الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين الكلمة والصورة

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2020 / 9 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الكلمات "تدل" على أشياء وكائنات حقيقية مادية أو غير مادية، مثل الكرسي والطاولة والسرير والقلم والكمبيوتر.. هي أشياء نستعملها في حياتنا اليومية للجلوس والكتابة والنوم. ولكن هناك أيضا كلمات تدل على العواطف والأحاسيس كالحب والكراهية والصداقة إلخ والتي نستعملها لتوضيح موقف الإنسان تجاه الآخر. الدلالة signification هي العلاقة التي نتجاوز فيها أحد الحدين - الدال - إلى ما يدل عليه. فكلمة كلب مثلا، توجه إنتباهنا إلى الكلب الحقيقي الذي ينبح ويعض ويحرك ذيله فرحا ويتبع سيده، وتجعلنا نتجاوز هذه الحروف أو الأصوات المكونة للكلمة إلى الكائن الحقيقي. وهذه الحروف والأصوات ما هي إلا عملية إتفاقية وعرضية بين أعضاء مجموعات إجتماعية وثقافية محددة. فاللغة الإنجليزية تستعمل كلمة Dog والفرنسية كلمة Chien واليونانية كلمة σκύλος والأمازيغية ayeddi أو ayerzul للدلالة على هذا الكائن. فكل هذه العلامات المختلفة تشير إلى نفس الحيوان الأليف صديق الإنسان كما يقال. فالدلالة إذا هي علاقة متفق عليها تجعل شيئا ما حاضرا يحل محل شيء آخرغائبا كان أم حاضرا. فاللغة إذا هي مملكة الدلالات بلا منازع، حيث تعلم الإنسان منذ العصور البدائية أن يشير إلى الأشياء التي تملأ العالم بواسطة علامات صوتية في البداية ثم بواسطة حروف منقوشة تمثل هذه الأصوات. غير أن الإنسان لا يكتفي بتسمية الأشياء والإشارة إليها بواسطة اللغة، وإنما يبحث عن معنى هذه الأشياء، والمعنى Sens يختلف إختلافا جوهريا عن الدلالة. فهذه الأشياء المحيطة بنا تنضح وتزخر بالمعنى، وهذا المعنى رغم غموضه وصعوبته على الإستقراء فإنه يرجع بالدرجة الأولى إلى الإنسان، المصدر الوحيد لمعنى العالم والأشياء والظواهر. فليس هناك معنى قبلي يسكن نواة الأشياء قبل أن تلتقي بالإنسان، وليس هناك عمليات جيولوجية يقوم بها الإنسان ليكتشف أعماق هذه النواة وليس هناك عملية تقشير أو تعرية أو غوص في أعماق الأشياء كما يدعي الشعراء والمتصوفة. فمعنى الشيء ليس ملتصقا به ولا مدسوسا أو مخبأ في أعماقه خارج الإرادة الواعية للإنسان، فهذه الشجرة أو هذا الكرسي أو هذا الجزء من الشاطيء أو هذا الشارع له معنى بالنسبة إلي إنسان محدد، فهو الذي يزود هذه الأشياء بالمعنى الذي سيكون كينونتها. وربما إتخاذ مثال يتعلق بالأعمال الفنية سيجعل الأمر أكثر وضوحا. ففيما يتعلق بالفنون التشكيلية أو بالذات الموسيقى، والتي في صميمها عمل غير دلالي، عادة ما يتسائل المشاهد أو المستمع عن "معنى" هذه اللوحة أو هذه الصورة أو معنى هذه القطعة الموسيقية، ونتسائل نادرا عن دلالة اللوحة أو السيمفونية، غير أن الفنان أو الناقد أو المشاهد عادة وفي الغالب ما يخلط بين المعنى والدلالة - هذا العمل يعبر عن .. وهذه اللوحة تقول كذا وكذا. فالمعنى هو أن الشيء أو الظاهرة أو الواقعة الحاضرة تشارك بكينونتها كينونة شيء أو ظاهرة أخرى، حاضرة أو غائبة، مرئية أو غير مرئية، أي أنها تمثل وتجسد حقيقة تتجاوزها، ولكننا لا نستطيع الإحاطة بها خارجها أو بمعزل عنها، ولا نستطيع، ولا يمكن التعبير عن هذه الحقيقة بأي نظام لغوي مهما كانت درجة دقته. إن معنى الشيء هو حقيقته التي تتجاوزه لتشمل العالم أو العصر بأكمله، فأي لوحة فنية أو قطعة موسيقية على سبيل المثال، فإنها شيء كلي متكامل لا يمكن فصل معناه عن القطعة ذاتها، ولا " تدل" ولا تعني أي شيء آخر غير ذاتها كقطعة موسيقية. معنى الصورة أو المنظر الطبيعي أو اللوحة أو القطعة الموسيقية هو كينونتها في هذا الزمان والمكان وأمام هذه الأعين التي تشاهدها في هذا الموقف المحدد، ولا تشير إلى أي شيء خارجها. وهذا لا يعني عدم وجود دلالة لبعض الأعمال الفنية، وبالذات الرمزية منها. فعندما نتمعن في لوحة غيرنيكا Guernica لبيكاسو، فإن دلالتها واضحة ومعروفة بسبب الظروف التي رسمت فيها هذه اللوحة وهدف بيكاسو الواضح للتعبير عن موقفه ضد الحرب والعنف والهجوم النازي والفاشي الذي قام بقصف هذه المدينة الصغيرة في بلاد الباسك بالطائرات في ٢٦ أبريل سنة ١٩٣٧ أثناء الثورة الإسبانية. ولنا الإختيار أثناء مشاهدة اللوحة أمام موقفين لا ثالث لهما: إما الدخول في عالم اللوحة بواسطة الخيال، وبالتالي نضع العالم وقوانينه وأحداثه بين قوسين، ليترك المجال لتأمل الخطوط والألوان والأشكال الجمالية والمحاولة بإحاطة كينونة العمل الفني ومعناه العام خارج حدود الإدراك المادي للأشياء. والموقف الآخر هو أن ننظر للوحة كمنشور أو كرسالة مكتوبة بلغة التشكيل اللوني والتي يجب ترجمتها إلى اللغة المتعارف عليها، وفي هذه الحالة تتحول اللوحة إلى رمز أو إشارة "للدلالة" على شيء آخر غير اللوحة ذاتها، مثل الوقوف ضد الحرب ومناهضة العنف أو مساندة الثورة أو الإنسانية إلخ، وتفقد بطريقة ما جزءا من هويتها الفنية والجمالية، ولذلك فإن الأعمال الفنية الكبرى لاتحتمل إمكانية اللجوء إلى الموقف الثاني، ومن هنا جاءت الأعمال الكبيرة للفنون التشكيلية التجريدية إبتداء من مربع ماليفتش.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم