الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياسات الإنكار : محاولات يائسة للإلتفاف علي الواقع

مهدي خالد

2020 / 9 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


حين يقف متهمٌ أمام مسائلة قانونية فإنه يُنصح بإنكار ما يُنسب إليه من تُهم، أو إلتماس الصمت كحق له حتي لا يؤخذ قول ضده، ولكنّ حين يكون الحديث عن واقع عام مُعاش ومُلاحظ ، ويظهر رئيس جمهورية أو وزير حكومي أو شخصية عامة بخلفية دينية أو سياسية كانت، ويستخدم الإنكار كمنطق للتعامل مع أطروحات ومشكلات وقضايا تغرس جذورها في قلب واقعنا الإجتماعي، وكشكل للتعامل مع السلبيات اليومية بغض النظر عنها وإخفاءها ، فإن هذا الإنكار لا يغدو أكثر من كونه محاولة يائسة للإلتفاف علي الواقع وتغييبه.

الإنكار بديلًا عن المواجهة

في مناظرة تم عرضها علي قناة "دويتشه فيله" ، كان أحد قطبيها الأزهرى المصرى رمضان عبد المُعزّ ، كانت أغلب إجاباته على ما طرح تتسم بالإنكار التام : حيث أنكر ما يتم ترويجه عن إضطهاد المرأة بمصر، وأنكر أن تكون هناك ملاحقات أمنية وعقابية للمثليين أو الملحدين، وأنكر عدم وجود ضمانات كافية يكفلها القانون والدستور للحقوق والحريات وممارسة التعبير أيضاً ، وأنكر الكمّ الهائل من جرائم التحرش والاغتصاب والإستغلال الجنسي وزواج القاصرات ، وحين تم سؤاله بشكل شخصي عمّا سيفعله إن اكتشف أن ابنه مثلي أو ملحد ، لم يقبل السؤال لا بشكلٍ موضوعيٍ ولا بأي قدر من إحتمالية واقعيته ، بل تمادي في الإنكار مجيباً : "بلاش ابني والعياذ بالله".
فحالة الإنكار التي يجسدها الشيخ رمضان هي بالأصل حالة عامة تجسّد طبيعة "المجتمعات المأزومة" ، وهي ليست تلك المجتمعات التي علي وشك أزمة، بل تلك التي اعتادت علي العيش ومواصلة الحياة في ظل أزمات دورية، وبالتالي يصبح من الطبيعي أن يكثر الكلام فيها عن البديهيات والحقوق الأولية ، ولعدم وجود لا مرجعية قانونية ولا منهجية ولا ضابط أخلاقي ولا أي وسيلة ضمانة لحل أو تناول تلك المشكلات، فيغدو الإنكار هو حلًا مثاليًا، كمُسكّن لمواصلة سير الحياة.
وبالنظر في واقع الفترة الحالية وفي كمّ الموضوعات التي كانت محورها وضحيتها "الست المصرية" ، والكمّ المهول من حكايات مواقع التواصل الإجتماعي عن تجارب التحرش والإستغلال الجنسي والاغتصاب والتي لا تمثل في أقصي تقدير ما نسبته 20% مما يحدث علي أرض الواقع، سنجد أن القضية ليست مجرد حقوق وحريات، بل موضوع سياسي بالدرجة الأولي وجذوره مرتبطة بأصل السلطة، لذلك حين نتحدث عن النساء وأجسادهن، فلابد أن نكون واعين لحقيقة أن الجسد ليس عنصر طبيعي بيولوجي، بل مؤسسة سياسية، وعلاقة الدولة والسلطة بالجسد هي علاقة أكثر شمولاً وتعقيداً من علاقة القمع به ، حيث جانب من توطد السلطة وهيمنتها ، هو مدي قدرتها علي إخضاع الجسد الفردي من تسليعه وتبضيعه وإهانته وسجنه وتعذيبه وتشريده وإهمال تغذيته والتحرّش به وإغتصابه ، بكلمة : إستباحة إنتهاكه بكافة السُبل.
ففي علاقة السُلطة بالجسد ، تتغير السُلطة -سياسية/دينية/مجتمعية- ويبقي الجسد ، حيث السُلطة كرمز للثبات والأصل ، والجسد كرمز علي تابع الأصل.

توسيع مجال الإنكار

في مقابلة أجرتها أستاذة الإقتصاد والعلوم السياسية هبة الليثي مع مدي مصر تم نشرها بتاريخ 18 أغسطس 2019 حول "كيف نقرأ إرتفاع معدلات البطالة في مصر؟" ، تخبرنا الليثي بأن : البيانات الحكومية حول تراجع معدل البطالة، التي تستشهد بها الحكومة على نجاح برنامجها الاقتصادي، فإنها لا تعني زيادة الوظائف المتاحة في الاقتصاد، بما ينعكس إيجابًا على حياة المواطنين، وإنما تعود في جانب منها إلى تراجع عدد الباحثين عن الوظائف نتيجة اليأس من الحصول على فرصة.
وهذا هو شكل فوقي لممارسة الإنكار والتجنّي علي الواقع المُعاش، بإصدار بيانات وخطابات حول "التنمية" و "الإصلاح الإقتصادي" و "فواتير المستقبل" التي هي بعيدة تمام البُعد عن واقع الفقر المدقع التي توضحه الأرقام في مقابلة الليثي.
فالمؤشرات الإقتصادية التي تُبني علي إستهلاك "شرائح" من الطبقات العليا والقادرة علي الإستهلاك لملايين الجنيهات في الياميش والمكسرات والسيارات الفارهة والشاليهات وكومباوندات المدن الجديدة والرفاهيات والكماليات، هي مؤشرات إبتزاز ليس أكثر، إبتزاز لقدرة باقي الطبقات الأكثر فقرًا والأقل قدرة علي توفير إحتياجاتها الأساسية علي مضض، في ظل غياب معادلة تضبط الإستهلاك والدخل معًا، حيث إرتفاع مستمر للأسعار وثبات وركود للدخل، وبالتالي ميل دائم لإنخفاض القدرة الشرائية العامة، وتفاقم دائم لأزمة الإحتياجات الأساسية، حتي ما يُطلق عليها "الكتلة الحرجة" من الطبقات الوسطي نظرًا لإسهامها وتأثيرها المباشر في تحديد القدرة الشرائية للبضائع وتأثيرها علي الإستهلاك العام، فمنذ بداية الألفية تشهد مصر أكبر تراجع للطبقة الوسطي علي مستوي العالم ، بحسب بيانات بنك كريدي سويس المتخصص في تقدير الثروات، وتبدو هذه الطبقة معرضة لمزيد من التدمير نتيجة السياسات المالية التي تبنتها الحكومة في إطار برنامج "الإصلاح الاقتصادي" ، وحصلت بموجبه على مجموعة من القروض الدولية. فتقلصت الطبقة المتوسطة في مصر بأكثر من 48%، لينخفض عددها من 5.7 مليون شخص بالغ في عام 2000، إلى 2.9 مليون بالغ في 2017، في ظل تغيّر ديموغرافي وإنفجار سكاني هائل جاوز بنا المئة مليون نسمة.
وفي هذا الصدد تنافس مصر على صدارة العالم في تدمير الطبقة المتوسطة 4 دول، وهي الأرجنتين واليونان وروسيا وتركيا، بحسب تقرير كريدي سويس، لكن معدلات تآكل الطبقة المتوسطة في الدول الأربعة مازالت بعيدة عن الحالة المصرية، بفارق ملحوظ يصعب تضييقه خاصة بعد الإجراءات المالية التقشفية الأخيرة في مصر.
فالتنمية البعيدة عن جيوب المصريين، بل مقامة علي الحد الأقصي للسحب من جيوبهم تحت إسم "فواتير المستقبل" ، هي محاولة أخري يائسة للإلتفاف علي واقع مغاير، لإنكار واقع ملايين أرهقتها فواتير اليوم المعيشية ولا تقوي علي المستقبل ولا تطمح لسوي النجاة.

دعايا قائمة علي الإنكار

في ظل مجتمع مأزوم وواقع مضطرب وتفاوت طبقي فجّ ولا معقولية للحياة وغياب تام لحِسّ المسئولية الإجتماعية، تصبح الدعايا التي نقع تحت طائلتها يوميًا هي دعايا للإنكار، إنكار الواقع وما يرتبط به من حقوق أولية وإنسانية ومسئوليات تجاه الفرد والمجتمع ومضمون الأفكار التي يقوم عليها هذا الفرد ومجتمعه، وبنظرة واقعية وموضوعية لأمثلة عايشناها في الترندات وعلي المقاهي وشاشات التليفزيون : "شاب الفريسكا الشهير" وقصة "بائع التين الشوكي" وأخيرًا الحكاية الأكثر شهرة وتأثيرًا ل"سيدة القطار" ، نجد أن تلك المواقف -وكثير غيرها من المواقف التي لم تسعفها الشهرة- تمثّل مضمون إجتماعي أصيل حيث "المظلومية الإجتماعية" من ناحية، وتمثّل من ناحية أخري طريقة التعاطي مع هذه المظلومية.
هذه المواقف هي تجسيد حيّ لحالة "اللا حَول ولا قوة" لغالبية فقراء ومعدومي الدخل ومحتاجي الدعم وملايين حقيقية تغطي السواد الأعظم في مجتمعنا، والتي في ظل الظروف المعيشية الحالية تغدو تلبية احتياجاتها اللازمة والأساسية شيء صعب المنال، وفي الوقت الذي لابد أن يكون التعامل نابع من مسئولية إجتماعية وحكومية واعية لدورها الأساسي في الإنفاق علي الحد الأدني المعيشي لهذه الملايين، يتم تصدير الإنفاق الضروري في صورة الإحسان والعمل الخيري، ويتم تضخيم مسمّيات "الجدعنة والشهامة" لتغطية عوار المسئولية الإجتماعية للحكومة، وتتحول الحياة لفرصة وغنيمة، وسبل العيش لحظوظ ومِنح، وإمكانية النجاة لإحتمالية بنسبة ضعيفة، فيصبح التعاطي السائد هو أسئلة ذات طابع كوميدي سوداوي : "أين يباع صندوق الفريسكا؟! " ، "أدفع تذكرة لمجنّد غلبان وأصبح غني؟! ".
في كتابه "سنة الأحلام الخطيرة" يطرح سلافوي چيچك سؤال فلسفي ، وواقعي جدًا في حالتنا هذه :
أوليس التمنّي اللاواعي هو واقع السبب الغائب الذي يحدد بشكل متضافر لعبة التمثيلات المتعددة؟!
هنا يتجسد "التمنّي اللاواعي" في رغبة الفرد في أن يصبح كبائع الفريسكا، كطريقة وحيدة لكي يصبح ما يريده، في عالم ومجتمع لا يكفل السبل الإعتيادية ليصبح الفرد ما يريده.
أما عن "السبب الغائب" فهو يكمن في مفهوم وتعريف ماهيّة الشيء عند الإنسان، فكلما انعدمت ماهيّة وجدوي الأفعال ووجود الأفراد بكونهم ذوات فاعلة، انعدمت قدرتهم علي الإحساس بوجودهم، ويصبح وجودهم لا يتعدي كونهم مكونات بنيوية للعبة التمثيلات المتعددة، ملايين فائضة ومجرد عبء وحمل زائد علي تنمية وإصلاح غير مُدرجين في حُسبانه.
فالسبب الغائب هو المعني الحقيقي لمفهوم الإنكار الذي طال كل شيء، واستبدل الواقع بمفاهيم زائفة تري في وجود الإستثناء علي إنه حلّ ممكن لبؤس القاعدة، تري في تضخيم العمل والمبادرة الفردية والعمل الخيري بديلًا عن الدور الأساسي للدولة وحكومتها ومؤسساتها، تري أن الفقر والبؤس واللامساواة هي مقادير طبيعية وأن الإستثناء هو رزق ومُعطي لمن يجتهد في ظل ظروف قهرية وغير متكافئة.

بالنهاية نصل لتوجّه عام يحكم جوانب مجتمعنا، توجّه لترسيخ "الإنكار" كمفهوم وطريقة تعامُل وموقف، ومحاولة لتطبيع المجتمع علي التعايش الدائم في ظل ظروف غير طبيعية ، ليقبل سياسات وأفكار وطرق وسبل حياة لا تُمكّن غالبية أفراده لما هو أبعد من النجاة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر