الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مباحث في الاستخبارات ( 231) التحليل الاستخباري للبيئة

بشير الوندي

2020 / 9 / 17
الارهاب, الحرب والسلام


مباحث في الاستخبارات ( 231)
التحليل الاستخباري للبيئة
-------------
مدخل
-------------
لايوجد بلد في العالم الا وفيه تقسيمات ادارية مرت عبر الزمن بالكثير من الانسجام العشائري والمناطقي حتى تبلورت الى مقاطعات او محافظات او اقاليم , وكثيراً ماتكون هنالك عوامل مشتركة جامعة داخل كل تقسيم اداري سواء قومي او ديني او مذهبي وغير ذلك , وتتباين علاقة كل اقليم ومنطقة بالحكومة المركزية وجيشها ومنظوماتها الامنية والاستخبارية , ومن هنا تقوم الاجهزة الاستخبارية بدورها لعمل خريطة تحدد الطبيعة الديموغرافية لكل منطقة في البلاد وزعاماتها ومفاتيحها وطبيعة علاقاتها وامتداداتها الحدودية ومديات التأثيرات الخارجية فيها ان وجدت تحت مختلف المسميات القومية والعرقية والعشائرية وسواها , وهو مانعنيه بالتحليل الاستخباري للبيئة .
-----------------------------------
التحليل الخارجي والداخلي
-----------------------------------
لايقف التحليل الاستخباري للبيئة على الداخل الجغرافي , وانما تعتمده الدول التوسعية في دراسة بيئة العالم بتقسيمات العالم الاول والثاني والثالث , وتقسيمات تفصيلية في داخل العوالم , كما تستخدمه تلك الدول في المناطق التي تبغي احتلالها , وهي دراسة لابد ان تكون دقيقة بلا تهويل , لأن الخطأ في التقديرات فيها مكلف للغاية وخطير , وهو ماحصل حين جاء الاحتلال الامريكي , فإن استخباراته العسكرية اكتفت بتصديق ماقيل لها من اطراف عراقية معارضة صديقة لها من ان العراقيين سيستقبلونكم بالزهور لانكم انقذتموهم من حكم جائر , وكان الحكم في التحليل البيئي الاستخباري منقوصاً وغير محسوب النتائج وكلف الامريكان آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى , فالتحليل الاستخباري للبيئة قد يكون داخلياً او ان يكون خارجياً بحسب الدولة ومدى تدخلاتها في شؤون الدول الاخرى .
وهنالك بالمقابل تحليل سياسي للبيئة يقسم المجتمعات التي يحكمها حزب ما الى تصنيفات ثلاث هي (ابيض , رمادي , اسود) , فالابيض هو مع الحكومة او الحزب المعني , والرمادي غير مهتم فهو ليس مع الحكومة او ليس مع الحزب السياسي, والاسود هو ضد الحكومة ويرفضها او هو ضد الحزب , والواقع انه كلما اوغلت السلطة في تفردها ودكتاتوريتها , كلما ضاقت تقسيماتها تحت شعار (من ليس معنا فهو ضدنا ) .
من هنا كان النظام السابق يوزع العراق الى بيئتين فقط (آمنة وخطرة ) , فمناطق الجنوب والفرات الاوسط وكردستان كانت خطرة , والغربية واجزاء من بغداد آمنة , وقد اشرنا في مبحث سابق (انظر مبحث 50 الاستخبارات والجغرافيا) , انه لابد من المام الاستخبارات بجغرافيا الجريمة في البلاد من مكان لآخر , فالجغرافيا الجنائية مهمة لتكون الحلول على اساسها , فمثلا في عهد صدام , كان الانتشار العسكري في الجنوب والشرق والشمال حسب التهديد , والانبوب النفطي الاستراتيجي مُدّ في المنطقة الغربية بسبب خطورة العدو شرقاً في السبعينات برغم الكلفة الاكبر , كذلك مخازن الجيش في بيجي وابو غريب , رغم ان النجف كانت اكثر أمناً لها في حرب ايران.
كما سعى صدام كثيرا لتغيير طوبوغرافيا الارض منذ السبعينات من اجل تعزيز تقسيماته , منها مشروع اسكان العرب في كركوك , وترحيل اكراد محافظة ديالى , واسكان عشائر الندا في الشريط الحدودي , تسفير الكورد الفيلية الى ايران من بغداد وواسط والعمارة ومناطق اخرى , تسفير الكثير من اهالي كربلاء والنجف من الكرد والعجم , ترحيل اكراد من كركوك ومناطق اخرى الى السماوة , اسكان مزارعين من الانبار والفلوجة و تكريت في ضواحي بغداد, وكل ذلك لتغيير البيئة والسكان وتحويلها من خطرة الى امنه لذا تلاعب كثيرا بالبيئة الانسانية لحساب امنه , وهو ماخلق بعد سقوط النظام مشاكل كثيره في الاملاك والانتشار والتوزيع السكاني.
----------------------------------------
التقسيمات الاستخبارية البيئية
----------------------------------------
تناولنا في مباحث سابقة (انظر مبحث 31 التهديدات) , ان التهديدات على سبعة انواع , وتختلف من منطقة الى اخرى, وتقوم الاستخبارات بتشخيص التهديدات في كل منطقة بمؤشر بياني , كي تقرر طرق المعالجة المناسبة سواء كانت ناعمة (من خلال الاستخبارات والاجراءآت الحكومية ) , او مرنة (بحلول استخبارية امنية ) , او خشنة (بحلول استخبارية عسكرية) (انظر مبحث 201 معلومات المعالجة ).
ان تحليل البيئة امنياً واستخبارياً لفهم التهديد هو شيء مشابه لجغرافيا الجريمة , ففي البصرة مثلاً (مخدرات وتهريب ) , ديالى (تهريب) , الانبار (تهريب وارهاب) , وهكذا , (انظر مبحث 34 علم النفس , 90 التضاريس البشرية ) , فهناك خارطة جريمة جغرافية في كل بلد , فكذلك تضع الاجهزة الاستخبارية لكل منطقة وصف عام لها يعكس التوجه العام تجاه الدولة واجهزتها وتهتم مستشارية الامن الوطني واجهزة الاستخبارات و هيئة الاستخبارات الوطنية بتحليل البيئة , وكما يلي :
١- البيئة المحاربة :وهي بيئة عداء كامل لا تشعر فيها الاجهزة الامنية بالأمان , ومثالها فيتنام الشمالية ايام الحرب مع امريكا , فالحقيقة ان امريكا لم تكن تحارب ثوار محددين , وانما كانت تحارب في بيئة محاربة كل من فيها هو ضد الجيش الامريكي , وهذه بيئة صعبة ولها اساليب , ولعل المواجهة الشاملة والاسلوب الخشن هو احد الخيارات التي تنصح به الجيوش , وغالباً ما تنصح الاستخبارات بالانسحاب من هكذا بيئة.
ان البيئة المحاربة هي بيئة عدائية خطرة تحتاج الى مجهود كبير , والعمل عليها صعب وخطير , ويكون العمل الاستخباري بمنتهى السرية سواء كانت داخل البلاد او ضمن اقليم دولة محتلة , وعادة ما تكون الحلول فيها بطابع عسكري , حيث تكون فيها المعارضه المسلحة من ضمن الناس ولهم دعم واسناد ومساندة وعادة ماتقوم الدولة بإنتاج مجموعات مسلحة من اهل المنطقة واستمالة العناصر ودفع اموال سراً لبناء قاعدة من المخبرين , وتكثر فيها عمليات الكر والفر والقتال المتحرك , فلايوجد فيها استقرار حكومي وانما تواجد عسكري ضمن ثكنات كبيرة وقوية لدفع الخطر , ومن تلك الثكنات ينطلق الجهد الاستخباري والامني , ولكنها تبقى بيئة معقدة لايسهل كسب المعركة ضدها , وهو ماحصل للامريكان في فيتنام حيث لم تستطع الفوز رغم اختلال الموازين العسكرية بين الطرفين , فالبيئة المعادية اما ان تنتصر عليها بسرعة او لا تحاربها , لذا تميل مشورة الاستخبارات الى استنزافها والتغلغل فيها والحرب النفسية عليها.
٢- البيئة المناصرة : وهي مجتمع متماسك مع النظام وداعم له , ويتبنى حماية النظام والدفاع عنه , وتطمئن الحكومة له , ورجل الامن يعمل بأمان وحرية , وغالباً ما تهتم الحكومة بهذه البيئة , و تكون فيها تنمية وعمران (من قبيل العوجة في زمن حكم صدام).
٣- بيئة مشاركة : كماليزيا , فهناك ثلاثة شعوب مختلفة (مسلمون , هنود , اصول صينية) , لكنها متعاونة مع بعضها وتشاركية بشكل ايجابي وفعال مما تسبب بحالة من الامن المجتمعي , وممكن ان تنتقل هذه البيئه الى انسجام وتفاهم و تغليب الهوية الوطنية على الاثنيات الاخرى , وكلما زادت قوة الهوية الوطنية اندثرت الفجوات الاجتماعية .
٤- بيئة ممانعة : هي بيئه تنظر للنظام بعين الريبة وجسور الثقة غير متينة معه , وهي قد لا تنسجم مع كثير من مشاربع النظام و تكتفي بالحد الادنى والمساهمة الشكلية , ولا تدافع عن النظام , والبيئة الممانعه تحمل فكرا معارضاً دوماً ولكنه ليس خطراً مادام في نطاقه الفكري , الا ان هذه البيئة عرضة للاستمالة الخارجية او المعارضه المسلحة وهنا مكمن الخطر , فالبيئة الممانعة تشبه الى حد كبير المنطقة الغربية في العراق , وكشمير , وخوزستان في ايران , والقطيف في السعودية, جنوب العراق في حكم صدام , جنوب تركيا وغيرها كثير .
وتتراكم اسباب الممانعة بين فشل الحكومة , فساد السلطة في تلك المناطق , فجوات مذهبية لها اطراف تغذيها وتعتاش عليها , وغيرها من العوامل التي تساعد في ان تنتقل تلك البيئة الى العنف , او عدم مساندة الدولة , فبعد الدمار الهائل في بنية تنظيم داعش . ففي عام 2019, قام التنظيم باكثر من 1200 عملية لداعش في العراق , ورغم ان معظمها عمليات صغيرة ومحلية , لكنها تبين ان التنظيم استعاد خلال سنة نشاطه رغم خسارة اغلب رجاله ومقتل زعيمهم , وهو امر لايتم الا في ظل وجود بيئة ممانعة حاضنة , فالبيئة الممانعة للدولة لاتمانع من التعاون مع اعدائها ان شعرت بالغبن , وهي لذلك تكون الشغل الشاغل لأجهزة لامن الوطني والمخططين , وتاخذ حيز كبير من مفاهيم الامن واستراتيجية الامن في البلد , وهنالك خطوات عديدة لابد من تحضيرها لكي تنتقل ايجاباً الى ان تصبح بيئة مشاركة ولا تصبح بيئة محاربة , كما حدث في فترة داعش , فمثل هذه البيئة تكون متمردة بلا حرب , واذا استعديتها تحاربك , لذا تحتاج الى اعتماد سياسات امنية مرنة مع تكثيف الجهد الاستخباري والمسح الامني واعتماد الامن الاحترازي باستمرار.
٥- بيئة غير مهتمة : وهي بيئة يائسة من الحاكم وترفضه , لكنها تحترم وطنيتها , وحتى لو اعتبرت النظام فاسداً او فاشلاً فانها سلبية ومنطوية على بيئتها وعيشها وحياتها , فهي ليست صديقة ولا عدوة , وقد تصبح بيئة طاردة لمفاهيم الدولة و الحكومة وتعليماتها ولا تهتم للمشاركة في انتخابات او مشاريع اضفاء الشرعية , ويصعب استمالتها , لكن تحتفظ بالوسطية , وينتشر الجيش في البيئة المحاربة والبيئة الممانعة , ولاينشر في البيئة غير المهتمة لانه يستفز فيها رد الغعل , فهي غير عدائية , لا تتعاون مع اعداء النظام ولا مع النظام.
-------------------------------------
ديناميكية البيئة الاستخبارية
-------------------------------------
مما لاشك فيه من ان السياسات الحكومية عليها اللوم لاكبر في بروز التصنيفات البيئية الاستخبارية وتبنيها , من خلال سياسات خاطئة , بالاضافة الى عوامل اخرى كانتشار الفساد والتدخل الاجنبي والصراع القومي والطائفية والدكتاتورية وغيرها من الاسباب , الا ان تلك التصنيفات الآنفة ليست جامدة ولانهائية , فهي قابلة للتغير نحو الافضل او نحو الاسوأ .
الا ان الانتقال من بيئة الى اخرى لايحدث فجأة ولا يحدث سريعاً , ولكن الضعف الاستخباري والسلطةالعمياء لا تلحظ ذلك , فلابد من الرقابة المستمرة , ومحاولة نقل البيئات السلبية الى ايجابية , فالاستخبارات المحترفة تحتفظ بموشرات حول البيئة المجتمعيه وتوصيفاتها الخمسة لتكون برامج معالجة, و تقترح برامج معالجة على الحكومة , سواء كانت معالجات مجتمعية , اعلامية , توعوية , خدمية , تربوية , اصلاح سياسي , اصلاح اقتصادي , اصلاح امني , اساليب فكرية ودينية وثقافية , كل تلك الوسائل وغيرها من اجل تحويل البيئة او منع انزلاقها.
ان من اكبر اخفاقات العراق ان البيئة المشاركة واحياناً المناصرة للنظام تمت الاطاحة بها وارتدادها على النظام وتطورت لتكون ممانعة بشدة , وبالطبع ان الامر لم يكن صدفة بل فشل متراكم و خسارة الفرص وتحولها الى تحديات , , ثم فشل الحكومة في معالجة التحديات , مم ادى الى تلقفها من قبل جهات تتحين الفرص من خلال اعلام خارجي مبرمج وبرامج لضرب القيم مع عناصر حزب البعث وبعض المجاميع المنحرفة والمتمردة واصحاب المعتقدات الشاذه , الامر الذي ادى الى ان تنقلب البيئة من بيئة مناصرة الى مشاركة الى غير مهتمة الى ممانعة ثم الى محاربة وهو امر استغرق اكثر من عقد ونصف من دون ان يتنبه له القائمون على الامور .
ولاننسى ان التنظيمات المسلحة تسعى بشتى الاساليب - ضمن البيئة غير المهتمة الى التعجيل بنقلها الى بيئة ممانعة من خلال رد الفعل الحكومي , فهي تهاجم القطعات او الطرقات او الناس او تصطاد العاملين في الدولة وتقتلهم , بالمقابل تقوم الحكومة بعمليات عسكرية خشنة وهذه الخشونة تنعكس سلباً على سكان المنطقة , فتكون حالة الاستياء والتذمر , وكلما تكررت الحالة زاد تذمر الناس اكثر حتى تصبح البيئة مزعجة وافرادها غير متعاونين .
------------
خلاصة
------------
ان التحليل الاستخباري البيئي امر جوهري تعرف من خلاله الاجهزة الاستخبارية خطواتها , وتعرف حتى مخططات العدو , ومن خلال التحليل البيئي تبرز التصنيفات التي تتراوح من المناصر الى المعادي , الا ان على الاجهزة الاستخبارية ان تعمل في خطين متوازيين : الاول في نزع فتيل العداء والممانعة وعدم الاهتمام وتحويلهم الى العمل بتفاعل ايجابي مع سلطات الدولة , والثاني منع الانزلاق نحو الاسوأ ورصد الساعين لذلك , والله الموفق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غرقُ مطارِ -دبي- بمياهِ الأمطارِ يتصدرُ الترند • فرانس 24 /


.. واقعة تفوق الخيال.. برازيلية تصطحب جثة عمها المتوفى إلى مصرف




.. حكايات ناجين من -مقبرة المتوسط-


.. نتنياهو يرفض الدعوات الغربية للتهدئة مع إيران.. وواشنطن مستع




.. مصادر يمنية: الحوثيون يستحدثون 20 معسكرا لتجنيد مقاتلين جدد