الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اميركا دولة طفيلية تبتز حلفاءها بتجارة -تصدير الامن-

جورج حداد

2020 / 9 / 22
العولمة وتطورات العالم المعاصر


إعداد: جورج حداد*


بنهاية الحرب العالمية الثانية خرجت اميركا الى الساحة الدولية بوصفها اغنى واقوى دولة في العالم، تمسك في يدها المكونات الثلاثة للقوة المالية ـ الاقتصادية ـ العسكرية التي يمكنها بواسطتها فرض سيادتها على الكوكب الارضي:
ـ1ـ الاعتراف بالدولار بوصفه العملة العالمية الرئيسية الوحيدة، والذي بواسطته يمكنها التحكم بالنظام المالي العالمي بمجمله، فقط عن طريق طباعة الدولار الورقي (عديم القيمة بحد ذاته) وتوزيعه الالزامي على دول العالم، والحصول على كل ما تريده الادارة الاميركية من المنتوجات من جميع البلدان قاطبة مقابل قصاصاتها الورقية.
ـ2ـ وضع اليد على مصدر الطاقة الرئيسي وشبه الوحيد حينذاك (اي النفط) وذلك بالهيمنة شبه الكاملة على جميع شركات انتاج ونقل وتوزيع النفط في العالم (باستثناء روسيا).
ـ3ـ كانت الحرب العالمية الثانية اضخم "مشروع تجاري رابح" في التاريخ الاميركي. ومع نهاية الحرب امتلكت اميركا السلاح النووي وبيد اقوى واضخم جيش في التاريخ الانساني العالمي. واذا كانت جميع دول وشعوب العالم، بما فيها الدول الاستعمارية الكلاسيكية، خرجت من الحرب مثخنة بالجراح، مدمرة وضعيفة، بسبب الحرب، وركزت جهودها باتجاه اعادة الاعمار والنهوض من جديد باقتصادها، فإن اميركا خرجت من الحرب بوصفها "خزانة العالم"، وذلك بفضل "بيزنس الحرب" بالذات. ولذلك فهي ـ وعلى عكس جميع دول العالم ـ اتجهت نحو تدعيم وتضخيم وتطوير اداتها الرئيسية لـ"بيزنس الحرب" وهي الجيش والقوات المسلحة الاميركية. وحولت كل اقتصادها ودبلوماسيتها واعلامها وثقافتها الاجتماعية، في خدمة الجيش والقوات المسلحة والسياسة الحربية. ولتبرير هذا النهج الناشز، ومع ان القيادة الاميركية كانت على وفاق تام مع القيادة الستالينية للاتحاد السوفياتي (وهو ما تكرس في اتفاقية يالطا الامبريالية اللصوصية التي وقعها خائن الشيوعية الاكبر يوسف ستالين مع روزفلت وتشرشل)، فإنها ـ اي القيادة الاميركية ـ اطلقت سنة 1946 شرارة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي تحت شعار "الخطر الروسي والشيوعي".
وتحت هذه الحجة تم في نيسان 1949 التوقيع في واشنطن على اتفاقية تأسيس حلف شمالي الاطلسي (الناتو) الذي وضع اوروبا الغربية تحت المظلة العسكرية الاميركية بحجة الحماية من "الخطر الروسي".
وبعد انتصار الثورة الصينية العظيمة ووصول الحزب الشيوعي الى الحكم في البر الصيني في ايلول 1949، وتأسيس جمهورية الصين الشعبية، افتعلت اميركا في حزيران 1950 الحرب الكورية، التي تجندت فيها قوات 18 دولة غربية وموالية للغرب بقيادة اميركا، وذلك من اجل الوقوف ضد الصين الشعبية، ولتبرير حشد القوات الاميركية في الشرق الاقصى لمنع وقوع تايوان واليابان وكوريا الجنوبية في قبضة الصين الشعبية.
على هذه الخلفية الموضوعية، وبالتضافر مع العامل الذاتي المتمثل في هيمنة الطغمة المالية العليا اليهودية على النظام المالي والاقتصاد الاميركيين، كان من المحتم ان تتحول اميركا من دولة رأسمالية ـ انتاجية، الى دولة مالية ـ خدماتية تستورد وتشتري المنتوجات من جميع ارجاء العالم، وبالمقابل تصدّر دولارها الورقي و"تبيع" عسكرها، وتجني الارباح الاسطورية من التحكم بنظام الانتاج والاقتصاد العالميين، والمضاربة بالبورصات وتجارة العقارات في "الجنة الاميركية".
اي ان الدولة الاميركية، المعاد انتاجها بعد الحرب العالمية الثانية، وبفعل هيمنتها الدولارية والنفطية والعسكرية على العالم، والسيطرة اليهودية عليها هي ذاتها، تحولت الى دولة طفيلية تعيش عالة على جميع دول العالم وعلى المجتمع الانساني بأسره.
ولكن آلية الهيمنة الاميركية ـ اليهودية على العالم تعرضت لنكستين كبيرتين:
الاولى ـ التصفية المركبة لزمرة ستالين ـ بيريا في روسيا، التي كانت تعمل بالتنسيق الضمني التام مع الامبريالية ـ اليهودية العالمية، ومن ثم انطلاق نهضة اقتصادية ـ عسكرية كبرى في الاتحاد السوفياتي السابق، خارج نطاق الهيمنة الاميركية، وذلك برغم استمرار وجود البيروقراطية السوفياتية "النيوستالينية"، الموروثة من عهد ستالين، بقيادة المحرّف والخائن نيكيتا خروشوف، الذي حاول في حينه تبرئة البيروقراطية السوفياتية وتحميل ستالين وحده كل الجرائم الفظيعة التي ارتكبت ضد الحزب الشيوعي والجيش الاحمر والشعب الروسي في العقود السابقة قبل وبعد الحرب العالمية الثانية.
والثانية ـ النهضة الكبرى للعملاق الصيني، من خلف اسوار "الستار الحديدي" الذي ضربته الكتلة الامبريالية الغربية على "المعسكر الاشتراكي" السابق.
وأدت ردة الفعل العالمية على هذه التطورات الكبرى الى ثلاث نتائج مصيرية، معرقلة لنظام الهيمنة الاميركية ـ اليهودية على العالم وهي:
ـ أ ـ ظهور "سوق مضاد"، خارج الهيمنة الاميركية، وضدها، وهو ما كان يسمى "السوق الاشتراكي"، على ثلث مساحة الكوكب الارضي. وقد وجه ذلك ضربة مزلزلة للسيطرة المطلقة للدولار الاميركي الذي كانت اميركا تشتري به قطاعات انتاجية كاملة ودولا وبلدانا بأسرها. ومنذ حوالى نصف قرن بدأت السلع الصينية الضرورية الرخيصة تحطم جميع الحواجز الدولارية، وتقتحم جميع اسواق العالم، بما فيها السوق الاميركي ذاته.
ـ ب ـ الانطلاقة الكبرى لقطاع الطاقة (النفط والغاز والطاقة النووية السلمية) في روسيا، ولا سيما بعد ان ازيحت زمرة يلتسين المرتبطة باليهودية العالمية عن السلطة في اليوم الاخير من سنة 1999. ومن ثم دخول روسيا الجديدة (القومية ـ الارثوذوكسية) بقوة في سوق الطاقة العالمي، ليس في آسيا فقط (خصوصا مع الصين، اكبر مستورد للطاقة في العالم)، بل وفي اوروبا كلها بما فيها بلدان اوروبا الغربية التابعة تقليديا لاميركا.
ـ ج ـ انتصار الثورة الاسلامية الايرانية سنة 1979 ، وهو ما نقل ايران ـ بنفطها واطلالها على مضيق هرمز الستراتيجي ـ من دائرة الهيمنة الاميركية الى محور المقاومة ضد هذه الهيمنة. وفي هذا السياق جاء ايضا انتصار هوغو تشافيز في الانتخابات الرئاسية الفينزويلية سنة 1998، حيث خرجت فينزويلا من بيت الطاعة الاميركي، وهي تملك اكبر احتياطي للنفط في النصف الغربي للكرة الارضية.
ان التحكم المطلق، السابق، في "النظام المالي العالمي" المدولر، وفي "سوق النفط العالمي"، المدولر هو ايضا، كان يؤمّن" لاميركا ارباحا خيالية، تسلطية ـ اعتباطية ـ كيفية، لا تدخل في ابسط مبادئ حساب السوق الرأسمالي ذاته، وذلك على حساب جميع بلدان وشعوب العالم، بما فيها حلفاء اميركا.
وقد نتج عن ذلك ظهور جهاز دولة اميركي ضخم جدا ومترهل. كما ساعد اميركا على بناء اجهزة وجيوش عسكرية ومخابراتية جرارة، كما وعلى انفاق مئات مليارات الدولارات على العملاء و"الحلفاء" الاميركيين في كافة ارجاء العالم. وبالاضافة الى مئات الاقمار الاصطناعية للمهمات التجسسية والعسكرية الاخرى، والى القلاع الطائرة التي تحمل الصواريخ النووية وقوات الانزال الجوي والتي تطير حول الكرة الارضية ليلا ونهارا، والى حاملات الطائرات والغواصات النووية والاساطيل الحربية التي تجوب البحار والمحيطات على مدار الساعة، ـ بالاضافة الى ذلك كله امتلكت اميركا 800 قاعدة عسكرية كبيرة ومتوسطة وصغيرة (عدا القواعد السرية التي لا تظهر في الاحصاءات الرسمية ولا في المعلومات الصحفية) في اكثر من 170 بلدا في كافة ارجاء العالم، يتواجد فيها اكثر من 200 الف جندي وضابط اميركي من مختلف الاختصاصات. هذا بالاضافة الى جيش كامل من الجواسيس والقتلة والمخربين والسياسيين ـ عملاء المخابرات. وكل ذلك من اجل الاحتفاظ بالوضع العالمي المهيمن لاميركا، على الدورة المالية والاقتصاد العالميين، وهو الوضع الذي كان يدر عليها الارباح الخيالية.
ولكن بعد ظهور العوامل المعرقلة للهيمنة الاميركية، وهو ما اشرنا اليه آنفا، فإن الارباح الخيالية من الهيمنة الاميركية على النظام المالي وسوق الطاقة، العالميين، بدأت تتضاءل تدريجيا بخط ثابت، متواصل ومتصاعد، الى درجة الاضمحلال.
ولكن الادارة الاميركية التي اعتادت على الانفاق الكثيف على آلتها الدولوية الضخمة، والطغمة المالية الاميركية ـ اليهودية التي اعتادت على جني الارباح الخيالية، لم يكن بامكانهما "التراجع" و"التقشف" والتخلي عن الارباح الخيالية التي اعتادا على الحصول عليها .
ولتعويض "الخسائر" في معدل الارباح السابقة، بدأت الادارة الاميركية تخفض او تلغي اسهاماتها في ميزانيات المنظمات الدولية، كالامم المتحدة والاونيسكو والاونروا ومنظمة الصحة العالمية، كما بدأت الطغمة المالية الاحتكارية الاميركية ـ اليهودية تنفخ في البورصة والبنوك، الى الحد الاقصى، بالون قطاع العقارات، الى ان انفجر في ازمة 2008، فبدأت تطبع المزيد من الدولار الورقي (للسوق الداخلي هذه المرة) وترفع سقف الدين العام للدولة، الذي بلغ مؤخرا رقما فلكيا وصل الى اكثر من عشرين تريليون دولار، اي عشرين الف مليار دولار... بحيث اصبح من الصعب جدا وشبه المستحيل متابعة سياسة طبع الدولار الاميركي الذي لا تغطية له، لا ذهبية ولا طاقوية ولا انتاجية.
وبنتيجة هذا الوضع الازموي اتجهت الادارة الاميركية، ولا سيما في عهد ترامب، نحو تحويل الوجود العسكري والمخابراتي الخارجي من باب "النفقات" الى باب "المداخيل" الاميركية. اي بكلمات اخرى، بعد ان كانت اميركا تنفق على وجودها العسكري والمخابراتي في الخارج، من اجل الاحتفاظ بهيمنتها السابقة على الاسواق المالية والطاقوية، اخذت تطالب حلفاءها ومحمييها ـ وبوقاحة متزايدة ـ بأن يدفعوا ثمن "حمايتها" لهم، على قاعدة تجارة "تصدير الامن"، على مثال "تصدير اليد العاملة". وفي هذا السياق ضغطت ادارة ترامب على القيادة السعودية لدفع مئات مليارات الدولارات مقابل "الحماية" التي تقدمها اميركا لاستمرار وجود النظام السعودي. وقال ترامب للصحافة انه بدون الحماية الاميركية فإن النظام السعودي سيسقط في مدة اسبوعين.
وبالمثل اخذت الادارة الاميركية تضغط على حلفائها في الحلف الاطلسي واليابان وكوريا الجنوبية، لكي يزيدوا ميزانياتهم الحربية ويدفعوا لاميركا ثمن وجود القواعد والقوات الاميركية على اراضيهم، لـ"حمايتهم" من الخطر الروسي المزعوم(!).
وعلى هذه الخلفية اخذت تبرز مشكلة كبيرة بين اميركا وحلفائها، ناتجة عن الاشكالية التالية: اذا كانت اميركا تريد ان تقبض من حلفائها ثمن وجودها وخدماتها العسكرية والامنية تحت عنوان "تصدير الامن" لتلك البلدان، فهذا يعني ان قواتها في الخارج تتحول عمليا الى قوات "مرتزقة" تدخل في خدمة تلك البلدان. وفي هذه الحالة فإن المنطق، المنطلق من جميع مبادئ "الاقتصاد الحر" او "اقتصاد السوق" الرأسمالي ـ "الدمقراطي" ذاته، ـ هذا المنطق يقتضي ان يكون "المرتزقة" في خدمة وتحت امرة "المستأجرين"، اي حلفاء اميركا، وليس تحت امرة "المؤجر"، اي الدولة الاميركية.
ان هذه الاشكالية بالذات بدأت تتحول الى نقطة تجاذب وتفجّر الازمات بين اميركا وحلفائها في السنوات القادمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص