الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن/ 1

دلور ميقري

2020 / 9 / 23
الادب والفن


" جلال "، كان من أبناء الحي، الذين تواجدوا في الجزيرة بحكم الوظيفة أو الاستثمار. كانت قديمة معرفة جمّو به، تعود إلى بداية نشاطه في النوادي القومية في دمشق. ثم توثقت إبّان الحقبة، التي عملا فيها بالمنطقة في خلال حكم الإدارة الفرنسية، المُنتدبة. إذ لم تستمرّ خدمة جمّو في الجزيرة لأكثر من عامَيْن، فإنّ الآخرَ بقيَ في بلدة عامودا بصفة رئيس مخفر الشرطة؛ ثمّة، أين سيقضي أحدُ أولادِهِ في مأساة حريق السينما عند مفتتح الستينات. ابن عمّه، بكري بك، كان في أواخر ثلاثينات القرن الماضي برتبة ملازم أول ورئيساً لمكتب مصلحة العشائر في مدينة الحسكة. مثلما سبقَ وذكرنا أكثر من مرّة، أن زوجة هذا الضابط، بديعة، هيَ أخت جمّو بالرضاع. فلا غروَ، إذن، أن تتعزز صلته بمعلمه خلال خدمته في تلك المنطقة كعسكريّ مُحترف.
في ألبوم العائلة، كانت إحدى صوَر جمّو، النادرة، تظهرُهُ وهوَ في الملابس العسكرية، المُميّزة لما نعرفه اليوم عن سلاح الهجانة. هذه الصورة، تعود ولا رَيْب لفترة وجوده في الحسكة. أما صوَره الأخرى، العائدة للحقبة تلك، فإنها مأخوذة في الشام خلال خدمته في ما كان يُعرف بـ " الفوج الكرديّ " التابع لجيش الشرق، الفرنسيّ، المكوّن أساساً من المنتمين للإثنيات العرقية والمذهبية. إن مذكرات السياسيّ المُخضرَم، " خالد العظم "، تفيدنا بكون الفوج قد بقيَ تحت قيادة الزعيم بكري بك حتى نهاية الأربعينات. فيما بعد، سيتمّ تعيين الرجل كرئيس للمكتب الثاني ( جهاز الاستخبارات ) في عهد " أديب الشيشكلي ". إثرَ سقوط هذا الأخير، أوفِدَ الزعيمُ بكري إلى موسكو لكي يشغلَ منصب الملحق العسكريّ في السفارة السورية.

***
معلّم جمّو، نجحَ في كسب ثقة أهالي المنطقة وحلّ الخلافات الطارئة بين عشائرهم، وذلك لما كان يتسِمُ به من بساطة وتواضع ونزاهة وكرم. بيْدَ أن خصلة واحدة، حَسْب، عليها كان أن تثلمَ شخصيّته: إدمان المقامرة. فما أن يَحلّ المساءُ، حتى يتوافدَ رفاق المائدة الخضراء إلى منزله، وكان أغلبهم من زملائه الضباط والإداريين. جمّو، وبالرغم من كونه حَدَث السنّ ومن مراتب العسكريين الصغرى، إلا أنه كان يحاول دوماً الحيلولة بين المعلّم وأولئك الضيوف، المَشبوهين. " يا جمّو.. "، يُخاطبه الآمرُ بنبرَة عتاب، مستطرداً: " إنك تطرُد أصدقائي، في كلّ مرةٍ تشرّفنا بحضوركَ، على مَرأى ومَسمع مني ". إذاك، يكون العسكريّ الشاب قد فتحَ باب الدار بنفسه، لكي يُخبر الضيفَ القادم بأن بكري بك غير موجودٍ. هكذا تصرّفٍ، أخرق نوعاً، كان مع ذلك يُسعد امرأة الضابط.
من جهته، فإنّ جمّو ابتليّ بدَوره بنوع آخر من الإدمان؛ ألا وهوَ التدخين. إذ توفّرت دوماً أكداسٌ من علب السجائر، المهرّبة، والتي كان يتمّ مصادرتها بكثافة على حدود العراق وتركيا من لدن أفراد الفوج. حتى بعد عقودٍ طويلة من تركهِ عادة التدخين، بقيَ جمّو يتعذبُ حلقه بالبلغم الناتج عن النيكوتين السام. من ناحية أخرى، فقد كانت بعضُ الشحنات تلك، المُصادرة، تجدُ طريقها إلى معارف جمّو، وعلى سبيل الهديّة. أكثر هؤلاء كانوا من بلدة عامودا؛ ثمّة، أين قاموا بتأسيس نادٍ للثقافة الكردية تيّمناً بالنادي الأمّ، الذي وُجِدَ آنذاك في الحيّ الدمشقيّ، وذلك بفضل جهود الأمير " جلادت بدرخان ". هذا العلامة، المُتنوّرُ، سبق له في عام مَضى أن أوصى صديقه، الكولونيلَ الفرنسيّ، حينما قدّمَ له أحدَ تلامذته من المنتسبين حديثاُ لجيش الشرق.

***
" إنّ جمّو هوَ من الشبان المثقفين، النادرين، الذين أفتخرُ بهم في الشام "
قال الأميرُ لصديقه، الفرنسيّ، الذي كان هوَ بنفسه من المهتمين باللغات الشرقية وآدابها. بعد نحو نصف قرن، حينما وقعَ بصرُ جمّو على كتاب من تأليف أحد الباحثين الفرنسيين، فإنه تعرّف في الحال على صورة صاحبها، القديمة: " هذا الضابط كان قائداً لفوجنا، وكان يُجيد الكردية بشكل مُدهش "، قالها يومئذٍ لابنه ثمّ أعقبَ مُتنهّداً فيما عيناه تفصحان عن مدى تأثره بالذكرى. ذلك الكولونيل، كان قد تدخل ذات مرّة لفضّ مشادةٍ عنيفة جدَّت بين عسكريَيْن من مرؤوسيه: " كرّوْ.. " ( أيْ: يا أولاد )، توجّه إليهما مؤنباً وناصحاً بلغةٍ كردية، سليمة: " عليكم أن تكونوا يداً واحدة على العدوّ لا ضدّ بعضكم البعض ".
جمّو، وَجَدَ خدمَته في الجزيرة كسانحةٍ، مناسبة، للإسهام في النشاط الثقافي، وخصوصاً في بلدة عامودا. إلى هناك، كان قد توجّه مع اثنين من أصدقائه، الدمشقيين، ممن أرسلهم الأمير جلادت بك كمدرّسين للغة الكردية قراءة وكتابة. ثمّة، توطدَت إذن صِلة جمّو ببعض الشبان المتنوّرين، الذين تعرّف إليهم سواءً خلال خدمته العسكرية أو نشاطاته القومية. " سيدا شمس الدين "، كان أحدَ أولئك الأصدقاء، وقد بقيَ جمّو على اتصال معه حتى زمن متأخر من حياته. حينما اعتقل في مبتدأ السبعينات ابنُ الرجل، وكان محامياً، فإن والده هُرع إلى الشام لزيارة صديقه القديم. بين آونةٍ وأخرى، اعتاد منزل هذا الأخير على حضور " سيدا "، الرّجل المُسن والمُهيب الطلعة، حينما كان يأتي إلى الشام لإيجاد طريقةٍ لمقابلة ابنه، المعتقل السياسيّ. آنذاك، مضى به جمّو لمقابلة أحد وجهاء القسم الغربيّ من الحي، المعروف بعلاقته الوثيقة مع رأس النظام، وذلك بغيَة الوساطة له.

* الرواية الأخيرة من خماسية " اسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا