الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكون الواسع والعقول الضيّقة 21

مؤيد الحسيني العابد
أكاديمي وكاتب وباحث

(Moayad Alabed)

2020 / 9 / 23
الطب , والعلوم


لقد تحدّثت في الحلقة السّابقة عن الصّفر المطلق ومادونه! وعن الطّاقة المظلمة والجّسيمات المعقّدة الشاذّة والتي يمكن لها أن تحتوي على الزّمن المحتمل. وفي حالة توسّع الكون تزداد المواد والطّاقات المظلمة (جمع طاقة! وهل هناك أكثر من نوع من الطّاقات المظلمة كي نجمعها؟ الجواب ببساطة، نعم!). والكون إن توسّع أو إنكمش يهمّني فيه فقط الزّمن واللازمن وهو محور موضوعي الأساس منذ الحلقة الأولى! لكنّ الذي يهمّني كذلك، تلك الحلقات التي أستطيع من خلالها أن أربطها أو من خلالها يتمّ الرّبط مع أمور مهمّة أخرى تصبّ في خانة المطلوب من البحث. الطّاقة المظلمة وإتّصالها بالفراغ مهمّ جداً حينما أتطرّق إلى الزّمن واللازمن. لأنّ الفراغ الذي أتحدّث عنه ليس هذا الفراغ الذي يعنيه الفلاسفة، بل هو الفراغ الفيزيائيّ الذي يتمتّع بمواصفات نستطيع من خلالها أن نميّز به ومن خلاله الكون أو جزءاً منه، وكذلك نميّز الطّاقة الموجودة في الفراغ. وهذه الطّاقة قويّة بشكل كبير، وكلّما يتحرّك الزّمن تزداد قوّة. عجيب! وما معنى هذا؟
ما هو الفراغ!
من المهمّ جداً تحديد ما إذا كان للفراغ أهميّة في بحثنا عن الزّمن بالفعل؟! ذكرنا الفراغ في مواضع عديدة ولكنّ السؤال، مامعنى الفراغ؟
لقد حيّر معنى الفراغ الفلاسفة وعلماء الفيزياء على حدّ سواء، كلّ له أدواته في البحث. ولكنّ الحقيقة يمكن أن نقولها بالشكل الصريح! إنّ للفيزيائيّين الباع الطويل في تسليط الضّوء على أشياء كثيرة لها صلة وثيقة بالفراغ. لذلك نلاحظ أنّ الفلاسفة بلا تعب، حوّلوا الكثير مما يكتنف هذا المسكين إلى الفيزياء وليس إلى الفلسفة. وقد ذكر ذلك إيمانويل كانت كفيلسوف(1)، عن الفراغ على أنّه (موضوع لا ينبغي تركه إلى التكهّنات الفلسفيّة والعقلانيّة). لكن يجب أن تعطى الفيزياء المجال لشرح وتحليل الفراغ. والفراغ كما يراه الفيزيائيّون، إنه تشكيل يمثّل جزءاً من عمليّة مستمرّة لخلق المادّة وفنائها. أي أنّ الفراغ له الأهميّة في خَلْق المادّة وتحديدها. والفراغ في نظر علماء الذرّة والجّسيمات الدّقيقة، أنّ الفراغ موجود بل هو مبدأ لوجود الأشياء كذلك. ويرتبط بما نطلق عليه بالإمتلاء (يمكن أن يكون عكس الفراغ، ويمكن أن يكون الإمتلاء إمتلاءً إفتراضيّاً). والفراغ هو شرط لحدث محتمل للحركة الذريّة. كما يقول جيانروكو توجي من جامعة روما (2) والفراغ في الحقيقة موجود بدليل أيّ حركة أو أيّ ضغط أو فعل ديناميكيّ، بإعتبار أن لا يمكن للحركة أن تكون، مالم يكن للفراغ وجود تتسلّل من خلاله الجّزيئات أو الموجات. فَبِلا فراغ لا يمكن للحركة أن تكون. ولا يهمّ إن كان الفراغ ما بين الجّزيئات أو خارج نطاق جسم ما أو غير ذلك. لذلك يطلق فيثاغورس عليه بالمبدأ الوجوديّ للكيانات أو للأجسام. ويمكن أن نتحدّث عن الفراغ قليلاً لأهميّته. ففي التطوّر الحديث في علم الكروموديناميكا الكموميّة أظهر لنا عن طريق الحاسوب العملاق والذي يقوم بحساب المسائل الدّقيقة الكثير،عن طريق هذا العلم. فلدراسة نظريّة الجّسيمات الأساسيّة التي تتطرّق إلى الكواركات وكيفيّة تفاعلها مع بعضها البعض من خلال الغلوونات وتسليط الضّوء على كثافة الطّاقة للتغيّرات التي تحدث في حقل أو مجال الغلوون، سنلاحظ بقعاً من لون أحمر تخرج وكثافة عالية جدّاً، ما يلبث أن يختفي هذا اللون الأحمر إلى الأسفل من خلال الألوان. لكن الملاحظ من خلال العمل الرقميّ، كما يقول البروفسور ديريك لوينيبر من جامعة أديلايد (3) (الطّاقة في أدنى مستوياتها وتقلباتها في المجال لا تتقدم في هذه الرسوم المتحرّكة حتّى نتمكّن من رؤية ذلك فعلاً ) يقصد ما يظهر في الحركة التي تظهر في الحاسوب الفائق الذي يعمل من خلاله. إذا أراد المهتمّ فليذهب إلى العنوان ويلاحظ كيف تكون الحركة والعلاقة مع الطّاقة!علماً أنّ معدّل الإطار من هذه المحاكاة الحاسوبيّة بلغت مليار بليون بليون لقطة في الثانية الواحدة! وهي سرعة فائقة إلى الدّرجة التي يمكن أن تؤدّي إلى دراسة أقرب إلى الواقع من التصوّر، لما لهذه الدقّة من أهميّة على المستويات الفاعلة والمتوفّرة حالياً. في الفجوات التي يطلق عليها بالفراغات هي في الحقيقة محاكاة لفراغ ذاتياً. والفراغ هنا في الواقع ممتليء بتقلّبات الطّاقة لمجال أو لحقل كوارك وغلوون كما يقول البروفسور المذكور. ويقول: (في المتوسّط من الممكن القضاء على كوارك المساحة الفارغة والسبب لأنّها ليست فارغة). والحقيقة وفق التصوّر الذي يتحدّث عنه البروفسور أن لا فراغ بالمعنى الذي كان يقصده من خلال تصوّره عن مسمّاه هو! ولكنّه يتحدث عن الفراغ في أدنى حالات الطّاقة والذي يجب أن يحتوي على كلّ الأشياء التي يتصوّرها. فلإزالة التقلّبات سيظهر لنا الفراغ بخواصّ أخرى غير ذلك الذي يتحدّث عنه. لأنّ الفراغ الذي يشار إليه هو الفراغ الذي يحتاج إلى كثير من الطّاقة، لكنّه موجود بالفعل كما يقول البروفسور لكنّه يكلّف كميّة هائلة من الطّاقة لصنعه أو إيجاده. لكنّ إن أردت الحصول عليه فيجب أن تفكّر في الظّروف التي يجب توفّرها لإيجاده (إنتبه! الموجود هنا هو من الناحية الفيزيائيّة وليس من الناحية الفلسفيّة كما أشرت سابقاً وإلّا كيف له أن يكون فراغاً مجرّداً يشبه العدم وهو موجود!)، من خلال الإضطرابات أو غيرها، ويمكن أن يكون فراغاً تامّاً، ويمكن أن يكون جزئيّاً كذلك. ولا تنسَ رعاك المولى، الحديث هنا عن تقلّبات وإضطرابات وفق المجال الكميّ وليس الكلاسيكيّ. وهذا الفراغ الكميّ من الناحية الفيزيائيّة هو فراغ بعدم وجود الجّسيمات أو الأشياء كما يصوّرها في العنوان أعلاه المتحدّث: (تأمّل مغناطيساً دائميّاً له المجال المغناطيسيّ والذي تتوفّر فيه طاقة منخفضة في درجة حرارة الغرفة. ولا يرجع ذلك إلى اللحظات الفرديّة القليلة للمغناطيس والتي تصطفّ جميع ذرّاتها في الدّاخل، فإذا قمتَ بتسخينها سوف تعطي الطّاقة الحراريّة لجميع تلك الجّسيمات، وعند نقطة معيّنة تسمّى درجة حرارة كوري ستكون بمحاذاة ذلك بشكل عشوائيّ. ولن يكون هناك مجال مغناطيسيّ عموماً. لذا فعلاً يأخذ الطّاقة للتخلّص من المجال المغناطيسيّ الدّائم. هذا هو الفراغ الكميّ). إذا كانت الجّسيمات تتحرّك، فكيف بها تتحرّك بدون هذا الفراغ الكميّ؟ الجواب تتخلّق في أعلى الرّسم كما واضحة وتأتي إلى الوجود بسرعة وتتحرّك ضمن هذه الظّروف التي ذكرت. الحديث أصبح كلّه عن فراغ بمواصفات معيّنة وفق تقلّبات فراغيّة ضروريّة لوجود الأشياء.
عجيب! حين الحديث عن الفراغ يجب الحديث عن شيء غير العدم أو غير الفراغ الذي يكون بمواصفات معيّنة. من الصعب اللعب على الكلمات حين الحديث عن العلم أو به! فالحديث الذي أريد أن أشير إليه ومن خلاله إلى أنّ الحديث عن بعض المسميّات يحتاج إلى ذهنٍ (ليس كذهنِ من يضحك عليهم ساسون ويلعب بهم ككرات البليارد حسب الأرقام، وفي أيّ حفرة يسقطهم!) نيّر متفتّح على العلوم وعلى الفلسفة وعلى ما في الغيب من أسرار عجيبة! كيف؟
إنّ الحديث عن الفراغ يكون مرتبطاً بالحديث عن الطّاقة المظلمة وبالتّالي عن مكنوناتها. ففي الطّاقة المظلمة العجائب التي لا يمكن أن تصل إليها بدون التبحّر أوّلا فيما يمكن أن يكون إفتراضاً قسريّاً إن صحّ التعبير. إذا أردنا الحديث عن تلك الطّاقة فليس بالضّرورة أن تكون الدّراسة وفق التصوّرات المتوفّرة عندنا من قاعدة عدم اليقين لهايزنبرغ أو دراسة معادلة شرودنغر. لكن بالضّرورة التعامل مع تلك الطّاقة بما ينتج عنها لتحديدها على الأقل من هذا الذي نحصل عليه ناتجاً. عندما أتحدّث عن طاقة الفراغ فالحديث سيكون عن طاقة فراغ في المنطقة المظلمة وحينما أتحدّث عن طاقة المنطقة المظلمة ليس بالضّرورة أن تكون طاقة فراغ! فتلك الطّاقة في منطقة تتوزّع فيها صفات متعدّدة لمناطق مختلفة في المواصفات المعروفة! فطاقة الفراغ هي طاقة خلفيّة توجد في الفضاء في جميع أنحاء الكون ومن ضمن ذلك المنطقة أو الفضاء المظلم أو المادّة المظلمة. لكن هنا، في الكون كلّه خاصّة المدرَك منه يمكن أن نطبّق مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ لكن في المنطقة المظلمة ليس بالضّرورة! لأنّنا لا نستطيع تحديد التأثير الدّقيق لوجود مادّة أو جسيم ما في المنطقة المذكورة أو وجود طاقة ناشئة أو مخلّقة منها. بل ولا يمكن أن نحدّد الزّمن (أو غيره!) لكنّ الشيء المهمّ عندي أن يكون هناك زمن ما أو لازمن في المنطقة المذكورة، إن وجد الفراغ أو لم يكن موجوداً. وعندي مهمّ أن أحدّد مكان الصّفر الوجوديّ لا الصّفر الرّياضيّ! لأنّ الصّفر الوجوديّ الفيزيائيّ يمكن من خلاله أن أتحدّث عن زمن صفريّ،أي اللاحدث وبالتالي يمكن أن أتحدّث عمّا قبل الحدث فنطلق على ذلك المسمّى اللازمن. النقطة الصفريّة هنا هي تلك النقطة المتعلّقة بالفراغ الكميّ وبالتالي يمكن أن أقول الزّمن الكميّ أو اللازمن الكميّ! لا تستغرب! سترى!
لقد قلنا في الحلقة الماضية (إنّ الطّاقة المظلمة هي نوع من الطّاقة المتّصلة بالفضاء الفارغ. وهذه الطّاقة قويّة إلى درجة لا يمكن مقارنتها مع أيّ شيء قويّ وكلّما مضى الزّمن تزداد قوّة. أي أنّ الفضاء الفارغ لديه أكثر قوّة من أيّ شيء في الكون. ولو هناك من الأفكار العجيبة التي تزيد الّلبس، هو أنّ الطّاقة المظلمة ليست شيئاً، بل هي خاصيّة للفضاء!والفضاء الفارغ له طاقته الخاصّة به، ويمكنه أن يكوّن المزيد من الفضاء بإعتباره فعّالا ونشطاً (بل وله زمنه الخاصّ به! بل وله ذلك اللازمن في حالته لكن ما قبل تكوينه!). وأكرّر أنّ الحديث عن هذا الفراغ هو الحديث عن الفراغ الفيزيائيّ الكميّ. وفي هذا الفراغ نبحث عن الزّمن المجرّد بظروف معيّنة، منها الذي ذكرتها سابقاً وهي درجة الحرارة السالبة. وهي واضحة المعنى من خلال أمثلة عديدة.
(راجع الحلقة الثامنة وما قبلها حول ما تضمّنته فيما يخصّ الفراغ!).
لا شكّ عندي ما للنسبيّة العامّة من تعقيد على المستويين الفيزيائيّ والرياضيّ، كما أكّد ذلك التعقيد هوكينغ. ومن تعقيداتها أنّها غير قابلة للتّطبيق المعمليّ. لكنّني أعتبر النسبيّة العامّة من أهمّ النظريات في دغدغة العلاقة ما بين العلم والفلسفة والغيب الذي لا يمكن للعقل الإنسانيّ أن يغفله! لا تستغرب فالغيب له إرتباط كبير بالزّمن واللازمن ومنه وبه نستطيع أن نصل إلى نتائج كبيرة في أمور كثيرة. ولا تستغرب إذا قلتُ لك أنّ جزءاً مهمّاً من الغيب هو ذلك الذي يرتبط بالزّمن الداخليّ!(وسأشير إلى ما يمكن أن أشير إليه حول الزّمن الداخليّ عند حالة الموت في بعض التعبيرات المهمّة التي لا يُستغنى عنها حين الحديث عن هذا الزّمن، بل ويمكن أن يكون ما يوصف ببعض الإشارات إلى اللازمن كذلك!) الذي أشرتُ إليه كثيراً وسأبقى أشير إليه إلى أن أصلَ إلى ما أريد الوصول إليه من تعريف للأخوَينِ المتناقضينِ والمتصالِحَيْن في آن واحد: الزّمن واللازمن!
لقد إرتبط معنى الزّمن في النسبيّة العامّة بأشياء كثيرة لو تمعّنت به (أي الزّمن) ليس بالمكان لوحده. لكنّ الذي ينفع هنا، هو هذه المشاهدات الكثيرة التي لوحظت من الأجرام والجّسيمات التي تحمل مواصفات لا يمكن تفسيرها إلّا بالنسبيّة العامّة في بعض فروعها. حيث الحديث عن الثّقب الأسود مهمّ حتى في أطرٍ تتعلّق بما حوله من أجرام تتهيّأ إلى أن تكون ثقباً أسوداً.
لقد تحدّث بعض أهل الفلسفة عن الزّمن بأسلوب مستغرَقٍ في الفلسفة كما هو العلّامة الملّا صدر الدين الشّيرازي بقوله:(يبدأ إثبات وجود الزّمان على أساس دليلين، دليل طبيعيّ بحسب الطبيعيّين، وهو دليل التّقدير الذي أوردناه عند إبن سينا، ودليل إلهي بحسب الإلهيين، وسنوردهما في معالجة أدلّة القائلين بوجود الزّمان) ويقول:(يبيّن أنّ طبيعة الزّمان هي أنّه لقبوله الزّيادة والنّقصان فهو كمّ ولكونه متّصلاً فهو كميّة متّصلة) ويقول:(فهو أي الزّمن إمّا جوهر أو عَرَض فإن كان جوهراً فلإشتماله على الحدوث التجدّديّ. لا يمكن أن يكون مفارقاً عن المادّة والقوّة الإمكانيّة، فهو إمّا مقدار جوهريّ ماديّ غير ثابت الهويّة بل متجدّد الحقيقة، أو مقدار تجدّده وعدم قراره، وبالجملة الزّمان إمّا مقدار حركة أو ذو حركة ذاتيّة يتقدّر به في جهة إتّصاله، ويتعدّد به من جهة إنقسامه الوهميّ إلى متقدّم ومتأخّر، فهو متّصل من جهة ومتجدّد وله إنقضاء، ومن جهة وجوده ودوامِهِ يحتاج إلى فاعل يديمه، ومن جهة حدوثه وإنصرامِهِ يحتاج إلى قابل يقبل إمكانه ويكون لا محالة جسماً، أي ذلك القابل وفاعله هو نفس الكليّة وقابله هو الفلك وكلاهما يجب أن يكون له تجدّد وتصرّم(4)
لاحظ (الزّمان إمّا مقدار حركة أو ذو حركة ذاتيّة يتقدّر في جهة إتّصاله...). الغريب في قول الملّا صدرا فيه الكثير مما يثار ويثير! فقد إلتبس الأمر عليه في قول (الزّمان إمّا مقدار حركة!) أين الزّمان من الحركة؟! (لا إعتداء على ذكراه فهو عبقريّ بمعنى الكلمة! إلّا أنّ له رأيه) ولقد شرحتُ ذلك في حلقات عن البعد أو الفرق ما بين الحركة والزّمان. لذلك لا أريد أن أعود إلى نفس الموضوع، إلّا أنّني أقول أنّ بعض أهل الفلسفة كذلك توهّموا ما بين التّعبير عن التغيّر في الحوادث ومرور الزّمن عليها بإعتبار قياسه من خلال الحوادث. وأنا أتحدّث عن ذات الزّمن كما قلت. وقد أثرتُ هذا الموضوع هنا كي لا أُسأل من قبل المتخصّص في الفلسفة عن هذا الأمر بإتّجاه المعنى الفيزيائيّ، حيث سيكون هناك فرق واضح ما بين ما يفكّر به بعضهم وما بين ما نفكّر به كفيزيائيّين. لذا وجب التّنويه. ليس فقط الملّا صدرا بل كذلك أشار إلى نفس المعنى تقريباً إبن سينا، حيث يقول:(وأمّا الزّمان فهو مقدار للحركة إلّا أنّه ليس له وضع إذ لا توجد أجزاؤه معاً وإن كان له إتّصال، إذ ماضيه ومستقبله يتّحدان بطرف هو الآن وأمّا العدد فهو بالحقيقة الكمّ المنفصل)(5). فلا أزيد على ذلك! إلّا شيئاً واحداً، وهو ما أطلق عليه الملّا صدرا، بالجّوهر، هو ذلك الذي أبحث عنه من جهة الزّمن، أي جوهره حيث يقول: (الجّوهر فهو الماهيّة المستقلّة مفهوماً ووجوداً). و(يكون الجّوهر هو الجّسم. والجّسم ذو معنى مستقلّ ولا يحتاج في وجوده إلى الحلول في غيره إذ هو مستقلّ بذاته)(6).
نعود إلى الفراغ!
هل هناك بالفعل فراغ كاذب؟!
عندما يتحدّث المرء عن المسمّيات يتيه فيها إلّا من خلال النّظام فيستطيع أن يجوب به الأمواج العاتية بلا خوفٍ أو تردّد!
عندما نتحدّث عن نظريّة الأوتار يكون من المهمّ التطرّق إلى ذلك الفراغ الكاذب. فقد أشرنا إلى أنّ الفراغ، كمّ له من الإرتباط بالطّاقة المظلمة والحجم أو الفضاء المظلم، ولكن لم نتحدّث عن الفراغ الذي ينشأ بتأثيرات محلّيّة وضعيّة مرتبطة بهذا الوجود الغريب أو المجهول بالكثير من تفاصيله. ولا نبالغ إذا قلنا أنّ العالم المجهول لا ينفعنا بحدّ ذاته إن كان مجهولًا، لكن ما يمكننا الإفادة منه عندما نضع برنامجاً للتعامل معه على أساسٍ معيّن. والمشكلة الكبيرة التي تصاحب الأبحاث العلميّة هي بعض التساؤلات المهمّة المتعلقة بهذا الفضاء الغريب! هل هناك المزيد من الأكوان المتعدّدة؟ أي بمعنى، هل أن تعدّد الأكوان هو (أي التعدّد) ظاهرة من الظّواهر التي تصاحب الوجود؟ وإن كان نعم، فكيف لنا أن نتصرّف بهذا التسلسل من الأكوان التي بلا شكّ ستؤثّر في كوننا إجمالاً. بل وربّما تتحكّم بالكثير من تفاصيل مصيره! يوضّح جوناثان برادين ، عالم الكونيّات في جامعة يونيفيرسي كوليدج لندن: (تخيّل أنّك تذهب إلى نطاق واسع جدًا - أكبر بكثير من كوننا الحاليّ الذي يمكن ملاحظته، في حين أنّ كوننا متجانس ومتشابه تقريبًا في كلّ مكان ، فإن إلتقاط مثل هذه النظرة الكبيرة قد يكشف أنّه مجرّد جيب صغير بمعْلَماته (بارامتراته) وقوانينه المادّيّة الخاصّة به ، مختلفة عن الأكوان المتعدّدة الأكبر)(7). هنا يجب أن ننتبه إلى ما يقوله حول إمكانيّة أن يكون الوضع الكونيّ متعدّداً، لكنّنا لا يمكن أن نخمّن ما إذا كان تعدّد الأكوان يُنتج من ضمن ما يُنتج فراغاً، يمكن أن يتضمّن زمناً أو لا زمن! حيث الفراغ عموماً يمكن أن يتضمّن ما ذكرناه سابقاً. حيث قلنا أنّ هذا الفراغ إن وجد ربّما يكون قد إحتوى أو إمتلأ بالجّسيمات الإفتراضيّة التي لا تمثّل شيئاً (لا تستغرب من كلمة الإفتراض فهذا لا يعني عدم وجودها إنّما إحتماليّة وجودها!) ولو أنّ المعيب في الأمر هو التناقض الواسع مع مبدأ المادّة لا تفنى ولا تُستحدث! لأنّ المادّة هنا تفنى وتُستحدث فلا تستغرب! حيث يمكن لهذه الجّسيمات أن توجد من لا شيء وتنتهي إلى لا شيء! حيث تمثّل هذه الجّسيمات خاصّيّة من خواصّ المنطقة المظلمة أو الطّاقة المظلمة أو ربّما تكون هذه الطّاقة عبارة عن مادّة من نوع من أنواعها الأربعة المعروفة (أو ربّما بصفة أو بنوع آخر غير تلك! لا تتعجّب!) وفي تلك الحالة لا نمتلك الإمكانيّات في الكشف عن هذه الجّسيمات أو الطّاقة أو المادّة بهذه المواصفات. بل لا نمتلك كيفيّة التّعامل معها بسبب عدم تمييز صفاتها مع أيّ ظروف تتكيّف بها أو لها أو معها،كي يقوم الباحث بتهيئة أدواته لدراستها. رغم أنّنا نمتلك المعلومات الرياضيّة التي تنسجم مع هذا الوضع على شكل نظريّات مرّة وفرضيّات مرّة أخرى عن المادّة المظلمة والطّاقة المظلمة وغير ذلك من المجهولات!

من مواصفات الفراغ الكاذب المذكور أنّه إفتراضيّ غير واقعيّ بالمعنى العلميّ المتعارف عليه. وهو إفتراضيّ قد فرضته ظروف نظريّة المجال الكمّي. ومن صفاته أنّه مستقرّ بإحتمالين: إمّا أن يبقى على حالة الإستقرار القصير أو يتحوّل إلى حالة جديدة يكون فيها إستقراره لفترة أطول من السّابق. وحالة التفسير لهذا الوضع لهذا الفراغ بإحتماليّة، هو تفسير يطلق عليه بتفسير الفقاعة. أي أنّ فقاعة من الوجود قد تنشأ، ما تلبث أن تتمدّد على حساب المحيط. ومن صفات الفراغ الكاذب أيضاً هو وجود الطّاقة بمقدار قليل بل بحدّها الأدنى. ووجود هذه الطّاقة وإن كان بالحدّ الأدنى فإنّها تجعل هذا الفراغ غير مستقرّ. بينما في الفراغ الحقيقيّ تكون الطّاقة بهذه المواصفات والمقدار القليل المذكور كافية كي يكون الفراغ مستقرّاً. وكما ذكرنا سابقا على أنّ الفراغ المذكور ليس فراغاً فلسفيّاً بل فراغ كمّيّ أو كموميّ. وأين الزّمن من هذا؟
الزّمن له طبيعته وله وجوده الذي إمّا أن يكون مرتبطاً بالمكان (الفراغ هنا) أو لا علاقة له بالمكان (أي بالفراغ) وهو ذلك الذي نبحث عنه. أي ذلك الزّمن الذي لا تربطه بالمكان أيّ رابطة إن وُجِد في الفراغ الكاذب أو في الفراغ الحقيقيّ أو في المحتوى أو الإمتلاء وغير ذلك. الزّمن الذاتيّ إلّا من ذلك الزّمن الذي عبّرنا عنه بالزّمن الداخليّ أي الزّمن بحدوث حادثة داخليّة كما في الأحلام أو الرّؤى أو في عالم مابعد الحياة! وسأحاول التطرّق إلى زمن ما بعد الحياة بصورة معيّنة إن شاء الله.
ولنا عودة
مؤيد الحسيني العابد
Moayad Al-Abed


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)
فيلسوف ألمانيّ ولد عام 1724 وتوفي عام 1804 هو أحد الفلاسفة الذين كتبوا في النظرية المعرفية أو نظرية المعرفة. وله حقول عمل في مجالات عديدة منها التأريخ والدين وغيرها.
(2)
Gianrocco Tucci in Sapienza University of Rome
أنظر:
https://www.researchgate.net/post/Why_is_vacuum_to_be_analyzed_rationally_by_physics_and_not_philosophy
(3)
https://www.youtube.com/watch?v=J3xLuZNKhlY
(4)
الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة. الحكيم الالهي والفيلسوف الرباني صدر الدين محمد الشيرازي،الفصل 31 ـ دار إحياء التراث العربي بيروت ـ لبنان
(5)
كتاب النجاة في الحكمة المنطقيّة والطبيعة الإلهيّة. الشيخ الرئيس الحسين أبو عليّ بن سينا، مطبعة السعادة 2017
(6)
المصدر السّابق
(7)
SCIENTIFIC AMERICAN، special collection`s edition A matter of time. V.27، number 2








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بظل شح المساعدات.. مبادرة لتوفير مياه الشرب في رفح


.. تعمير - خالد محمود يوضح كيف سيتم الربط بين المنطقة الصناعية




.. غارة إسرائيلية في محيط منطقة الصناعية بمدينة غزة تخلف شهداء


.. سخرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي بعد الردّ الإسرائيلي




.. أنفلونزا الطيور لدى البشر.. خطر جائحة مُميتة يُقلق منظمة الص