الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاربة لتوطين الديمقراطية في منطقتنا

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2020 / 9 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


احتفى العالم يوم الثلاثاء 15سبتمبر2020 باليوم العالمي للديمقراطية في ظل سكوت تام حول ذلك في منطقتنا، وكأن المسألة لا تعني لاشعوبها ولا حكامها، فهذا اليوم لايحظى بإهتمام كبير عندنا لعدة عوامل، ومنها ضعف الثقافة الديمقراطية أصلا عند شعوبنا وإعتبار البعض ان "الديمقراطية كفر" و" منتوج غربي".
تدفعنا هذه الطروحات إلى طرح عدة تساؤلات، فهل فكرة الديمقراطية هي ظاهرة غربية؟، وهل العالم الغير الغربي لم يعرف مظاهرها وبوادر لها حتى ولو لم تتطور؟ وهل من المحتم ربط الديمقراطية بالرأسمالية أم أننا بإمكاننا حل مشكلة تحقيق العدالة الإجتماعية إلى جانب الحريات الديمقراطية؟
نعتقد أن من أهم العوامل التي تعرقل عملية الإنتقال الديمقراطي في بلادنا هي بعض التيارات الأيديولوجية المنغلقة التي تستخدمها الأنظمة الإستبدادية ضد إنتشار الأفكار والقوى الديمقراطية في المجتمع، وفي الكثير من الأحيان تضخم هذه الأنظمة هذه التيارات الأيديولوجية المتطرفة كي تخيف بها القوى الديمقراطية، ثم تدفعها للإختيار بين الإستبداد أو هذه التيارات الأيديولوجية المتطرفة، وجعلها تفضل الإستبداد عليها، كما تلجأ الأنظمة الإستبدادية إلى تكريس وإستغلال الذهنية القبلية في المجتمع ودفعه إلى التصادم، كي تظهر هذه الأنظمة بأنها هي الضامنة للسلم والأمن، دون أن ننسى الإقتصاد الريعي وشراء ذمم المعارضة الديمقراطية وفصلها عن الشعب، مما يؤدي إلى فقدان ثقة المجتمع في الطبقة السياسية، فيستقيل من الإهتمامات السياسية، فيخلو الجو للمستبدين لملأ الفراغ.
لكن بمجرد ما يتم إضعاف أو القضاء على هذه العوامل سينجح الإنتقال الديمقراطي في بلداننا، لكن تتوقف نجاح عملية الإنتقال الديمقراطي على عدة عوامل، وعلى رأسها وجود دولة بمؤسسات قوية، تقود هي العملية مع إشراك كل قوى المجتمع بهدف التوصل إلى عقد إجتماعي فيما بينها يلتزم به الجميع، فمن الخطأ الفادح القيام بإنتخابات قبل هذا العقد كي لانترك أي مجال لبعض القوى بالإنقضاض على العملية الديمقراطية برمتها تحت ذريعة أن الفائز في الإنتخابات يهدد الديمقراطية أو عدم إحترام الفائز ذاته بالإنتخابات لكل المباديء الديمقراطية كاملة غير مفصولة، ومنها إحترام الحريات ومبدأ المواطنة والتداول السلمي على السلطة والفصل بين السلطات وإستقلالية القضاء وغيرها من المباديء المعترف بها عالميا، لكن أكبر خطر يهدد الإنتقال الديمقراطي هو إذا تم تحت ضغوط داخلية أوخارجية، خاصة إذا صاحبتها إضطرابات وعنف، فبإمكان أن يسود الإضطراب لمدة طويلة، كما يحدث اليوم في عدة بلدان عرفت ما سمي ب"الربيع العربي"، وبإمكان زوال الدولة من الخريطة العالمية بحكم الضغوط لزرع الفوضى الخلاقة كي تتفكك الدول، مما يسهل عملية إدماجها في "مشروع الدولة العالمية" التي تريد أن تبنيها البرجوازية العالمية أو ما يسميها جون زيغلر ب"أسياد العالم الجدد".
يجب مصاحبة عملية الإنتقال الديمقراطي وجود عقد إجتماعي بين كل الأطراف المتناقضة في المجتمع، والتي يجب أن تقتنع بأن التناقضات في الأمم هي طبيعية وأن الآليات الديمقراطية بكل أبعادها ليست دين أو ايديولوجية، بل مجرد أدوات وآليات لحل سلمي لمختلف تلك التناقضات.
كما لايمكن نجاح هذا الإنتقال دون التفكير الجدي لمصاحبتها وربطها بتحقيق العدالة الإجتماعية وخدمة المحرومين، ليس فقط كهدف، لأن لامعنى لديمقراطية لا تخدم كل المجتمع، كما هي أيضا ضمانة لعدم إستغلال البؤس الإجتماعي من تيارات محددة للإنقلاب على الديمقراطية كما وقعت عدة مرات في التاريخ العالمي.
ولهذه الأسباب كلها علينا التفكير الجدي في نظام ديمقراطي بديل يخدم كل فئات المجتمع دون إستثناء، أي إقامة دولة في خدمة كل المواطنين، ومنها ضمان العدالة الإجتماعية إلى جانب الحريات الديمقراطية، أي بتعبير آخر نظام نقيض لما يسمى ب"الديمقراطية الغربية" الخادمة للبرجوازية، والتي بشرنا بها فوكوياما، فقد سبق لنا أن قمنا بالرد على فوكوياما في كتابنا "البديل الحضاري" أين بيننا أنه بإمكان إبداع نظاما أحسن يجمع بين الديمقراطية والعدالة الإجتماعية بنظام برلماني مبني على أساس تمثيلي للفئات المهنية والشرائح الإجتماعية.
كما يجب أيضا إيجاد أرضية صلبة للفكرة الديمقراطية وقيمها في المجتمع، وذلك بنقض الفكرة القائلة بأن الديمقراطية هي فكرة وظاهرة غربية بإمتياز، وأنها مبنية على تصورات فلسفية غربية، لأننا إن لم نقم بذلك سنجد معارضة قوية لها في بلداننا خاصة من بعض التيارات الدينية التي تمتلك أرضية أيديولوجية قوية بسبب إستخدامها للدين.
قد عرفت منطقتنا بعض الأفكار والممارسات الديمقراطية عبر تاريخه سواء على شكل تنظيمات تقليدية مثل نظام الجماعة في البلاد المغاربية، ولو عمقنا البحث التاريخي، لوجدنا مظاهر عدة قريبة من الديمقراطية المباشرة التي عرفتها أثينا مثلا، ونجد نفس الأمر بعد إنتشار الإسلام، ومنها خطبة أبو بكر الصديق الشهيرة التي أستند عليها المصلح الديني بن باديس في الجزائر لإستخراج 13 مبدأ تدل على مدى التوافق بين القيم الديمقراطية الحديثة وتلك الخطبة، وذهب بن باديس إلى حد جعل الشعب هو السيد في إختيار كل قوانينه وغير مفروض عليه الإلتزام بما يسمى "الشريعة الإسلامية" التي هي في الحقيقة ليس لها أي قداسة دينية على عكس ما يدعيه الكثير، فماهي في الحقيقة إلا قوانين وضعية أبدعها مايسمى ب"فقهاء الدين"، وذلك إنطلاقا من تأويلاتهم للنصوص الدينية التي تحكمت فيها تأثيرات عدة، ومنها ظروفهم ودرجة تثاقفهم ومصالحهم الطبقية وغيرها، ولهذا نجد إختلافا كبيرا فيما بينهم في عدة قضايا.
كما ذهب البعض مثل الليبي الصادق النيهوم إلى الإثبات أن الجمعة في أصلها لم تكن بهذا الشكل، بل كانت يوما أسبوعيا لمراقبة ومحاسبة الحاكم، وينطلق من عدم معرفتنا وتسجيل خطب الجمعة لسيدنا محمد (ص) في الوقت الذي أصر فيه الصحابة على جمع وتتبع كل أقواله وأفعاله، ويمكن الإستدلال بمحاسبة رجل لعمر بن الخطاب أثناء الجمعة حول القميص الذي لبسه، أو معارضة المرأة له حول إجتهاده في الصداق في يوم جمعة، ويقول النيهوم أنه كان يشارك في إجتماع الجمعة المسلمين غير المسلمين، لكن تم الإنحراف عن ذلك كله بعد وصول الأمويين إلى السلطة، وأبتدعوا فكرة كل من تكلم فصلاته باطلة، وذلك كوسيلة لترك السلطان وحده يتحدث ومنع الناس من محاسبة الحكام.
فبغض النظر عن صحة ما أورده الصادق نيهوم من عدمه، إلا أن هذه الفكرة بإمكانها أن تساهم اليوم في دعم الرقابة المباشرة في بلداننا، فلنتصور لو فرض على كل مسؤول محلي على الإتيان إلى مكان عام سواء كان المسجد أو غيره ليحاسب كل أسبوع أو جمعة، فهل بإمكان أن يتجاوز حدوده أو لا يقوم بأعماله على أحسن ما يرام، وقس على ذلك على كل المسؤولين، فهي فكرة جديرة بأخذها بعين الإعتبار لتطوير الممارسات الديمقراطية في عالمنا الإسلامي ونقلها إلى بلدان أخرى.
أوردنا هذه الظواهر لإثبات فكرة مفادها أن الممارسات الديمقراطية ظاهرة موجودة في تاريخ كل الشعوب بأشكال متعددة، كما عرفت أيضا كل الشعوب ظاهرة الإستبداد، وبأن الإستبداد ليس ظاهرة خاصة بالشرق كما يقول أصحاب نظرية "الإستبداد الشرقي"، فحتى أوروبا والغرب عرف نفس الظاهرة في الماضي والحاضر، ومالنازية والفاشية والستالينية ببعيدة عنا.
لكن هذا ليس معناه دعم النظرية القائلة بأن الديمقراطية المعاصرة هي غربية المنشأ، وبالتالي لايمكن نقلها لمجتمعاتنا متذرعين ببعض الخصوصيات التي أوردناها آنفا، لكن من حقنا أن نسأل هل نحن طورنا هذه الخصوصيات لدعم المسار الديمقراطي أم أستندنا عليها للإبقاء على الإستبداد سواء بشكله المباشر أو على روحه؟، ومايؤسف له عودة هؤلاء إلى بعض الأفكار الغربية ذاتها مثل أفكار روجي غارودي الذي يرى أن كل ما أنتجه الغرب هو أورو-مركزية يجب التخلص منها، وأن هناك تعدد ثقافي وحضاري إنساني، وبأنه بإمكاننا الإستلهام من قيم حضارات أخرى تم تهميشها من الغرب، طبعا نتفق معه في ذلك، بل هناك حكمة شهيرة عندنا وعادة ماتنسب إلى سيدنا محمد )ص( "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذ بها"، وهو ما يعني عدم رفض كل ماهو أوروبي بدعوى أنه تغريب، بل نأخذ كل ماهو جيد سواء من الغرب أو الحضارات الأخرى، بل نجد في عهد الإصلاحات الدينية وعصر النهضة في العالمين العربي والإسلامي الإستناد على النموذج الديمقراطي الأوروبي والحث على نقله إلى بلدان العالم الإسلامي مثل دعوات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده الذي ساهم في وضع دستور ثورة عرابي في مصر في 1881، كما نجد خير الدين التونسي صاحب الإصلاحات في تونس بالإستناد على كتابه" أقوم المسالك لتقويم الممالك"، ودعم رجال الدين الثورة الدستورية في إيران في 1906، كما نجد دعوة بن باديس التي أشرنا إليها آنفا، بل حتى حسن البنا، فإنه كان معجبا بالنظام النيابي البريطاني، وهو نفس مانجده عند عبدالقادر عودة المثقف الإخواني الذي أعدمه عبدالناصر في 1954.
لم أورد هذا إلا للرد على أعداء الديمقراطية اليوم من الكثير من الإسلامويين، مما يدل على مدى تراجعنا في هذا المجال، بل لازال البعض يتحدثون عن أهل الحل والعقد، وهو ما يعطي شرعية لمجموعة من المؤثرين والنافذين في إختيار الرئيس وصناعة السياسات كما يقع في عدة دول في منطقتنا، وهو ما يحدث في السعودية أو في إيران عبر مجلس الخبراء، وهذا كله يعد إستيلاء على إرادة الأمة والسيادة الشعبية.
إن أردنا التأسيس للديمقراطية في بلداننا فعلينا أن لانهمل عوامل هامة جدا أيضا، وهو الإنطلاق من الواقع السائد كمرحلة إنتقالية تجعل الجميع يرى في القيم الديمقراطية هي جزء من ثقافتهم سواء كانت دينية أو غيرها، فلنضع في أذهاننا أن الأسس الديمقراطية في الغرب لم تنطلق فقط من الفكر السياسي والممارسات الموجودة في الحضارة الاغريقية والرومانية كما يعتقد البعض، بل كثيرا ما نجد محاولات التأسيس لها إنطلاقا من الكتاب المقدس أي التوراة والأنجيل التي لاتختلف كثيرا عن القرآن في الكثير من التصورات، ولايمكن لنا نحن المسلمين أن نتجاهل ذلك إن أردنا تأصيل هذه الأفكار في مجتمعاتنا التي تتأثر كثيرا بالدين إلى حد اليوم، ومن هذه الأفكار والتصورات القرآنية يمكن ذكر الطبيعة السلطوية للإنسان حيث أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم، بأن إبليس أغوى آدم بالأكل من الشجرة الملعونة بعد إيهامه بأن ذلك سيعطيه خلدا وملكا لا يبلى، ولم يكن إنكشاف سوءاتهما بعد الأكل من الشجرة إلا ترميزا وإشارة إلى ظهور طبيعة الإنسان الحقيقية والمتسترة عند سعيه إلى السلطة والصراع حولها، وهي عادة ما تتصف بالدموية والهمجية في حالة هذا الصراع، وهو نفس ماتوصل إليه تقريبا الفيلسوف الأنجليزي هوبز عند وصفه طبيعة الإنسان بالقول "أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، مما يتطلب التفكير الجدي في آليات تحد من الصراعات الدموية بين البشر، وبأن أوروبا قد إخترعت آليات الديمقراطية كحل سلمي لمختلف التناقضات والصراعات التي عرفتها مجتمعاتهم، ومنها مبدأ التداول السلمي على السلطة بواسطة الانتخاب الذي يعد حلا عمليا يجمع ويوفق بين مبدأي "حق الأمة في عزل السلطان" و"درء الفتنة"، كما يمكن لنا الإشارة في نفس مجال التأصيل إلى ثناء الله سبحانه وتعالى على ملكة سبأ إلا لأنها ديمقراطية، وهو ما يدحض فكرة الإسلامويين بتحريم تولية المرأة الحكم والرئاسة، ومن التصورات الممكن الإستناد إليها أيضا التصور القرآني بأن التعدد بكل أشكاله خاصة الثقافي هي آية من آيات الله، وكل من يسعى لفرض الأحادية، فهو يناقض الإرادة الإلهية، وهو ما يدعم مبدأ المواطنة وإحترام المختلف عنا، ويمكننا أيضا الإستناد على فكرة قداسة الحريات، وأنها مستمدة من تقديس الله، ومنها إعطاء الله للإنسان حرية الإختيار بين طريقي الجنة والنار الذي تعد من أكبر الأشياء في مصير الإنسان، ولهذا لايحق لأي كان أن يمنع الإنسان في التعبير عن رأيه أو حرية إختياراته، كما يمكن أن نسرد لهم كيف أن الله ترك أبليس حرا طليقا رغم معارضته له، ورفض تطبيق أوامره، فهناك الكثير من التصورات القرآنية يمكن لنا الإستناد عليها لتوطين القيم الديمقراطية عند المسلمين، بل نرى إستحالة النجاح في ذلك اليوم وفي هذه الظروف دون الإستناد على تصورات فلسفية قرآنية، وهذا ليست خاصية عندنا فقط، بل نجدها حتى لدى المفكرين المؤسسين للديمقراطية الغربية الحديثة كلوك وجفرسون وتوماس باين وغيرهم الذين أستندوا أيضا على قراءة فلسفية للكتاب المقدس في ذلك.
مادام ان شعوب منطقتنا لم تدخل الحداثة بعد، ولازالت الروح التقليدية مسيطرة عليه، مما يجعل تختلط لديه الحزبية بالقبلية ومقومات الثقافة والدين والطائفية، وبتعبير آخر قد أتخذ البعض هذه العوامل إضافة إلى ضعف الثقافة الديمقراطية والقبول بالآخر كذريعة للإبقاء على الإستبداد، لكن لم يميز هؤلاء بين أمرين وهو ان الدولة القوية هي ضرورية للنظام الديمقراطي، كما أن الإستبداد ذاته هو الذي يغذي ذلك، كي يبقى في السلطة في إطار سياسة فرق تسد، ويطرح آخرون مسألة الأحزاب الدينية وإجتياحها كل إنتخابات تحدث في هذه البلاد، هذا صحيح بسبب توفر أرضية أيديولوجية مواتية لذلك، لكن هذا ليس معناه منعها، لأن ذلك سيعطي لها قوة أكثر، بل ما يجب القيام به هو صرامة الدولة في تطبيق القوانين ومنع صارم إستخدام الدين وكل رموزه في الخطاب السياسي، ولهذه الأسباب فإننا نحتاج إلى دولة بشكل آخر تأخذ هذه العوامل كلها بعين الإعتبار، بل يجب التخلص من النموذج اليعقوبي للدولة الذي أضر بنا كثيرا والتفكير في شكل آخر تحافظ على خصوصيات الجماعات والأفراد.
ويمكن أن نلخص ذلك كله بالقول أن مشكلتنا اليوم هي في كيفية تحقيقنا القطيعة مع العصر الخلدوني المبني على توظيف القبيلة والدين للوصول إلى السلطة، مما أدى إلى عدم إستقرار الدولة، وهو نفس المشكل الذي طرحه محمد عابد الجابري والمتمثلة في مشكلة الإنتقال من العقيدة إلى الأيديولوجية ومن القبيلة إلى الأحزاب والمجتمع المدني ومن الريع أو الغنيمة إلى الإقتصاد المنتج، هذا ما نسميه نحن ب"مجتمع العصبيات".
فللأسف الشديد أننا في مجتمعاتنا نمتلك "سياسويو العصبيات"، أو بتعبير آخر ممارسة السياسة بالعصبيات الدينية والطائفية واللسانية والعرقية والقبلية والجهوية، لأننا لم نضع قطيعة بعد مع ما أسميه بالمجتمع الخلدوني، حيث يتمثل في عصر إنحطاط الحضارة الإسلامية بداية من بن خلدون، ولهذا نحتاج إلى دولة قوية جدا وصارمة في تطبيق القوانين التي يجب ان تمنع ممارسة السياسة بالعصبيات، لأنها في الحقيقة ليست سياسة، لأن السياسة في الأصل هو تسيير المدينة وتحسين حياة المواطنين في الدنيا ولايهمها الآخرة التي هي شأن ديني، ولهذا نجد الأوروبي ينتخب حسب مصالحه الطبقية والمادية، لكننا نحن ننتخب حسب عناوين العصبيات المهددة للوحدة الوطنية، فليس إكتساب هذه الأحزاب شعبية واسعة معناها أنها لها مصداقية وتقدم حلولا وتطور شعبنا، بل بالعكس هي في الحقيقة تعبر عن تخلف مجتمعاتنا الذي لم يخرج من عصور الإنحطاط الذي تتخبط فيه، والمتميز بالعصبيات، وهي في الحقيقة تكرس هذا التخلف بممارساتها وخطابها.
لكن رغم كل ما قلناه فإننا نعتقد أن ماوصلته الديمقراطية في الغرب اليوم هو أحسن نموذج موجود، لكن ليس معناه انه نظام كامل، فهذه الآليات مجرد آليات تنظيمية تحمل الكثير من النقائص يمكن تطويرها وجعلها أكثر فعالية وفي خدمة الأمة والشعب بدل ماتكون في خدمة طبقة أو تيار أيديولوجي أو فئة معينة على حساب الآخرين.
فمن عيوب هذه الديمقراطية هو خدمتها أكبر للطبقة البرجوازية، وتحتاج إلى نقد علمي لتطويرها، كما تطرح التطورات العلمية والتكنولوجية خاصة في مجال الإتصالات أمامنا نقاشا حول مستقبل الديمقراطية على الشاكلة الغربية، لأن هذه التطورات الجديدة تسمح بالتدخل المباشر لكل فرد في عمليات النقاش والتصويت، مما سيعطي قوة للشعب، ولعل هذه التقدم التكنولوجي سيضع أمامنا مسألة التفكير في الديمقراطية المباشرة بدل التمثيلية .
إن الارتباط الوثيق بين الديمقراطية والرأسمالية الاستغلالية في الغرب هو الذي جعل الماركسيون يعتبرون الدولة جهازا في يد الطبقة البرجوازية ضد البروليتاريا، كما لقيت الديمقراطية البرجوازية انتقادات من عدة مفكرين سياسيين كموسكا، وباريتو، وميسانز، وشمبيتر... وغيرهم، إلا أن الماركسيين حاولوا إعطاء البديل المتمثل في الديمقراطية الشعبية بمعنى دكتاتورية البروليتاريا عن طريق الحزب الشيوعي الذي يجسدها والسوفيتات التي هي مجالس تمثل العمال والفلاحين والجنود، لكن نظام الحزب الواحد أدى إلى نتائج وخيمة لم ينتبه إليها منظرو الماركسية في حينها، حيث سمح بظهور برجوازية بيروقراطية استغلت مناصبها في الحزب والإدارة، مثلما قمعت الحريات، فانهار الإبداع العلمي والفني والفكري، لأن الحرية ضرورة حيوية لكل نشاطات الإنسان، وقد حلل اليوناني كرونيليوس كاستورياديس هذه البرجوازية البيروقراطية وكيفيات ظهور بوادرها الأولى منذ خمسينيات القرن الماضي في البلاد الشيوعية.
وبناء على ذلك كله طرحنا نظاما بديلا في كتابنا "النظام البديل للإستبداد-تنظيم جديد للدولة والإقتصاد والمجتمع-" مبنيا على إحترام الحريات الأساسية والربط الوثيق بين الديمقراطية والعدالة الإجتماعية الذي يجب أن لا ينفصمان عكس ما يحدث في الديمقراطيات الغربية اليوم، ويمكن الإطلاع عليه بالتفصيل في العديد من كتبنا التي سبق ذكر بعضها، وكذلك في عدة مقالات ودراسات أكاديمية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اضطرابات في الإمارات لليوم الثالث بسبب سوء الأحوال الجوية


.. -الرد على الرد-.. ماذا تجهز إسرائيل لطهران؟| #الظهيرة




.. بوتين..هل يراقب أم يساهم في صياغة مسارات التصعيد بين إسرائيل


.. سرايا القدس: رشقات صاروخية استهدفت المدن المحتلة ومستوطنات غ




.. أصوات من غزة| ظروف مأساوية يعيشها النازحون في العراء بقطاع غ