الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معاوية وكتابة التاريخ الاسلامي

باسم الأنصار

2020 / 9 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


معاوية وكتابة التأريخ الاسلامي


من يطّلع على المصادر التاريخية الاسلامية التي تتحدث عن سيرة نبي الاسلام محمد سيكتشف بأنّ هذه المصادر كأنها تتحدث عن عدة شخصيات مختلفة أو عن عدة سير مختلفة لنفس الشخصية في وقتٍ واحد. فالكثير من الأحداث التي مرّ بها النبي تجد لها أكثر من رواية مختلفة، والكثير من الأحاديث النبوية تجد لها أكثر من سبب وأكثر من طريقة تعبير وأكثر من سند، تصل أحياناً الى حد التناقض. والسبب في ذلك كما يبدو، هو أنّ رواة وكتّاب هذه المصادر كتبوها حسب ما تمليه عليهم أمزجتهم وأهواؤهم وميولهم الفكرية والعقائدية أحياناً، وأحياناً أخرى كتبوها حسب ما تمليه عليهم أمزجة وأهواء وميول الحكّام الأمويين والعباسيين بما يخدم مصالحهم السياسية، وبالأخص معاوية بن أبي سفيان. إذ بعد أن استلم هذا الحاكم الأموي الأول، الحكم في العام 41 هجرية، طلب وبشكلٍ مقصودٍ ومدروسٍ بعنايةٍ فائقةٍ، من الرواة والقصاصين وخطباء المساجد في جميع البلاد الاسلامية التي كانت تحت رايته على مدى عشرين عاماً من حكمه، كتابة سيرة النبي محمد والتأريخ الاسلامي حسب مزاجه وطريقته وميوله العقائدية الدينية والسياسية المختلفة تماماً عن العقائد الدينية والسياسية لنبي الاسلام كما سيظهر لنا لاحقاً.
فمن المعروف أنّ معاوية المولود قبل البعثة النبوية بخمس أو ست أو سبع سنوات، كان وأبوه والكثير من قبيلته الأموية والقريشية من أشد أعداء النبي قبل اسلامهم، وكان أيضاً من المؤلفة قلوبهم الذين لم يدخلوا الاسلام إلاّ بمقابل نسبة من المال كانوا يأخذونها من الزكاة، لعدم رسوخ الايمان في قرارة نفوسهم وقلوبهم، حسبما ذكر لنا القرآن ذلك في الآية 60 من سورة التوبة: ”إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم‟
وفي ظنّي، أنّ سبب تثبيت القرآن حصّة المؤلفة قلوبهم في احدى آياته، هو لكي يميّز أصحاب هذه الحصّة عن المؤمنين الحقيقيين، ولكي يحرمهم أيضاً من تقلّد امارة المسلمين في يومٍ ما بنصٍ قرآني ثابت.
وكان القرآن قد وصف جماعة المؤلفة قلوبهم بالشجرة الملعونة حسبما ذكر الطبري في تاريخه، ووصفهم أيضاً بفئة المنافقين. أما نبي الاسلام فقد حذّر منهم كثيراً قبل مماته، بل أنه أشار الى معاوية أكثر من مرة بطريقة سلبية توحي بعدم الثقة به وبإسلامه. ولقد ذكر لنا ابن عساكر الدمشقي في كتابه تاريخ دمشق ومن أسانيد عديدة قول النبي عن معاوية: ”إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه‟ ، وفي رواية أخرى ”فارجموه‟ . كما ذكر لنا مسلم في صحيحه والنسائي في كتابه الخصائص، عن أنّ النبي دعا بغضبٍ وسوءٍ على معاوية في احدى المرات قائلاً عنه: ”لا أشبع الله بطنه‟ ، وذلك بعد أن رفض معاوية بسخرية قبول طلب النبي له للحضور أمامه لأمرٍ ما بحجة انشغاله بالطعام. وبسبب هذا الحديث النبوي، دفع النسائي حياته ثمناً له على يد مجموعة من أهل الشام من أصحاب الهوى الأموي المتطرف، وذلك بعد أن طلبوا منه أن يذكر لهم ميزةً ايجابيةً واحدةً لمعاوية كان قد ذكرها النبي بحقه.
أما كبار الصحابة فكان لهم الكثير من المواقف السلبية ضده. فعلي بن أبي طالب قال عنه وعن ساعده الأيمن عمرو بن العاص في كتابه نهج البلاغة بأنهما ليسا من أصحاب القرآن والاسلام، وبأنه وعشيرته من بني أميّة دخلوا الاسلام كرهاً وخرجوا منه طواعيةً. والصحابي قيس بن سعد قال له في احدى رسائله إليه الموجودة في مروج الذهب للمسعودي: ”أنت وثنيٌ ابن وثني، دخلت الاسلام كرهاً وخرجت منه طوعاً‟
أما أبو ذر الغفاري فقد كان يعترض بشدة عليه وعلى سياسته الاقتصادية المنحرفة عن الطريقة الاسلامية، لأنها قائمة كما يرى على الثراء الفاحش وتكديس الأموال وعلى العمل بمبدأ الربا الذي حاربه القرآن بقوة. بل أنّ واحداً من كبار التابعين ألا وهو محمد بن أبي بكر الصديق، اتهمه واتهم والده في احدى رسائله إليه الموجودة في مروج الذهب للمسعودي بالنفاق وبعدم ايمانهم بالإسلام.
أما المعتزلي ابن أبي الحديد قال عنه في شرح النهج: ”ومعاوية عند أصحابنا مطعونٌ في دينه، منسوبٌ الى الإلحاد، قد طعن فيه صلى الله عليه وسلم، وروى فيه شيخنا أبو عبدالله البصري في كتاب ”نقض السفيّانية‟ على الجاحظ، ورويّ عنه أخباراً كثيرة تدلّ على ذلك‟
وفي الحقيقة أنّ معاوية الذي سلّمه الخليفة الأول أبي بكر الصديق قيادة أحد الجيوش تحت إمرة أخيه يزيد بن أبي سفيان في بداية حروب فتح الشام، والذي جعله الخليفة الثاني عمر بن الخطاب والياً على الأردن ودمشق بعد موت أميرها أخيه يزيد، والذي جعله أيضاً الخليفة الثالث عثمان بن عفان والياً على بلاد الشام كلها وجعل ولاة أمصارها تابعين له، لم تكن ديانته معروفةً بالضبط. لكن الشي المعروف عنه بأنه كان على ديانة قريش المشركة، وبأنه تزوج من ميسون الكلبية والدة ابنه يزيد، وهي مسيحية من قبيلة كلب المسيحية اليعقوبية المعروفة بشدة عدائها للإسلام، وبأنّ غالبية مستشاريه والعديد من جنوده هم من هذه القبيلة أيضاً. ومعروفٌ عنه أيضاً بأنّه لبس الصليب في أواخر حياته لكي يشفى من مرضه بعد أن أخذ بنصيحة طبيبه المسيحي. ولكن برأيي، أن عقيدة معاوية الدينية الحقيقية هي الدهرية التي لا تؤمن بالنبوة ولا باليوم الآخر، على شاكلة أبيه أبي سفيان الذي عبّر عن عقيدته وبوضوح أمام عثمان بن عفان الأموي حينما تسلّم منصب الخليفة الثالث، قائلاً: ”لقد صارت إليك بعد تيم وعدي ـ ويقصد عشيرتي أبي بكر وعمر ـ فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو المُلك، ولا أدري ما جنة ولا نار‟ ، وهذا القول موجود بصيغِ متعددة في الاستيعاب لابن عبد البر، وأنساب الأشراف للبلاذري ومروج الذهب للمسعودي.
والمتتبع لسيرة معاوية وسياسته في ادارة الحكم الذي استولى عليه بعد مقتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، وبعد دفعه بالقوة الحسن بن علي للتنازل عن الخلافة له عام 41 هجرية، سيرى بأنه أسس الدولة الأموية التي جعل من دمشق عاصمةً لها، على طريقة الدولة البيزنطية التي كانت تحتل الشام قبله. إذ أنشأ الدواوين المركزية، مثل ديوان الرسائل وديوان الخاتم وديوان البريد، وأنشأ أجهزة الشرطة والأمن والتجسس والوشاية والمخابرات التي اشتهرت بقوتها وقدرتها على اختراق مخالفي معاوية على الطريقة البيزنطية. وما يدلّ على ذلك وعلى قوة مخابراته، هو اطلاعه على المراسلات التي كانت بين الحسين بن علي وبين أهل العراق. كما انشأ جيشاً كبيراً وقوياً جداً وأنشأ واحداً من أكبر الأساطيل البحرية في العالم حينذاك والذي استخدمه في غزواته الاستعمارية التي طالت بلداناً كثيرة. كما أنه نشر الرفاهية في دولته وبالأخص في الشام لطاعتها العمياء له، وأتبع سياسة الشدة واللين واستخدام المال في تأكيد الولاء له بذكاء ودهاء سياسيين كبيرين يناسب اطار وشكل الدولة التي أسسها بعيداً عن اطار وشكل الدولة التي أسسها نبي الاسلام.
ولهذا، لو تأملنا سياسته أكثر وبدقة أكبر سنجده لم يلتزم بجوهر وطبيعة المبادئ الاسلامية التي نادى بها نبي الاسلام طوال حياته، مع أنه ظلّ طوال فترة حكمه يتغنّى بها ظاهراً. فالقرآن مثلاً كان يركّز على قيم ومفاهيم العدل والمساواة: ”وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل‟ .. الآية 58 النساء.
وعلى الحرية: ”لا إكراه في الدين‟ .. الآية 256 البقرة.
وعلى الحث على الصدق والقول المعروف: ”قولٌ معروف ومغفرةٍ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى‟ .. الآية 263 البقرة.
وعلى نبذ الصراعات: ”وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‟ .. الآية 2 المائدة.
وعلى الابتعاد عن الكذب والنفاق: ”بشّر المنافقين بأنّ لهم عذاباً أليماً‟ .. الآية 138 النساء.
وعلى ترك الربا: ”يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفةً‟ .. الآية 130 آل عمران.
وعلى نبذ الثراء الفاحش: ”والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذابٍ أليم‟ .. الآية 34 التوبة.
بينما نجد معاوية، قام بتأسيس دولته على مفاهيم سياسية متحولة ومتلونة حسب لون الظرف السياسي الذي يعيشه للوصول الى غاياته التي كان يعتقد بأنها تناسب دولته. ولهذا، نجد في زمنه، أنّ قيم العدل والمساواة بالمفهوم الاسلامي المحمّدي قد اختلفت من خلال اعطائه الأموال الكثيرة لأقاربه ومواليه ومن خلال حرمان من يخالفه من عطاء بيت المال. ونجد الحرية قد اُنتهكت من خلال تعذيبه وسجنه وتهجيره لمخالفيه وبالأخص لشيعة علي بن أبي طالب من العراق الى خراسان والى بقية البلدان البعيدة. ونجد الصدق قد تحطم من خلال دفعه للرواة التحدّث عن لسان نبي الاسلام بما شاء له وبما يناسب ميوله وأغراضه. ونجد الأمان قد انتهك من خلال انشائه أجهزة الأمن والمخابرات القاسية والشديدة في التعامل مع المخالفين له ومن خلال زرع الجواسيس في كل مكان على الطريقة البيزنطية. ونجد الربا قد شاع بكثرة من خلال افساحه المجال للعمل به. ونجد أيضاً ثقافة السب واللعن من على المنابر تسود في عصره من خلال تعميم أمره الى جميع البلاد المنضوية تحت رايته بلعن علي بن أبي طالب من على المنابر التي بلغ عددها بما يقارب السبعين ألف منبر، وهو لعنُ كان المقصود به برأيي، النبي ومن خلفه بني هاشم بأكملهم، وذلك بسبب العداء التاريخي بين قبيلته بني أمية وبين قبيلة النبي بني هاشمن كما أوضح ذلك عليٌ في احدى رسائله الى معاوية حينما قال له: ”ولكن ليس أُميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق‟
وفوق هذا وذاك، فأننا نستطيع أن نرى بأنّ معاوية يعدّ أول من أشاع مفهوم طاعة الحاكم حتى لو كان ظالماً بحجة أنّ الناس قد بايعته بغض النظر إن كانت هذه المبايعة شرعية أم لا، أو أنها كانت مفروضة بقوة السيف من قبل الحاكم على الناس أم أنها معطاة للحاكم برضى الناس، وهو ما نراه في أدبيات الفكر السلفي المعاصر لحد الآن. إذ أنّ الحاكم لدى هؤلاء السلفيين، يجب أن يكون متبوعاً ومطاعاً حتى لو كان ظالماً أو فاسداً أو ديكتاتوراً، ما دام قد أُنتخب من قبل أهل الحل والعقد من كبار القوم.
ونستطيع أن نرى أيضاً بأن معاوية يعدّ أول من أوحى للناس بأنّه كخليفة أهم من النبي نفسه لأنه مسؤولٌ مباشرةً عن اطعامهم وأمنهم، ويعدّ أول من شغل الناس بالتفاصيل الصغيرة الفقهية المتعلقة بالحلال والحرام، لكي يشغلهم كما يبدو عن الانشغال بمبادئ العدال والمساواة وبقية المبادئ الكبرى التي رفع شعارها النبي وحزبه طوال حياتهم.
لذا، وبعد هذه السيرة المختصرة لمعاوية، نرى بأنّ ما أنتجه في زمنه من روايات وقصص وأحاديث تخص النبي والمسلمين هي محل شكٍّ بكل تأكيد، ليس بسبب عدم ايمانه بالإسلام أو بسبب تعارض القيم الإسلامية التي طبقها النبي في حكمه، مع القيم التي طبّقها هو في فترة حكمه فقط، وانما أيضاً بسبب الحقد الشديد الذي كان يكنّه للنبي ولبني هاشم وهو ما عبّر عنه للمغيرة بن شعبة في أواخر أيامه، بعد أن طلب منه هذا الأخير أن يخفّف من نبرة عدائه لبني هاشم بعد أن حقق مراده منهم، وذلك حسبما ذكر لنا ابن أبي الحديد الشافعي المعتزلي في كتاب شرح نهج البلاغة: ”وإنّ ابن أبي كبشة يُصرَخ به في كل يوم أشهد أنّ محمداً رسول الله، فأيُّ عملٍ يبقى بعد هذا؟ لا أُمّ لك‟ ، ولقب ابن أبي كبشة كانت تطلقه قريش على النبي احتقاراً له.
وفي شرح النهج أيضاً، روى أحمد بن أبي طاهر في كتاب ”أخبار الملوك‟ أنّ معاوية سمع المؤذّن يقول: ”أشهدُ أن لا إله إلاّ الله‟ ، فقالها معاوية ثلاثاً، وقال المؤذّن: ”أشهد أنّ محمداً رسول الله‟ ، فقال معاوية بانزعاج: ”لله أبوك يا بن عبدالله، لقد كنت عالي الهمّة، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين؟!‟
الذي يهمنا من هذين الحديثين، هو أنّ معاوية لم يكتف بلعن علي بن أبي طالب من على المنابر في دولته الواسعة، ولم يكتف باضطهاد وقتل وتشريد وتعذيب شيعته وحرمانهم من عطاء بيت المال فقط، وانما كان يتمنى أيضاً، أن لا يُذكر اسم محمد في الآذان لأنّ ذلك كان يؤلمه ويقضّ مضجعه.
من هذا المنطلق، ينبغي أن نتوخى الحيطة والحذر والدقة حينما نقرأ جميع المصادر التاريخية التي تتحدث عن سيرة النبي وتاريخ المسلمين بعد معاوية سواء كان ذلك في العصر الأموي أو في العصر العباسي، بل وحتى في العصر الحديث الذي نعيشه حالياً، لأنه نتاج التاريخ الذي أشرف على كتابته معاوية. فجميع المصادر التاريخية التي انتجت في العصر العباسي تعتمد على الروايات التي رواها الرواة والقصاصون في زمن معاوية وبعده، وجميع دراسات المستشرقين ودراسات المفكرين الاسلاميين المعاصرين تعتمد على هذه الروايات أيضاً.
وبالإضافة الى توخي الحذر والدقة في قراءة هذه المصادر التاريخية، ينبغي أيضاً أن نتفحّص ونتقصى عن الخلفية العقائدية لكل رواة وكتّاب التاريخ الاسلامي وعن الظروف السياسية والثقافية والحياتية التي كانوا يعيشونها، لأنّ الكثير من هؤلاء إما كانوا مقرّبين من الحكّام، وبالتالي كانوا يكتبون بما يملون عليهم عن سيرة النبي وأحاديثه بما يتناسب ومصالحهم، وإما كانت ميولهم العقائدية والسياسية هي التي تُملي عليهم كتابة التأريخ.
فمثلاً، حينما نقرأ كتب ابن كثير الدمشقي الذي عاش في القرن الثامن الهجري، سنجد بأنه أموي الهوى بامتياز، وذلك من خلال سعيه المحموم والمفضوح لتبرئة الأمويين وبالأخص معاوية من جميع سياساتهم المخالفة لسياسة نبي الاسلام، إما عن طريق التأويل والتفسير الذي يبرئهم من فعل المخالفة، وإما عن طريق نفي هذه المخالفات من دون دليل حقيقي يُعتمد عليه أو من دون حجة عقلية ومنطقية.
والحال نفسه ينطبق على ابن تيمية والذهبي وابن قيم الجوزية وابن حزم الاندلسي بل وحتى البخاري وغيرهم من الرواة والمؤرخين الموالين لبني أمية بشكلٍ محموم. فمثلاً شخصٌ مثل الذهبي يحاول قدر الامكان الدفاع عن معاوية الى الحد الذي لوى عنق أحد أحاديث النبي المضادة لمعاوية لوّياً غريباً وعجيباً. فالنبي ذمّ معاوية ذات مرة بقوله: ”لا أشبع الله بطنه‟ ، بينما الذهبي يقول عن هذا الحديث في كتابه ”تذكرة الحفّاظ‟: ”لعلّ هذه منقبة لمعاوية لقول النبي: اللهم من لعنته أو شتمته، فأجعل ذلك له زكاةً ورحمة‟ ، بل أنه ادعى ومن دون أي سند تاريخي حقيقي بأنّ معاوية دخل الاسلام في عمرة القضاء التي قام بها النبي ومجموعة من المسلمين في السنة السابعة للهجرة، أي قبل فتح مكة. وسبب ذلك برأيي هو لإبعاد معاوية عن جماعة الطلقاء والمؤلفة قلوبهم السيئة الصيت بالنسبة للعقيدة الاسلامية.
وبرأيي، أنّ سبب الهوى الأموي الجنوني لهؤلاء المؤرخين واستماتتهم بالدفاع عن الأمويين، هو لاختلافهم الحاد وصراعهم الشديد مع الشيعة، لأنّ الشيعة ينتقدون الخلفاء الثلاث الأوائل أبي بكر وعمر وعثمان، على اعتبار أنهم سرقوا الخلافة من زعيمهم الروحي علي بن أبي طالب، وهذا بالنسبة لهؤلاء المؤرخين يعدّ شيئاً محرّماً ومكروهاً، وذلك بسبب تقديسهم وتبجيلهم الكبير لهؤلاء الخلفاء. وكذلك أيضاً لأنّهم ـ أي الشيعة ـ يهاجمون الأمويين باستمرار بسبب القمع والاضطهاد الذي تعرّضوا له هم وزعمائهم من أهل بيت النبي على أيديهم. وهذا الأمر بالذات كان يزعج هؤلاء المؤرخين كثيراً، لأنّ الأمويين برأيهم لهم فضلٌ كبير لا ينسى على الاسلام، ويجب احترامهم وتقديرهم على ذلك. وهذا الفضل متمثّل بنشرهم الاسلام وتوسيعهم من رقعة الدولة الاسلامية في العالم، مع أنّ هذا الفعل لم يكن لأغراضٍ دينية خالصة، وانما كان لأغراضٍ استعمارية قومية وامبراطورية تحققت بفعل سفكهم دماء الشعوب المحتلة وسرقة ونهب ثرواتهم من دون أي رادع أخلاقي.
ولم يقتصر الأمر فقط على معاوية أو على الأمويين الذين استمروا في اتباع نهج معاوية وسياسته في صياغة السيرة المحمدية حسب أهواءهم باستثناء الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي قتله أهله بالسم بعد سنتين ونصف من حكمه بسبب خروجه عن الخط الأموي المعروف، وانما استمر الحال أيضاً في زمن العباسيين أيضاً. فالعباسيون استمروا على نهج معاوية في صياغة السيرة المحمدية وبالأخص أبو جعفر المنصور وهارون الرشيد والمتوكل، ودفعوا كتّاب التاريخ والسيرة النبوية الى اختراع الكثير من القصص والأحاديث ونسبها الى نبي الاسلام من أجل تمرير سلوكياتهم وتصرفاتهم الشخصية والسياسية. وبفعل هذه الأعمال ظهر لنا في كتب السيرة النبوية، شخصٌ آخر يدعى محمد مهووس بالقتل والعنف والجنس والنساء فقط، وهو شخصٌ يختلف كثيراً عن شخصية نبي الاسلام الذي عرفناه وعرفنا حزبه الحنفي ومبادئه وأخلاقياته التي تربّى عليه.
وبسبب هذا التحريف المتعمّد لسيرة النبي، اكتشفنا بأنّ هناك تاريخاً رسمياً لسيرته في المصادر التاريخية الاسلامية قد تبنّتهُ الأنظمة السياسية والدينية المتعاقبة منذ العصر الأموي ولحد الآن لتوافقه مع مصالحها، واكتشفنا أيضاً بأنّ هناك تأريخاً آخر له، ولكنه مغيّب عن العامة بسبب عدم تبنيه من قبل المؤسستين السياسية والدينية معاً مع أنه مدوّنٌ وموجودٌ في المصادر نفسها.
لذا، ومن أجل ابراز واظهار التاريخ الحقيقي لسيرة النبي محمد، لا بد لنا من اتباع الحذر الشديد في القراءة والفحص والتمحيص لكل حديث نبوي ولكل رواية تاريخية سواء كانت تلك الرسمية المعلنة أو تلك غير الرسمية المغيّبة، وذلك من خلال اتباع المنهج التاريخي المادي البحت البعيد عن التعصب لهذا الطرف أو ذاك، ومن خلال قناعتنا بأنّ عملية معرفة ما حدث في الماضي لا تعتمد على قراءة المصادر التاريخية والتعليق عليها فقط، وانما تعتمد على الفحص والتحليل والاستنباط.
وينبغي لمعرفة تاريخ الاسلام الحقيقي، عدم الأخذ بالحكايات التاريخية المليئة بالمعجزات والخوارق والكرامات عن حياة النبي إلا من حيث ما تعطيه من دلالات ومعانٍ تاريخية. أننا يجب أن لا نأخذ بعين الاعتبار أي حديث نبوي أو أية رواية موجودة في المصادر التاريخية تكون خارقة للعادة، وذلك اتباعاً للآية القرآنية التي تحدثت عن أنّ النبي انسان طبيعي ولا يملك أي فعل خارق يفوق قوانين الطبيعة، رداً على دعوة قريش له بأن يظهر لهم المعجزات المادية لكي يؤمنوا به: ”قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنما الهكم إلهٌ واحدٌ‟.. الآية 110 من سورة الكهف.
وينبغي أيضاً، الاعتماد بالإضافة الى المصادر التاريخية الاسلامية المعروفة، على النص القرآني كنص تاريخي وثّق الكثير من المحطات الحياتية للنبي، مثلما شرحت لنا ذلك كتب أسباب نزول السور القرآنية.
فالقرآن وثّق لنا حملات الاضطهاد القريشي للنبي والمسلمين في مكة، ووثّق لنا اتهاماتهم العديدة له وحواراتهم ومجادلاتهم الكثيرة معه، ووثقّ لنا أيضاً حروبهم العسكرية معه بعدما هاجر الى المدينة المنورة. فمثلاً حينما نتحدث عن معركة بدر فأننا نتذكر سورة الأنفال التي أشارت الى المعركة، وحينما نتحدث عن معركة أحد فأننا نتذكر سورة آل عمران، وحينما نتحدث عن معركة الأحزاب فأننا نتذكر سورة الأحزاب وهكذا.
كما أنّه ينبغي الاعتماد أيضاً على المصادر التاريخية غير الاسلامية قدر الامكان لتدعيم القراءة التاريخية هنا، ولكن بحذرٍ أيضاً، لأنني اكتشفت بأنّ الكثير من منتجي هذه المصادر هم من الطرف المعادي لنبي الاسلام، وهذا العداء بحد ذاته يدفعنا الى الحذر، وخير مثالٌ لنا على ذلك هي كتابات يوحنا الدمشقي عن النبي والاسلام في كتابه الهرطقات. إذ اتهم هذا القس، دين الاسلام بالبدعة المسيحية واتهم نبي الاسلام بالكذب والدجل وبأنه قد تعلّم التوراة والانجيل على يد بحيرا الراهب الآريوسي وبأنه خدع قومه بتقواه، ولا أعرف كيف لرجلٍ يتسم بالتقوى على حد تعبير يوحنا الدمشقي يقوم بالكذب على قومه؟
وبالمناسبة كان يوحنا ووالده وغيرهم الكثير من مسيحيي بلاد الشام من أقرب المقرّبين للحكام الأمويين ومن أهم مستشاريهم في جميع المجالات، على الرغم من هجومهم المستمر على نبي الاسلام وتشكيكهم بنبوته وصدقه أمامهم وفي جلساتهم، وهذا برأيي، يعدّ من الدلائل العديدة على أنّ الأمويين لم يكونوا يدينون بدين الاسلام إلاّ ظاهراً.
وأخيراً أقول، علينا اتباع الحيادية التامة والموضوعية الكاملة حسب الامكان في منهجها، لأنّ الهمّ الأساسي لنا هو الوصول الى الحقيقة واتباع الحجة أينما تقودنا على حد تعبير افلاطون في كتابه الجمهورية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ابو بكر يعرف حقيقته
طاهر المصرى ( 2020 / 9 / 30 - 19:27 )
الأستاذ/ باسم الأنصار
من خلال مقالك رويت لنا أن النبى محمد كان يعرف نفاقه وعدم إيمانه وبالتالى يكون الصحابة على علم بذلك، فلما توفى النبى محمد كان أبو بكر الخليفة الأول الذى ولى معاوية على جيوش المسلمين أميراً ثم الخليفة عمر ابن الخطاب الذى جعله والى على الأردن ودمشق، ثم عثمان ابن عفان الذى ولاه أميراً على كل بلاد الشام كما ذكرت فى المقال.
إذن يحق لنا ولى أن أسأل: كيف يتجرأ الخلفاء وهم يعرفون سيرة معاوية جيداً وإجاباته الغير محترمة على النبى، وأنه من المؤلفة قلوبهم والتى قال النبى أنها طائفة ملعونة؟
كيف يقود جيوش المسلمين ويتصدر حكم بلاد الشام وهو ليس من المسلمينبل من الكفار المنافقين؟
أنتظر إجابتك مع الشكر.


2 - ابو بكر يعرف حقيقته
طاهر المصرى ( 2020 / 9 / 30 - 19:27 )
الأستاذ/ باسم الأنصار
من خلال مقالك رويت لنا أن النبى محمد كان يعرف نفاقه وعدم إيمانه وبالتالى يكون الصحابة على علم بذلك، فلما توفى النبى محمد كان أبو بكر الخليفة الأول الذى ولى معاوية على جيوش المسلمين أميراً ثم الخليفة عمر ابن الخطاب الذى جعله والى على الأردن ودمشق، ثم عثمان ابن عفان الذى ولاه أميراً على كل بلاد الشام كما ذكرت فى المقال.
إذن يحق لنا ولى أن أسأل: كيف يتجرأ الخلفاء وهم يعرفون سيرة معاوية جيداً وإجاباته الغير محترمة على النبى، وأنه من المؤلفة قلوبهم والتى قال النبى أنها طائفة ملعونة؟
كيف يقود جيوش المسلمين ويتصدر حكم بلاد الشام وهو ليس من المسلمينبل من الكفار المنافقين؟
أنتظر إجابتك مع الشكر.


3 - معاوية
باسم الانصار ( 2020 / 9 / 30 - 22:03 )
شكرا عزيزي الأخ طاهر المصري على سؤالك المهم.. في الحقيقة عزيزي، ان معاوية ومن خلفه والده وبني امية وقريش هم من مسك زمام الامور بعد مقتل النبي محمد بالسم الذي أظن بأن الذي قتله هو ابو سفيان بطريقة ما لأنه كان شيخ المنافقين كما تروي الكثير من الروايات.. ومعاوية وبني امية هم من ساعد أبا بكر وعمر وعثمان للوصول الى الخلافة ولهذا كانوا يرضخون لأوامره كثيراً.. فعلي سبيل المثال كان عمر بن الخطاب معروف بشدته مع الولاة في زمنه ان اخطاوا ولكنه كان لينا مع معاوية على الرغم من ان الكثير من المسلمين كانوا يشكون منه حينما كان واليا على الاردن ودمشق.. القضية معقدة وانا سانشر العديد من المقالات توضح هذه الامور وبالأسانيد والمصادر التاريخية المعروفة.. شكرا لك عزيزي مرة اخرى على مداخلتك الجميلة والى لقاء جديد


4 - هل كان الخلفاء الراشدين مؤمنين بنبوة محمد؟؟؟
سهيل منصور السائح ( 2020 / 10 / 1 - 10:16 )
اخي الكريم بعد التحية. لم يكن ايمان الخلفاء الراشدين بل المسلمين الذين خاضوا الحروب والسطو المسلح على على القوافل كانوا مومنين بان وحي من السماء يوحى لمحمد وما كان اسلامهم الا للسيطرة هذا بالنسبة للخلفاء الراشدين والدليل هو التصاهر بينهم اما بقية العرب فكانت الغنآئم والاسلاب كانوا المحفز. اما الامويون فلم يؤمنوا بالاسلام وصاحبه ولقد قالها يزيد عندما احضر راس الحسين بين يديه: ليت اشياخي ببدر شهدوا ** وقعة الخزرج من وقع الاسل
لاهلوا واستهلوا فرحا ** ولقالوا يا يزيد لا تشل. لعبت هاشم بالملك فلا ** ملك جأء ولا وحي نزل.اما اسلام المسلمين اليوم فهو وراثة نتيجة السطو المسلح ومن شب على شيء شاب عليه. والاهم من هذا كله ليس هناك حقيقة واضحة حتى ان نسخة القرآن المسماة بـ مصحف عثمان لا يستطيع كآئن من كان ان يثبت انها نسخة طبق الاصل بعد حرق عثمان كل المصاحف. اما اتخاذ التواتر ذريعة لاثباته فهي ذريعة واهية لان كل الاديان جآءت بالتواتر. اما ايمان الرشوة (المؤلفة قلوبهم ) فهو ليس ايمان وهو للنفاق اقرب وهذا هو اسلام بني امية.ما هو المطلوب من المسلمين في عصرنا ا المطلوب احترام اديان البشر والعيش المشترك


5 - لماذا هذه التناقضات؟؟؟
سمير آل طوق البحراني ( 2020 / 10 / 2 - 09:34 )
هناك يروى حيث عن محمد عند فتح مكة وهو قوله ( من دخل بيت ابي سفيان فهو آمن) وهذا لا شك تقدير واحترام للرجل. فاذا كانت القبيلة الاموية معلونيين على لسانه فلماذا هذا التقدير والاحترام؟؟. الا يعني هذا ان الاسلام كان حركة سياسة هدفها جمع القبآئل تحت لواء واحد وهو لواء قبيلة بني هاشم ولكن التخطيط لم يكن موفقا كما بين الاخ سهيل منصور السائح في تعليقه بسبب المصاهرات التي جرت بين محمد وصحابته؟؟. اخي الكريم السلفية الوهابية يثنون على معاوية و يسمونه خال المسلمين وكاتب الوحي بل والخليفة الشرعي بعد التحكيم الذي جرى في حرب صفين.اليس الاحداث التي جرت في صدر الاسلام توضح ان الاسلام دين التناقضات يحمل الايجابيت والسلبيات وهي التي فرقت امة الاسلام الى فرق متعددة وكل يكفر صاحبه؟؟. هل ياتي اليوم التي تعيفيه الامة وتقرا تاريخها بتجرد ويعم السلام بين جميع المسلمين اولا والبشرية ككل؟؟. نتمنى ذالك.

اخر الافلام

.. بعد 40 عاماً من تقديم الطعام والشراب لزوار المسجد النبوي بال


.. الميدانية | عملية نوعية للمقاومة الإسلامية في عرب العرامشة..




.. حاخام إسرائيلي يؤدي صلاة تلمودية في المسجد الأقصى بعد اقتحام


.. أكبر دولة مسلمة في العالم تلجأ إلى -الإسلام الأخضر-




.. #shorts - 14-Al-Baqarah