفي مواجهة سائر حَمَلَة هذا المشروع: الإسلاميين على تعدد مشروعاتهم واجتهاداتهم.

وهناك عدة تحديات تواجه تلك الحالة الحوارية. فهناك تحديات مثل الصورة الذهنية النمطية السلبية التي يتم ترويجها في الغرب عن الإسلام والبلدان والمجتمعات العربية والإسلامية. وهناك اعتبارات تأمين وجود العرب والمسلمين في الغرب؛ سواء لاعتبار تقدير مصلحتهم الحياتية وحسب أو لاعتبار أنهم - أو جُلِّهم – مشروع جماعة ضغط فاعلة وقوية يمكنها خلق مناخ فكري وسياسي وثقافي إنساني يساند الحقوق المسلوبة على مستوى العالم، وعلى رأسها الحقوق العربية والإسلامية.

وهناك اعتبارات إنقاذ الدين الإسلامي نفسه من النظرة إليه باعتباره يتخوف من أن يهجره أتباعه فيفرض عليهم عقوبة قاسية، تلك العقوبة التي يتم تفسيرها في الغرب في إطار هيمنة رجال الدين – كطبقة - على مسار الديانة، خاصة أنها - كما بينَّا – محل اختلاف واسع النطاق؛ ينتظر الحسم، أو على الأقل ينتظر أن يحل على رأس قائمة القضايا ذات الأولوية في التناول والبحث. علاوة على اعتبار الموقف الدولي المتربص بالبلدان العربية والإسلامية، ومحاولات القوة العالمية الكبرى التدخل في شؤون هذه البلدان – العربية والإسلامية - تحت ستار حجج شتى، منذ وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الأليمة.

وأما على صعيد الحوار الإسلامي - العلماني في الدول الإسلامية والعربية، فهناك حاجة لترتيب وقفة مهمة مع القضايا التي تمثل عائقًا مشتركًا أمام بناء الثقة بين التيارات الوطنية المهتمة فعلا بشؤون أوطاننا العربية المنسحقة تحت ضغوط حكومات بعضها مستبد وحسب وبعضها عميل/وكيل غربي. فقضية كقضية الردة تصير عقبة أمام تواصل الحوار للوصول إلى توافق عام Consensus حول المصالح القطرية والقومية لدولنا العربية. فنفي القوى الوطنية في مجتمعاتنا: الإسلاميين والعلمانيين لبعضهم البعض فتح الباب أمام بعض الأنظمة العربية لتتغول على المجتمع السياسي بصفة عامة، وتسيطر على المجتمع بأسره، كما فتحت الباب أمام الخارج ليستغل انشغال الطرفين بصراعهما ليتلاعب بالدولة التي لم يكن المجتمع السياسي قادرًا على توفير دعم لوجيستي لها في مواجهة اختراق الخارج.

ومن أولى خطوات بناء الثقة هذه مراجعة القضايا الخلافية التي تمثل معايير النظر إلى الآخر، والحكم عليه، وخاصة إذا كانت هذه القضايا المعيارية محل خلاف، ومنها قضية الردة لدى الجانب الإسلامي.



ثورة الاتصالات وأثرها على قضية الردة

الأمر الثاني الذي يدفعنا دفعا لإعادة التفكير في سبب طرح هذه القضية يكمن في انهيار المنطق الكامن خلف التشدد إزاء قضية الردة، ومواجهة المرتدين.

ويرى الدكتور العوا ـ كملاحظة ـ أنه على الرغم من نزوع الفقهاء الدائم إلى درء الحدود بالشبهات، نتيجة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فإنهم تشددوا أيما تشدد حيال قضية الردة، ذلك التشدد الذي يرى فيه الدكتور يوسف القرضاوي نتيجة مباشرة لعمق التهديد الذي تمثله عملية الردة لقوام المجتمع المسلم والمتمثل في الإيمان، وبخاصة بالنسبة لبسطاء الناس، وغير المثقفين عمومًا.

القضية كانت بالنسبة لفقهاء الإسلام تنبني على منظور حماية المجتمع، وتأمينه من مصادر الفتنة. غير أن تلك النظرة التي تنتمي لعصر ما قبل ثورة الاتصالات تقوم على ثلاثة أسس تم تجاوزها، ويمكن أن نعرض لهذه الأسس الثلاث كالتالي.

الأساس الأول: القدرة على شخصنة ظاهرة الردة: أي اتهام أشخاص محددين بالردة؛ وهو ما يعني إمكان الانتباه لهم، والاحتراز منهم ومن مقولاتهم في مواطن تدافع الأفكار والحجج.

الأساس الثاني: استثمار قدرة الدولة على ضبط حدود إقليمها الجغرافي وبسط السيطرة الكاملة فوقه. ومنع تداول المواد الخارجة على الدين فوق هذا الإقليم.

الأساس الثالث: العلاقة بين الدين الإسلامي ونظام الحكم في الدولة الإسلامية، حيث تفترض المنظومة الفقهية التي تتضمن حد الردة أن الدولة التي تطبق هذا الحد دولة إسلامية، وأن نظام الحكم فيها إسلاميا يشايع الفكرة الإسلامية.

غير أن هذه الأسس تم تجاوزها كلية في عصر ثورة الاتصالات، بحيث لا يمكن القول بأن إشهار سلاح الردة بمقتضاهما لا يزال ماضيًا، وقادرا على منع وصول أفكار الموصوفين كمرتدين إلى غير المتخصصين وغير المثقفين. وبيان هذا التغير والتجاوز يكون عبر استكشاف دلالة كل أساس منهما على حِده، على النحو التالي:

أ - شخصـنة ظـاهرة الردة

فأما على صعيد تشخيص الظاهرة، الذي كان يستهدف إعلان وتشويه أسماء المرتدين، بما يتيح للعامة بعد الخاصة الاحتراز منهم، والتحوط عند التعامل معهم.. على هذا الصعيد، وفي إطار اعتبارنا للمتغيرات التي دشنتها الثورة الاتصالية، لم يعد التشخيص ذا فاعلية. كيف!!؟

إن برنامجًا بسيطًا من برامج البريد الإلكتروني يمكن فيه لأي شخص أن يكوِّن عنوانًا إلكترونيًا، وأن يضيف إلى ذاكرته آلاف العناوين الإلكترونية لمرتادي الشبكة، ومراسلتهم بأسماء وهمية، وتبليغ أفكاره لهم بمنتهى الإلحاح الممكن والكثافة المتاحة، ولا يقف في طريقهم هذا سوى حظر جمهورهم المستهدف لما يرسلونه من رسائل. وهذا بدوره لا يمنعهم بصورة كلية، فبإمكان هؤلاء تغيير أسمائهم وعناوينهم الإلكترونية، ومعاودة تبليغ رسالتهم، وتوقيعها بأسماء غير معروفة، وربما تكون أسماء أو شعارات إسلامية، أو إنشاء مواقع ذات تصميم جذاب، اعتمادًا على سمة العصر المتمثلة في سيادة القيم البصرية على القيم الموضوعية.

ب - قدرة الدولة على ضبط حدود إقليمها الجغرافي

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن شبكة الإنترنت وآلياتها تمثل وسيلة لتجاوز قدرة الدولة على ضبط حدودها من خلال القدرة العالية لاختراق البريد الإيكتروني ومواقع البوابات لإمكانات الحظر. وبالإضافة إلى عناوين البريد الإلكترونية، ومواقع شبكة العنكبوت الشاسعة، هناك المجموعات الإلكترونية ( E-Group أو E-Community ) التي يمكن بها لأي حامل فكرة أن يجمع مريديه وأنصاره ومؤيديه في هذه المجموعة، ودعوة كل أعضاء شبكات الويب الذين يمكنه حصوله على عناوينهم الإليكترونية إلى هذه المجموعات.

وفي هذا الإطار تدخل اعتبارات أخرى غير موضوعية كالتمويل، والتجميل والكتابة الجيدة المتمتعة بمواصفات تحريرية قياسية، وغيرها من الاعتبارات التي لا ترتبط بجوهر الفكرة التي يتم الترويج لها، لكنها تسهم في تعزيز طرح الفكرة غير المتحيزة بأحوطيات الشرع وحدوده.

كل هذه الاعتبارات تلغي المكاسب المستندة على شخصنة الفكر المنحرف - من منظور الفقه الإسلامي - في صورة أشخاص معينين.

لكن على، صعيد آخر، ألقت هذه الخصيصة الاتصالية الكرة في ملعب المتلقّي ومدى تحصنه، هذا التحصن الذي يجعله واعيًا بمحتوى المادة الاتصالية التي بلغته، بصرف النظر عن خصائصها الشكلية الجاذبة، وهو ما يعني تحول مركز الثقل من مكافحة الفكر المنحرف لصالح العمل على مسرح غير المتخصص، وغير المثقف، والتفاعل معه حواريا، والوصول به للفكرة محل التناول من خلال الإقناع كوسيلة وحيدة، وليس القهر عبر استخدام التخويف من القتل استنادا لتهمة الردةً، وهو الموت البدني المصحوب دوما – في مجتمعاتنا المحافظة – بالموت الأدبي.

وبعيدًا عن شبكة الإنترنت، هناك القنوات الفضائية، وهذه القنوات تصبّ في نفس الإطار، حيث يمكن لهذه القنوات المزج بين البرامج والمواد الدرامية التي تشكل مصدرا لجذب المشاهدين، والبرامج التي تروج للفكر الذي يلقى معارضة واسعة النطاق بين علماء الدين المسلمين، وهذا أيضًا يصب في صالح توعية المشاهد. ومن هنا، فإن على حملة المشروع الإسلامي نزع قناع الخوف، واختبار حضورها في ساحات المواجهة والحجة لا ساحة السجن والموت.

وكلتا الوسيلتين ترتبان قضية الوعي كتحد أول، وذلك بصرف النظر عن روافد بناء هذا الوعي وتشكيله.

فالآن، ومع تغير الظروف على هذا النحو، هل يمكن للفقهاء أن يراجعوا موقفهم من قضية الردة إن كان الموقف الفقهي - حقًا – وكما يقول الأستاذ جمال البنا – صناعة فقهية؟

جـ - استثمار العلاقة مع السلطة

وعلى صعيد ثانلث، نجد أن الأساس الثالث الذي قام عليه فكر/فقه/ذهنية الردة تمثل في الاحتكام للسلطة كوسيلة من وسائل تفادي وصول بعض أطياف أو مساحات الفكر للعامة المستهدَفين. إن نظرة تحليلية لعلم تكوين المعرفة الفقهية يدلنا على أن تناول قضية الردة في تاريخ الفقه الإسلامي كان يستند دوما لوجود سلطة لديها ما يدفعها لتبني هذا المفهوم: مفهوم الردة، ومستعدة لاستخدام موارد هذه السلطة في هذا الصدد، سواء أكانت ممارسة حد الردة ممارسة افتقار (بإخلاص) أو ممارسة استظهار (لتحصيل شرعية وحسب). بما يعني أن السلطة تريد تطبيق حد الردة.

وهذا الأساس: توافق الفقه الإسلامي مع توجه الدولة/توافق توجه الدولة مع الفقه الإسلامي، واجه صعوبات في الفترة الأخيرة بطبيعة الظرف التاريخي، بسبب خصائص وضع النخب العربية. فبعض النخب المتسلطة على جهاز الدولة في بعض المجتمعات العربية ذات توجه علماني رافض للتعاطي مع هذه القضية على صعيد المبدأ، وبعضها ذات توجه محافظ رافض للتغيير والاستسلام لدعاوى الإسلاميين ومنطقهم، وبعضها الآخر مراوغ لا أكثر في التعاطي مع متطلبات التغيير المجتمعية بصفة عامة، لكن ظل الأمر لا يمثل مشكلة ضخمة مع الجماهير المحافظة بسبب حرص بعض النخب الحاكمة على الظهور بمظهر من لا يخالف الشريعة.

ويمكننا في هذا الصدد الإشارة إلى أن الضغوط الدولية الرافضة لمنطق الانغلاق، أو الرافضة للحالة المقيدة للحريات المدنية للأفراد، ومن بينها، بل وعلى رأسها حريات الفكر والتعبير والاعتقاد، إضافة إلى استعداد النخب الحاكمة للتوافق مع الضغوط الدولية الماضية في هذا الاتجاه، أو استعداد هذه النخب للاستجابة لاتجاهات تنامي الوعي العلماني في مجتمعاتها العربية والتوافق معها، هذه الاعتبارات باتت تشكل تحديا قويا أمام إثارة قضية الردة في البلاد العربية، بل وجعلت طرح هذه القضية - بالنسبة للإسلاميين – ضرب من المقامرة التي تجعلها محط اتهام بعدم مراعاة المصلحة العامة للدول العربية في هذا الظرف التاريخي المتربص بها، وبخاصة في أعقاب فاجعة الحادي عشر من سبتمبر.

لكن هذا لم يكن تحد قوي يواجه أطروحة الردة في هذا التوقيت. التحدي الرئيس الذي واجه هذا الأساس – من وجهة نظر الكاتب - تمثل في تأثير ثورة الاتصال على وضع الدولة، حيث أدت إلى تآكل سيطرة الدولة القومية على حدودها.

لقد أدت ثورة الاتصالات إلى تآكل قدرة الدولة في السيطرة على حدودها. فالفضائيات، والإنترنت اليوم تتجاوزان قضية إمكان سيطرة الدولة على حركة انتقال الأفكار فوق سطح إقليمها. فقديمًا كان يمكن للدولة أن تحتكر التدفقات الاتصالية والإعلامية من خلال سيطرتها على إقليمها وحدودها. أما اليوم فالهاتف والفاكس والتليكس والقنوات الفضائية والإنترنت، كل هذه الوسائل الاتصالية الحاملة للمحتويات الفكرية والوجدانية المختلفة لا تقف عند الحدود الإقليمية للدول؛ كما كان الحال بالنسبة للكتب والمجلات والصحف.

فالفرد العادي يمكنه بضغطة زر أن يتصل بأي مكان في العالم، وأن يحصل منه على أي محتوى فكري يريده. وتقلصت قدرات الدولة على السيطرة: من إمكانيات المنع إلى إمكانيات التجسس وحسب، وحتى هذه الأخيرة تتجاوزها القدرات التكنولوجية يومًا بعد يوم. ففي هذا الإطار نطرح تساؤلا هاما: هل يريد الإسلاميون منع الفعاليات الاتصالية عن المجتمعات العربية؟



المتغير الاتصالي والتأثير في قضية الردة؟

هذه التأثيرات التي تحدثنا عنها لقدرة الثورة الاتصالية على تجاوز الهيكل القديم للسيادة وقيوده تؤدي إلى مجموعة تغيرات في منظور معالجة قضية الردة.

فعلى أول الأصعدة نجد اتجاه المعطيات الجديدة نحو التركيز على موضوع الفكر نفسه، لا الشخص حامل هذا الفكر. فالشخصنة لم تعد الوسيلة المثلى لتأمين "الدين"، بسبب قدرة الفكر أو الأشكال الدرامية الحاملة لهذا الفكر على الالتفاف حول هذه الشخصنة، والتخفي خلف جُدُر التكنولوجيا. ومن هنا فإن ثورة الاتصال تحيل الأمر لسجال بين طرفين أو أكثر من الفكر.

والطريف أن التاريخ الإسلامي يعطينا أدلة وافرة على أن هذه الحالة من حالات السجال تاريخية، ولعل نموذج الشبهات المثارة حول الإسلام منذ يومه الأول تعطينا مثالاً واضحًا على حالة التركيز على الموضوع: فكثرة من الكتابات التي تتناول هذه الشبهات اليوم لا تكاد تذكر أو تدرك قائل الشبهة، لكنها تركز على هذه الشبهة.

وعلى صعيد ثان فإن ثورة الاتصالات تدفع العلماء والمثقفين إلى التركيز على توعية الجمهور العربي لا مكافحة الفكر. وهذا الطرح لا نقصره على الإسلاميين فقط، فالفكر العربي عانى كثيرا من بعض أطياف الفكر الإسلامي غير المراعية للمصالح الوطنية، بل التي تنكر المصالح الوطنية أصلا لإنكارها فكرة الدولة القومية، فبات ذلك الأساس الفكري مدخلا لانهيار فكرها المجتمعي. فمنع الفكر الضار اجتماعيا وسياسيا لم يعد بنفس الفاعلية القديمة، وأصبح الأكثر جدوى الاتجاه نحو توعية الجمهور المسلم؛ لأنه صار المستهدف والحكم في آن، فهو الذي يتوجه إليه الفكر المنحرف بالخطاب، وهو الذي يقرر التعاطي مع هذا الفكر سلبًا أو إيجابًا.

إن هذا الوضع يدفع الكثيرين للتساؤل حول مدى تأثير ذلك على التناول الفقهي المعاصر لقضية الردة.



الحاجة الأصيلة للتصحيح الذاتي

قبل هذه الاعتبارات السابقة الناجمة عن متطلبات وشروط الحالة الحوارية التي لابد منها إذا ما كانت غايتنا هي مصلحة أوطاننا، هناك اعتبار آخر بالغ الأهمية، ألا وهو الرغبة، أو الحاجة الخالصة لدى حملة المشروع الإسلامي للتصحيح الذاتي. فهناك عدة مسلمات منسوبة للإسلام؛ كانت قد استقرت في الوجدان الفقهي أو الاجتماعي، وهي ليست بنتاج للإسلام. بعض هذه المنتجات يمكن أن نطلق عليه استجابة لظروف معينة: مثل قضية الردة، إلا أن بعضها الآخر لا يمكن اعتباره إلا تعديًا على الشريعة ذاتها. وللأسف تم هذا التعدي باسم الإسلام، ومن أمثلة هذه الحالة الأخيرة الامتناع عن توريث المرأة في بعض مناطق العالم الإسلامي، وخلع إمكانية أن تحظى بأشكال الولاية على الأصعدة الخاصة بها.

إن التساؤل الذي يجري اليوم حول ما إذا كانت الردة حدًا أم لا هو تساؤل يمثل هاجسًا حقيقيًا لأمن الفرد المسلم على نفسه، إذ إن سيطرة أوضاع طبقية أو نخبوية معينة على مقدرات أية دولة إسلامية يجعل هذا الحد ـ غير المُسلَّم به ـ أداة للقهر السياسي وتصفية الحسابات. كما أن ترقية التفاعل الحضاري الإسلامي مع الآخر مرهون بقضية تعد خلافية بين المسلمين، لكنها حاسمة في دعم مقبولة الحضارة الإسلامية في المعمار الحضاري الكوني، وإن لم يكن مقبوليتها فعلى الأقل الاطمئنان إليها.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة جديدة من برنامج السودان الآن


.. أطباق شعبية جزائرية ترتبط بقصص الثورة ومقاومة الاستعمار الفر




.. الخارجية الإيرانية: أي هجوم إسرائيلي جديد سيواجه برد إيراني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي حانين وطير حرفا جنوبي لبنان




.. إسرائيل وإيران لم تنتهيا بعد. فماذا تحمل الجولة التالية؟