الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل السادس/ 4

دلور ميقري

2020 / 9 / 16
الادب والفن


عُدَّ ديبو من أفتى عناصر الدرك، الذين منحوا رتبة صف ضابط، الأولية. لم يكد عُمره يبلغ الثامنة عشرة، عندما بدأ خدمته في إحدى قرى وادي بردى. لعل نظرته الدونية إلى الفلاحين، مردّها مرافقته لأبيه، ثمة في إقطاعية الوجيه الدمشقيّ الكبير، حسين بك الإيبش. كان يذهب إلى مركز الإقطاعية، الكائن في البيطارية، في أيام الحصاد بشكل خاص وذلك قبل تطوعه في سلك الدرك. أحياناً، كان يصطحب معه أصغرَ أعمامه، جَمّو، وكان هذا آنذاك يتهيأ أيضاً للانضمام إلى جيش الشرق، الذي أسسته سلطة الانتداب من أبناء الأقليات الأثنية والدينية. في أثناء انفرادهما معاً لتناول الغداء، كان ديبو ينصت لحديث عمه عن مظالم الملاكين وحالة أبناء الريف الرثة. لكنه لم يكن يعلّق بشيء، مكتفياً بالابتسام مثلما يفعل المرء العاقل إزاء ترّهات شخصٍ معتوه. لكن علاقتهما انقطعت تقريباً على أثر مقتل الفتاة كَولي، وأضحى منذئذٍ أحدهما معرّفاً في العائلة علناً بصفة الجنون.
كذلك كان حال ديبو، حينَ عوقبَ بالنقل إلى حوران بسبب شكاوى رؤسائه، المبنية على تظلّمات القرويين من مسلكه الفظ. بيد أنه ارتاحَ لمغادرة المكان، المثير في نفسه ذكرياتٍ أليمة. وكذا شأن ابتعاده عن أقاربه في الشام، الذين فرضوا عليه العزلة تقريباً بسبب جريمته. وكأنما العزلة كانت بديلاً لعقوبةٍ، لم ينلها من القانون بسبب دهائه في إخفاء معالم الجريمة. لكنه هوَ من أفضى لامرأته بتفاصيل حادثة القتل، وذلك في إحدى حالات صحوة ضميره، المصاحبة لصُحبة الراح. وإذا بالسر يُذاع مبكراً، كونه لم يصمد في دخيلة المرأة؛ لينتقل من والدتها إلى نساء آلها ومن ثم ذكورها. بطبعه المعروف، قابل رجلُ بيروزا ذلك بالاستهانة والاستهتار، فبقيَ يأتي إلى الحارة في أيام الإجازة، وهوَ مرفوعُ الرأس، مختالٌ بسترته الرسمية، الأنيقة، وحذائه الجلديّ الطويل، اللامع: في حقيقة الحال، أنه لم يملك علاقة شخصية حميمة سوى مع عمه الراحل، مستو، وظل فخوراً على الدوام بكونه أخذ بثأره. مثلما سبقَ وذكرنا في مكان آخر، أنه أطلق اسمَ العم على أصغر ولديه. قبل ذلك، اتفق مع امرأته على أن يكون اسمُ الابن البكر، صلاحو، تيمناً باسم زوج أمها، وكانا يمحضانه التقديرَ والاحترام والمحبة.

***
خدمته في الدرك، كانت تائهة إذاً بينَ مخافر بر الشام وجنوبه، لحين استقراره مؤخراً في إحدى قرى القلمون. كانت القرية متربعة ببيوتها على هضبة خصبة، كما عظاءة متوحدة فوق حجر مغطى بالحشائش. كان وحيداً أيضاً بلا أصدقاء، في وقتٍ بدأت فيه امرأته بنسج علاقاتٍ مع نساء الجيران. من خلال هؤلاء، وليسَ عن طريق رجلها، تعرّفت على زوجة معلّمه رئيس المخفر فزارتها مرةً في بيتها. وكان من الممكن أن تتعززَ هذه العلاقة، حينَ ذكرت بيروزا للمرأة، الشركسية الأصل، شيئاً عن ضرّة والدتها. إذ هتفت زوجةُ الآمر مع ابتسامة تزيّن سحنتها الجميلة: " آه، مليحة ابنةُ القائمقام..؟ إننا قريبتان! ". ثم استدركت بعد وهلة تفكير: " ولكن تناهى إليّ أنها طلّقت من أبيك، أليسَ صحيحاً؟ "
" صحيح، ولكن الرجل ليسَ أبي بل زوج أمي "، ردت بيروزا بشيء من الحَرَج. عادت المضيفة للقول: " كذلك سمعتُ أنها اقترنت مؤخراً من أحد أقاربنا، الذين يقيمون في الأردن، وأنها تركت ولديها لطليقها؟ ". هنا، احمّرت الضيفة من الخجل وكأنما هيَ مسئولة بشكل من الأشكال عن هذه النهاية المحزنة. أجابت أخيراً: " نعم، غير أن علاقة والدتي معها كانت جيدة بحيث أن ولديها يعدّانها بمثابة الأم ". رددت امرأةُ الآمر، بنبرة مشفقة: " جيد، جيد..! ". لعلها كانت تشفق على ضيفتها، لما عاينته فيها من حياء وطيبة، مقارنةً بما سمعته عن رجلها وأنه شخصٌ فظ قاسي القلب وسكّير.

***
وإذاً، لم يمضِ وقتٌ قصير على خدمة ديبو في مخفر قرية العسال، إلا وأضحى معروفاً بين ساكنيها. بعضهم كان ينسب إليه أفعالاً شنيعة، والبعض الآخر كان يتودد إليه بهدايا من جني أرضه وأشجاره المثمرة. كذلك أمّنَ صفُ الضابط مؤونته من المشروبات الروحية، مجاناً، وذلك عن طريق عائلة مسيحية كانت تصنّع العَرَقَ من كروم العنب والتين. مناوباته في المخفر، والحالة تلك، تحولت إلى كوابيس عند العديد من الأهالي: كان يخرج ليلاً ليتفقد أحوال الأمن، لكنه بسبب سُكره كانت جولاته تنقلب أحياناً إلى اعتداءات بالضرب والركل لمن يصادفه في طريقه.
قال له الآمرُ ذات يوم: " ليسَ من داعٍ لخروجك من المخفر ليلاً، إلا بعلمي وبعدما أصدر لك أمراً بذلك في حال حصلت مشكلة ما. مفهوم؟ ". ثم أردفَ بنبرة أشد: " والويل لك لو أنني علمتُ بمعاقرتك للخمر في أثناء تلك المناوبات، وستتحمل النتيجة إذا كتبتُ تقريراً لدمشق عن ذلك ". طأطأ ديبو رأسه، علامة على الانصياع للأمر. بيد أنه في نفس الليلة، استهل المناوبة بفرش طاولة المكتب بدمجانة العَرق وصحون المازة. قبيل منتصف الليل، رن جهاز الهاتف، الموجود على طاولة المكتب. كان الآمرُ على الخط، ليستفهم عن الوضع. رد صف الضابط بالقول: " الأمنُ مستتبٌ، سيّدي! "
" كيف يستتب الأمنُ، ودمجانة العَرق على الطاولة أمامك؟ "
" ليسَ صحيحاً، أبداً. لقد وعدتك، وأنا أعتبرُ ذلك كلمة شرف "
" إذاً دعني أشم رائحة فمك، بالنفخ في سماعة الهاتف! "، أمره الضابط بلهجة جدية. عند ذلك، عمد ديبو إلى الحيلة: بدلاً من النفخ في السماعة، تنفّس بعمق مُصدراً صفيراً عالياً !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد