الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة20

محمود شقير

2020 / 9 / 17
الادب والفن


أعود إليها ولا أجد بيتاً لي بشبابيك، لأقيم فيه (سكنت بيوتاً كثيرة في المنفى، لكل بيت منها ذكريات وظلال، وأقمت في غرف متنوعة في فنادق كثيرة، ولم تكن أية غرفة منها تشبه الأخرى، ولم يغب عن بالي طوال الوقت البيت الأول الذي ولدت وترعرعت فيه. أبي وأمي يسكنان الآن في هذا البيت).
أقمت أنا وزوجتي وابنتي أمينة في بيت ابني خالد، ولم يكن البيت يتسع لنا جميعاً، ولم أكن قادراً على الكتابة والقراءة في ظروف بيت مكتظ بساكنيه، وكان هذا أمراً مؤلماً لي، غير أنني لم أجاهر بمشاعري تلك. فكرت في استئجار بيت في حي الشيخ سعد، ثم أقلعت عن الفكرة. فكرت في استئجار بيت في رام الله، ثم بدوت متردداً إزاء ذلك، ولم أتحمس للانفصال عن العائلة في مجتمع ما زال يعطي للعائلة وللانتماء إليها وزناً. ولربما كان هذا تعبيراً عن ضعف أو عن تخلف ما زالت له رواسب في نفسي.
أخيراً، قررت أن أبني بيتاً صغيراً في فسحة الأرض المتبقية أمام بيت خالد. استدنت نقوداً من الأصدقاء إضافة لمبلغ جمعته من أثمان بيع السيارة وأثاث البيت في عمان. وخلال أربعة أشهر بنيت البيت، فشعرت بشيء من الراحة النفسية والاستقرار.
بعد الانتهاء من بناء البيت، بدأت العمل في صحيفة "الطليعة" الأسبوعية في حي الشيخ جراح. أنشر على صفحاتها مقالات في زاويتي الأسبوعية "فسحة من كلام". ويستمر هذا الوضع ما يقارب العام، ولم تكن مسؤولياتي في الصحيفة باهظة. أخذت أتأقلم مع وضعي الجديد، واضطلعت بمهمات سياسية متنوعة هنا وهناك، انحصر بعضها في إلقاء محاضرات حول موضوعات سياسية راهنة. كنت أجد متعة في التفاعل مع جمهور راغب في المعرفة وفي الحوار.
يبدي بشير البرغوثي، رئيس تحرير "الطليعة"، رغبته في التخلي عن رئاسة التحرير، لكي يتفرغ لمهامه السياسية الأخرى، يقترح علي أن أتولى رئاسة التحرير خلفاً له، أقبل المهمة، وأتورط فيها بحماسة.
أجلس كلما أسعفني الوقت في البرندة الواسعة المكشوفة، الملحقة بمبنى الطليعة، أتأمل البنايات الحجرية القديمة، التي تملكها أسر مقدسية موسرة في حي الشيخ جراح، لا يزيد ارتفاع البناية الواحدة منها عن طابقين، وهي تشتمل على غرف واسعة ذات سقوف عالية، ولها شبابيك مستطيلة تنتهي أحياناً من جهتها العليا بأقواس. ولبعضها، كما هو الحال في مبنى الطليعة، أدراج صاعدة إلى الطابق العلوي من الطرف الخارجي للبناء، وهي محاطة بدرابزينات من حديد، وأما سطوحها فهي - على الأغلب- من القرميد.
أمام مبنى الطليعة، تقع مدرسة خليل السكاكيني، الذي تعرفنا على اسمه منذ أن تعلمنا الكلمات الأولى في كتب القراءة، وتتألف المدرسة من بناية كبيرة من الطراز نفسه الذي لبقية البيوت القديمة في الحي.
بدأت التردد على حي الشيخ جراح منذ أيام الدراسة في المدرسة الرشيدية الثانوية في خمسينيات القرن العشرين، لمتابعة مباريات كرة القدم على ملعب الحي، الذي اقتطعت سلطات الاحتلال بعد عام 1967 الكثير من أرضه لتحويلها إلى شارع رقم 1، وهو أوتوستراد عريض تتفرع منه شوارع كثيرة، بعضها يذهب يميناً إلى عيادات صندوق المرضى ووزارة الأمن الداخلي، وفندق حياة ريجنسي ثم إلى هداسا الشرقية والجامعة العبرية، وبعضها يذهب يساراً إلى مستوطنة معلوت دفنا المقامة على أراضي الشيخ جراح، ومستوطنة رامات أشكول، التي أقيمت فوق مساحات من أراضي لفتا. ثم يمضي الشارع نحو التلة الفرنسية، يتفرع هناك إلى عدة شوارع تخدم أحياء استيطانية جديدة، ويمتد ليصل إلى حي شعفاط، ثم يندمج في الشارع القديم الذاهب إلى رام الله.
محصلة ذلك كله: تغيير المشهد الفلسطيني المألوف واستبداله بمشهد محتشد بالأبنية التي تسكنها أسر يهودية، أو تشغلها إدارات الشرطة وحرس الحدود (هنا بالقرب من التلة الفرنسية، سيعترض طريقي ذات ليلة من عام 1994، وأنا قادم من رام الله، جمع من الفتيات والفتيان الإسرائيليين، الذين رشقوا سيارتي بالحجارة بمناسبة حلول عيد الغفران، ما سيدفعني إلى الانعطاف نحو اليمين في اتجاه مستوطنة راموت لأجد نفسي أمام احتمالات خطر أكيد).
وما زلت أتذكر زيارتي لفندق الإمبسادور ذات مساء (أول فندق أقمت فيه كان في دمشق، واسمه فندق الرئيس الواقع في مركز المدينة. كان ذلك عام 1960 حينما ذهبت للتسجيل في جامعة دمشق). الفندق يبعد عن مقر الطليعة حوالي مائة متر، وهو من أكبر فنادق المدينة، وفي أيام الصيف، تجلس السائحات الأجنبيات في شرفاته بملابس السباحة سعياً وراء السمرة المحببة التي تتركها شمس بلادنا على أجسادهن، ويكثر استخدام قاعاته للمؤتمرات والندوات.
دخلته أول مرة عام 1964، حينما انعقد أول مجلس وطني فلسطيني في القدس (وفيه تم الإعلان رسمياً عن ولادة منظمة التحرير الفلسطينية)، فقد أقيم حفل استقبال لأعضاء المجلس وضيوفه، في صالته، فذهبت إليه صحبة عدد من الزملاء الصحافيين والكتاب. كنت آنذاك، قد أصبحت واحداً من كتاب مجلة "الأفق الجديد" المقدسية، أنشر قصصي القصيرة على صفحاتها. وكنت أتأمل الوجوه الكثيرة في الصالة، وأشعر بانبهار، لأنني، للمرة الأولى في حياتي، ألتقي مثل هذا العدد من نجوم المجتمع، من سياسيين وصحافيين وكتاب، وأعتقد أن ذلك اللقاء، وما رافقه من أحاديث، أسهم في تقريبي خطوة أخرى من العمل السياسي.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني