الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاشتقاق اللغوي

جميل النجار
كاتب وباحث وشاعر

(Gamil Alnaggar)

2020 / 9 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ذلك اللسان الرشيق القادر على تعديل الحروف والأصوات، بمساعدة الشفتين، أثناء الكلام؛ وبتوجيهٍ من المخ بمركز عملياته، يضبطون جميعاً طريقة تحدثنا أو نطقنا؛ في سيمفونية تُخرج لنا حواراتنا بتعديل فريد وصوت مميز، يعبر عن احتياجاتنا ومشاعرنا ورغباتنا وأمانينا ومخاوفنا... الخ؛ في لهجاتٍ ونغماتٍ متباينة كتباين السلم الموسيقي. ولولا هذه الأعضاء الجميلة لما كانت لدينا القوة أو القدرة الكافية على الكلام، الذي هو مادة وبنية أي لغة. وكما قال "كونفوشيوس": لكل شيء جماله ولكن لا يمكن للجميع رؤيته. وأنا دائماً ما أُردد: "خلف كل الكلِم الطيب الجميل، يرقد شعورٌ أجمل بالحب والنُبلِ والتحنان".

والمعروف بأن اللغات، كل اللغات، ليست بمادتها وكلماتها، وإنما بأساليبها وتراكيبها، فهذه هي المزيَّة التي تميز لغة عن لغة أخرى، وبالمحافظة على أساليب اللغة وتراكيبها تحصُلُ المحافظة على نفس اللغة، أما الكلمات بألفاظها ومفرداتها؛ فإنها تتغير وتتبدل وتتجدد من زمكانٍ إلى آخر تبعاً لتجدُّد البيئات والمؤثرات؛ فقد تموت وتندثر كلمات مِن قديم اللغة، ويقوم مقامها كلماتٌ حديثة أو دخيلة مِن لغات أخرى احتكت بها؛ فتتقمصَّها اللغة الأولى وتبقى على حالها، فلا يقولن قائل: إن تلك اللغةَ صارت بهذه الكلمات الجديدة الطارئة عليها لغة أخرى جديدة.
وصحيحٌ بأن البشر يشتركون في الخصائص الفسيولوجية والمعرفية المشتركة، لكن أعضاء "مجتمع الكلمة" يختلفون قليلاً في معرفتهم واستخداماتهم للغة المشتركة. فالمتحدثون من مناطق مختلفة، وطبقات اجتماعية متباينة، يختلفون حتماً في لهجاتهم. وعندما يكتسب جيل لاحق ابتكاراً في اللغة قدمه جيل سابق، تتغير اللغة؛ فتتراكم التغييرات المتزايدة في كل لغة (حيث تميل إلى مزيد من الطابع غير الرسمي) عبر الأجيال. قد يساعد هذا في تفسير سبب شعور كل جيل بأن الأجيال التالية أكثر فظاظة وأقل بلاغة، فتفسد اللغة مع الوقت.
وتحتوي كل لغة على مفرداتها وأساليبها وتراكيبها الخاصة. وكلها محكومٌ بالاشتقاق. والاشتقاق هو قوة لنمو اللغة وتكاثر كلماتها، لكنه سماعي مقيد بأزمان خاصة وأشخاص معينين، وليس من مقدورنا أن نعمل تلك القوة الآن في اللغة، فنشتق من مصادرها، ونحوِّل موادها اشتقاقًا وتحويلًا لم يعرفهما أهل اللغة أنفسُهم.

وعلة/غاية اللغة هي أداء الفهم المتبادل بين المتخاطبين بها، فإن هذه الغاية تلزمها أن تتموضع في جميع مساراتها لتحقيق تكامل الدلالة؛ ولهذا وجب أن يوضع لكل لفظ معنًى يعبر عنه؛ لتتألف لدينا مفردات تعتبر أسس أو وحدات بناء لغوية، تكون هي أساس نشأة وتطور أي لغة، وهي أيضا الأكثر تعبيرا عن ملاءمة حاجات الإنسان ومتطلباته، والتي يحاول التعبير عنها للطرف الآخر، وبما أن عامل الزمكان، والتطور الحضاري، ودخول المستجدات على العوالم الإنسانية يدعو الإنسان إلى البحث عن كيفيات في اللغة تُعِينه على التعبير عن هذه العوالم بأشيائها بصورة كاملة وواضحة.
ومع الوقت؛ احتاج الإنسان إلى الزيادة على أصول مفردات النشأة اللغوية، فدأب على وضع وسائل لذلك، فكان المصدر والجذر والاشتقاق، والترادف، والمشترك والتركيب... الخ. وكلها من الوسائل التي وُجدت من أجل تحقيق هدف معين، وهو التوسيع في الأداء اللغوي؛ للوصول إلى تحقيق الغاية، وهي إيصال الدلالة، أو بعبارة أخرى: "نظام خطاب".
وفي اللغة؛ للفظ سلطة كسلطة أولى تشكلت منها بنية العقل اللغوية؛ فاللفظ ككائنٍ حي/مستقل عن المعنى، سواء كان مستعملاً أو مهمَلاً، واللفظ كقالب منطقي يزيد معناه بالزيادة في حروفه أو يتغير معناه؛ لكن ليس بالكلية بسبب الاشتقاق المجذوب دوما إلى جذوره، واللفظ كمشتق يتضمن معنى المقولة، واللفظ كمتصرف في المعنى وكمحدد لجهة نحوية/صرفية/منطقية، واللفظ كنص يستثمر فيميز فيه بين منظوم ومفهوم، بين منطوق ومعقول، بين المعنى الظاهر والمعنى المراد، بين ما يؤوَّل وما لا يؤوَّل، واللفظ كنَظمٍ يدخل في مفاضلة مع المعنى. بعبارة أخرى أقصر: "اللفظ كنظام خطاب يؤسس نظام العقل الفردي/الجمعي"

ويعتبر الاشتقاق مِن أدق الأساليب في كل اللغات الأم، ومنها اللغة العربية، لأنها تعتبر لغة واحدة تتمحور حول العربية الفصحى الحديثة أحياناً، مع أن بعض المؤلفين الآخرين يصفون تنوعها غير المفهوم بشكل متبادل كلغات منفصلة. وعلى الاشتقاق مدار "علم التصريف" في معرفة الأصلي والزائد، والأفعال والأسماء على وجه العموم.

المعنى اللغوي للاشتقاق:
أصل الفعل: شق، الشين والقاف أصل واحد صحيح، ويدل على التصدع في الشيء، ثم يحمل عليه، ويشتق منه على معنى الاستعارة، حيث نقول: شققت الشيء؛ أشقه شقًّا، إذا صدعته، وبيده شقوق، وبالدابَّة شقاق، والأصل واحد.

المعنى الاصطلاحي للاشتقاق:
ويقصد به (حسب أغلب المعاجم): نزع لفظٍ مِن آخرَ، بشرط مناسبتهما في المعنى والتركيب، ومغايرتهما في الصيغة. أو أن نوجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب، فنرد أحدهما إلى الآخر. واجتمع أهل اللغة على أن ما يجمع بين كافة التعاريف هو شرط المناسبة في المادة والصورة. أو جمعُ المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة؛ أو بمعنى آخر؛ الاشتقاق هو: أخذُ صيغة من أخرى، مع اتفاقهما معنًى، ومادة أصلية، وهيئة تركيب لها؛ ليدل بالثانية على معنى الأصل، بزيادة مفيدة، لأجلها اختلفا حروفًا أو هيئة؛ كضاربٍ مِن ضرب، وحَذِر مِن حذر.
فعلى سبيل المثال؛ اسم الجِن مشتق من اسم الاجتنان، وأن الجيم والنون تدلان دوماً على الستر، تقول العرب للدرع: جُنَّة، وأجنه الليل، وهذا جنين؛ أي: هو في بطن أمِّه، أو مقبور، وأن الإنسَ مِن الظهور، يقولون: آنست الشيء: أبصرته.
إذن؛ فقضية الاشتقاق مرتبطة بقضية أصل اللغة، وقضية أصل اللغة هي بدورها ستجرُّنا إلى تساؤلٍ عن مرجعية اللغة؛ هل عن رواية تواترية أم أنها أحادية أم أنها قياس؟

لقد اختُلِف في نشأة اللغة بين اتجاهات متباينة، وهي:
اتجاه التناسب الطبيعي، الذي يربط ظهورَ اللغة بالطبيعة، وهو ما ذكره ابن جني في كتابه الخصائص؛ حيث قال: "وذهَب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو مِن الأصوات المسموعة؛ كدويِّ الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، شَحيجُ البَغْلِ بصوته المرتفع والغُرابِ المُسن بصوته الغليظ، وفحيح الأفعى ورغاء الجمل، ونهيق الحمار، وصهيل الفرس، وزئير الأسد، وعواء الذئب، ونزيب الظبي، وضغيب الأرنب، وخوار الثور والبقرة، وهديل الحمامة، ونعيق الغراب والبومة، وعرير الصرصار، وطنين البعوضة ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد.

إلا أن هذا الطرح رُفِض من طرف أرباب اللغة لأسباب كثيرة، وأهمها أنه لو كانت هذه العلاقة طبيعية لَمَا وجدنا الاختلاف بين اللغات، ولكانت لغة واحدة تعُمُّ الأرض. والاتجاه الآخر هو؛ اعتبار اللغة كلها اصطلاحاً، وهو الذي ذهبت إليه جماعةٌ مِن فقهاء الكلام.

إن هذا الاختلاف في أصل اللغة هو الذي أدى بهم إلى الاختلاف في القول بالاشتقاق؛ فالذين قالوا باصطلاحية اللغة قالوا بالقياس وبالاشتقاق، وأما الذين قالوا بالتوقيف، فقد رفَضوا إثبات اللغة بالقياس والاشتقاق.

وعلى وجه العموم؛ فالاشتقاقُ هو توليد الألفاظ بعضها من بعض، ولا يتسنَّى ذلك إلا من الألفاظ التي بينها أصل واحد ترجع وتتولد منه؛ فهو في الألفاظ أشبهُ ما يكون بالرابطة النسبية بين الناس. وهو أيضاً عملية استخراج لفظ من لفظ، أو صيغة من أخرى، بحيث تظلُّ الفروعُ المولدة متصلة بالأصل. معنى هذا: أن نأخذ كلمةً من أخرى مع تناسب بينهما في المعنى، وتغيير في اللفظ، يقدم لنا زيادة على المعنى الأصلي، وهذه الزيادة هي سبب الاشتقاق.

أنواع الاشتقاق:
جاء في البحر المحيط: أن أقسامَه ثلاثة، وهي: "أصغر وأكبر وأوسط؛ فالأصغر ما كانت الحروف الأصلية فيه مستوية في التركيب؛ نحو: ضرب يضرب فهو ضارب ومضروب، والأكبر ما كانت الحروف فيه غيرَ مرتبة؛ كالتراكيب الستة في كل من جهة دلالتها على القوة، فترد مادة اللفظين فصاعدًا إلى معنًى واحد. وأما الأوسط: فهو أن تتفقَ أكثرُ حروف الكلمة؛ كفَلَق وفَلَح وفَلَد يدل على الشق.

وعليه؛ فقد قسَّمَ العلماءُ الاشتقاقَ إلى أربعة أقسام، وهي:
أولًا: الاشتقاق الأصغر:
وهو أكثرُ أنواع الاشتقاق ورودًا في اللغة العربية: "وطريق معرفته تقليب تعاريف الكلمة، حتى يرجع منها إلى صيغة هي أصل الصيغ، كلها دلالة اطراد، أو حروفًا غالبًا، كضرب؛ فإنه دالٌّ على مطلق الضرب فقط، أما ضارب، ومضروب، ويضرب، واضرب، فكلها أكثر دلالة، وأكثر حروفًا. فالاشتقاقُ الصغير هو انتزاع كلمة من كلمة أخرى مع تغيير في الصيغة، مع تشابهٍ بينهما في المعنى، والاتفاق في الحروف الأصلية، وفي ترتيبها، وهذا النوعُ مِن الاشتقاق هو الذي يتبادر إلى الذهن عند الإطلاق؛ "لأنه الأوسعُ دائرةً، والأكثر نتاجًا، وإلا فإن في لغة العرب وسائلَ أخرى لنموها وتكاثر كلماتها، هي مِن قَبيل الاشتقاق الصغير المذكور، إلا أنها تجري على نمط آخر، وتتحرك في دائرة أضيق، وأريد بها (القلب) و(الإبدال) و(النحت.

وإن كان قد وقع خلاف في الاشتقاق الصغير؛ فطائفة من العلماء يقولون بأن بعض الكلم مشتق، وبعضه غير مشتق، مثل سيبويه والخليل والأصمعي. وقالت طائفة من اللغويين المتأخرين بأن كل الكلم مشتق، وطائفة أخرى بأن الكلم كله أصل.

ويميل المنطق إلى الرأي الأول، فهو المرجَّح؛ لأنه لا يمكن أن يقال: هو أصل وفرع؛ لأن الشرط اتحاد المعنى والمادة وهيئة التركيب، مع أن كلًّا منهما حينئذ مفرع عن الآخر بذلك المعنى، ثم إن هناك تغييراتٍ بين الأصل المشتق منه والفرع، وجاء في المزهر أنها خمسة عشر:
1. زيادة حركة؛ كعلم وعلم.
2. زيادة مادة؛ كطالب وطلب.
3. زيادتهما؛ كضارب وضرب.
4. نقصان حركة؛ كالفرس من الفرس.
5. نقصان مادة؛ كثبت وثبات.
6. نقصانهما؛ كنزا ونزوان.
7. نقصان حركة وزيادة مادة؛ كغضبى وغضب.
8. نقصان مادة وزيادة حركة؛ كحرم وحرمان.
9. زيادتهما مع نقصانهما؛ كاستنوق من الناقة.
10. تغاير الحركتين؛ كبطر بطرا.
11. نقصان حركة وزيادة أخرى وحرف؛ كاضرب من الضرب.
12. نقصان مادة وزيادة أخرى؛ كراضع من الرضاعة.
13. نقص مادة وزيادة أخرى وحركة؛ كخاف من الخوف؛ لأن الفاء ساكنة في خوف؛ لعدم التركيب.
14. نقصان حركة وحرف وزيادة حركة فقط؛ كعد من الوعد.
15. نقصان حركة وحرف وزيادة حرف؛ كفخار من الفخار، نقصت ألف، وزادت ألف وفتحة.

فالاشتقاق الصغير أو العام - كما سماه عبدالواحد الوافي - هو ارتباط كل أصل ثلاثي في اللغة بمعنًى عامٍّ وُضِع له، وهذا المعنى يخرج إلى حيز الوجود في كل كلمة توجد فيها الأصوات الثلاثة مرتبة حسب ترتيبها في الأصل الذي أُخِذت منه. وعلى هذه الرابطة يقوم أكبر قسم من اللغة، وهو ما يُطلِق عليه علماء الصرف اسم الاشتقاق على ناحية من نواحي هذه الرابطة، وهي المسمى بالمشتقات: (أفعال الماضي والمضارع والأمر، واسم الفاعل واسم المفعول، واسما الزمان والمكان، واسم الآلة.

وقد استعمَلَتِ العرب المصدر الصناعي بقلة، وأخذته من أسماء المعاني والأعيان؛ كالبدوية والجاهلية والنسائية والفروسية واللصوصية والألوهية، ورأى المجمع قياسية صنع هذا المصدر؛ لشدة الحاجة إليه في العلوم والفنون، فإذا أُريدَ صُنع مصدر من كلمة يزاد عليها ياء النسب والتاء، فيقال: الاشتراكية والجمالية والرمزية والحمضية والقلوية.

إنَّ ثبات حروف المادة الأصلية فيما اشتق منها ودلالة المشتقات على معنى المادة الأصلي مع زيادة فيه أفادته صيغتها بجعل ألفاظ اللغة مترابطة أشد الترابط، وعلى هذا الاشتقاق يقوم القسم الأعظم من متن اللغة العربية، على وجه الخصوص؛ وهو أكثر أقسام الاشتقاق دوراناً، وهو مما أجمع عليه اللغويون إلا من شذَّ منهم، وتغني المشتقات عن مفردات كثيرة جدًّا لا بد من وضعها لو لم يكن الاشتقاق، وهذا الترابط المحكم الذي يحفظه الاشتقاق بين ألفاظ العربية هو خَصيصة من خصائص هذه اللغة.

والاشتقاق هو السبيلُ إلى معرفة الأصلي من الزائد من الحروف؛ كالفعل "استطاع" من "ط و ع"، ومعرفة أصول الألفاظ التي يطرأ التغيير على بعض حروفها؛ كاسم "السماء" من "س م و"، ويميَّز به الدخيل من العربي؛ كالسرادق والإستبرق والفردوس؛ فالدخيل لا مادة له في العربية، وهو أهم وسيلة من وسائل نمو اللغة وتوالد موادها وتكاثر كلماتها، وتوليد كلمات جديدة للدلالة على معانٍ مستحدَثة؛ كالسيارة والمطبعة والمذياع والمروحة... الخ. وقد اتخذ العلماءُ هذه الوسيلة لنقل العلوم ووضع المصطلحات، وللمَجمَع في موضوع الاشتقاق قرارات، منها إلى ما ذُكر: أنه رأى قياسية صيغ اسم الآلة: مِفْعل ومِفْعلة ومِفْعال، وصحة صوغ فَعَّالة اسمًا للآلة؛ نحو مِبْذر ومِجْرفة ومِحْراث وسيَّارة، ورأى إضافة ثلاث صيغ، وهي فِعال وفاعلة وفاعول، مثل إراث وساقية وساطور، ورأى قياسية صوغ فَعَّال للدلالة على الاحتراف أو ملازمة الشيء؛ "فإذا خِيف لَبْسٌ بين صانع الشيء ومُلازمه كانت صيغة فعَّال للصانع، وكان النسب بالياء لغيره"؛ مثل: زَجَّاج لصانع الزجاج، وزُجَاجي لبائعه، ورأى قياسية استفعل للطلب والصيرورة، واشتقاق فُعال وفَعَل للدلالة على الداء، سواء أورد له فعل أم لم يرد؛ مثل: السعال والزكام والبَرَص والصَمَم، وأنه يصاغ للدلالة على الحِرفة أو شبهها من الثلاثي مصدر على وزن فِعالة وغير ذلك؛ مثل النجارة والتِّجارة والحِدادة والسباكة والوِراقة...الخ.

ثانيًا: الاشتقاق الكبير:
هو أن يكون بين الكلمتين اتفاق في حروف المادة الأصلية من دون ترتيبها وتناسب في المعنى، وهو الذي سماه ابن جني (الأكبر)؛ وهو أن نأخذ أصلًا مِن الأصول الثلاثة فنعقدَ عليه وعلى تقاليبه الستة معنًى واحد، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه، وذكر مثال ذلك: (ك. ل. م) (ك. م. ل) (م.ك. ل) (م. ل. ك) (ل. ك. م) (ل. م. ك). وجميع هذه التراكيب تدل على القوة والشدة، وذكر محمد المغربي أن هناك مَن سماه بالقلب.

لكن هذا النوع من الاشتقاق ما كان لتعمم نتائجه وأحكامه على جميع المواد والأصول، "وقد بالغ بعضهم في هذا النوع من الاشتقاق، فزعَم أنه يطَّرِد في معظم المواد، والحق أنه لا يبدو في صورة واضحة إلا في طائفة يسيرة من المواد، ومحاولة تطبيقه في غيرها يقتضي كثيرًا من التكلُّف والتعسُّف أو الخروج باللفظ عن مدلوله الأصلي.

ثالثًا: الاشتقاق الأكبر:
هو أن يكون بين الكلمتين تناسبٌ في المعنى، واتفاق في بعض حروف المادة الأصلية وترتيبها، سواء أكانت الحروف المتغايرة متناسبةً في المخرج الصوتي أم لم تكن؛ مثل: صرير وصريف، وخرب وخرق، وهديل وهدير. ويعرِّفه عبد الوافي: "أنه ارتباط بعض مجموعات ثلاثية من الأصوات ببعض المعاني ارتباطًا غير مقيد بنفس الأصوات، بل بنوعها العام وترتيبها فحسب، سواء أبقيت الأصوات ذاتها أم استبدل بها أو ببعضها أصوات أخرى متفقة معها في النوع، ويقصد بالاتفاق في النوع أن يتقاربَ الصوتان في المخرج، أو يتحدا في جميع الصفات، ما عدا الإطباق؛ مثل: التقارب في المخرج، تناوب (الميم والنون) في امتقع لونه وانتقع )واللام والنون في (أسود حالك وحانك )والواو والميم (أوشاج وأمشاج.

ويسمى هذا النوع من الاشتقاق بالإبدال، وابن جني أدخله تحت قانون سماه: (تعاقب الألفاظ؛ لتصاقب المعاني )أي: إن تقارب الحروف في مكان صاحبه، وذكر مثال: (هزا وأزا) بمعنى: تُزعِجهم وتُقلقهم، فهذا معنى تهزهم هزًّا، والهمزة أخت الهاء؛ فتقارَب اللفظانِ لتقارب المعنيين، لكنهم خصوا هذا المعنى بالهَمزة؛ لأنها أقوى من الهاء، وأعظم في النفوس؛ لأنك قد تهزُّ ما لا بال له؛ كالجذع، وساق الشجرة.

رابعًا: الاشتقاق الكُبَّار:
وهو معروفٌ عند اللغويين بالنحت، وهو أخذُ كلمة من بعض حروف كلمتين أو كلمات أو من جملة، مع تناسُبِ المنحوتة والمنحوت منها في اللفظ والمعنى، وقد استعملته العرب لاختصار حكاية المركَّبات، فقالوا: بَسْمَلَ (بسم الله)، وسَبْحَلَ (سبحان الله)، وحَيْعَلَ (حي على الفلاح)، ومن المركَّب العَلَمُ المضاف، وهم إذا نسبوا إليه نسبوا إلى الأول، وربما اشتقوا النسبة منهما، فقالوا: عَبْشَميّ (نسبة إلى عبد شمس)، ومَرْقَسيّ (نسبة إلى امرئ القيس)، وهو قليلُ الاستعمال في اللغة العربية.

فالمصدر الصناعي( أو الاشتقاق الصناعي، هو الأيسر والأطوع للدلالة على كلِّ المعاني المستجدة، وذلك الزخم العلمي الواسع الذي هو في زيادة كل يوم، فهو قياسي وقابل للأوزان والصيغ، وأوسع مجالًا للتعبير عن الحقائقِ العلمية والتقنية في العصر الحديث بكل مستجداته. فما علينا إلا أن نأتيَ بأي لفظ من أي نوع، فنختمه بياء مشددة وهاء تأنيث، بحيث يسهُلُ نطقه ويستساغ؛ إذ لا مفرَّ مِن قَبول ذلك إن لم يكن له بديل، مثل الإيديولوجية، والفيزيائية، والصيدلانية، والكيماوية، والأوتوقراطية، إلى غير ذلك من الكلمات، ولشدة الحاجة لهذا المصدر في التعبير عن كثير من الحقائق الفلسفية والفنون رأى مجمَع اللغة العربية أن يكون قياسيًّا، وأصدر قراره التالي: إذا أريد صُنْع مصدر من كلمة يزاد عليها ياء النسب والتاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الوقوع في اسر القدماء بماضيهم
محمد البدري ( 2020 / 9 / 26 - 09:07 )
ليس كلها محكومٌ بالاشتقاق. فاللغة العربية وربما لغات اخري مصنفة علي انها لغة اشتقاقية بينما اللغة الانجليزية فهي تركيبية. يضاف فيها البيرفكس والسافكس للتميز. الاشتقاق دليل فقر لغوي يحتاجه المتكلم. والاشتقاق انواع المماثل تماما ويختلف المعني حسب الدلالة المسكوت عنها رغم ان اللغة لا ينبغي ان تضمر شيئا لانها اداة بوح.
ومثالها لفظي مولي بالاستخدام المتناقض فالمولي هو الله بقوله : نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. والمولي هو العبد وتاريخ العرب ملئ بهذا اللفظ تدليلا علي ما يملكوه من عبيد او اتباع ومنها ياتي الموالي. هذا نوع من الاشتقاق المتماثل لفظا ومتعاكس دلالة
اشتقاقات اخري مثل وقفينا من بعده اي اتينا من بعده، فالقفا هو ما يبدو بعد تولي الشخص وذهابه، وكذلك ادبر اي ذهب ولم يبدو منه سوي ظهره او دبره.
الامثلة كثيرة جدا ومنها عربي وعبري كرابطة لفظية بنفس الحروف للدلالة علي الاصل التاريخي لانساب العرب وكذلك ربطا بين كتاب العرب وكتاب العبرانيين المقدسين.
فقرار مجمع اللغة العربية يدل علي الفقر اللغوي وليث الثراء، فطبع او نحت او اشتقاق جزء من شئ ليس اثراءا له بل مزيد من الركام.


2 - تعقيب
جميل النجار ( 2020 / 9 / 27 - 23:42 )
عزيزي: الأستاذ| محمد البدري
كرا على تعليقكم القيم، واسمح لي على إضافة إيضاح بسيط:
في علم أصول الكلمات Etymology؛ يُعد علم أصل الكلمة من أهم علوم اللغات اللسانيات قاطبة، وهو دراسة أصل الكلمات وتغيراتها في التركيب والأهمية. وهناك مدرستان فكريتان رئيسيتان حول أصل الكلمة، في اللغويات السلتية، يُنظر عادةً إلى الاشتقاق على أنه من الكلمة الايرلندية caint (الإملاء الأقدم cainnt) -الكلام الحديث-. أو الغيلية الاسكتلندية cainnt. وبهذا المعنى، يُنظر إليه على أنه مشتق من بين المجموعات المتنقلة من الناس في إيرلندا واسكتلندا. من خارج بعض الدوائر اللغوية، يُنظر عادةً إلى الاشتقاق على أنه من -كانتر- لاتيني -للغناء- عبر -كانتر- فرنسي نورمان. وضمن هذا الاشتقاق، يُنظر إلى تاريخ الكلمة على أنه يشير في الأصل إلى ترديد الرهبان، الذي استخدم بطريقة مهينة في وقت ما بين القرنين الثاني عشر اولخامس عشر. تدريجيا، تم تطبيق المصطلح على نغمة المتسولين، وفي النهاية تم تطبيق المصطلح الإجرامي. من هنا جاء الازدراء في سياقه التاريخي. وانقسم أرباب اللغويات ازاء تلك الظاهرة (المنبوذة) إلى فريقين: فريق أعرض يستنكر، وفريق أق

اخر الافلام

.. الوساطة القطرية في ملف غزة.. هل أصبحت غير مرحب بها؟ | المسائ


.. إسرائيل تستعد لإرسال قوات إلى مدينة رفح لاجتياحها




.. مصر.. شهادات جامعية للبيع عبر منصات التواصل • فرانس 24


.. بعد 200 يوم من الحرب.. إسرائيل تكثف ضرباتها على غزة وتستعد ل




.. المفوض العام للأونروا: أكثر من 160 من مقار الوكالة بقطاع غزة