الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إحاطة بمهنة التعليم لمن غابت عنه حقيقة التدريس

المهدي بوتمزين
كاتب مغربي

(Elmahdi Boutoumzine)

2020 / 10 / 1
التربية والتعليم والبحث العلمي


يسقط العديد من الناس في العالم العربي في مغالطات حول مهنة التدريس , حيث يزعمون أن المدرس يشتغل ساعات قليلة في الأسبوع عطفا على استفادته من العطل الطويلة الأجل , و يحسِبون أن مهامه محصورة في نطاق ضيق جدا و يتوهمون أن مسؤوليته الأولى و الأخيرة هي حراسة الأطفال و ليس تلقينهم فنون و مبادئ الحياة من الأخلاق و الواجبات المقترنة بحقوقهم و إمدادهم بالعلم و المعرفة ؛ لأن هذه المهام الأخيرة تحمل في طياتها صعوبات جمة يقتضي التعامل معها تملك مقاربات و بيداغوجيات و علوم و معارف متنوعة تزاوج بين النظري و العملي, و هذا لا يتم إلا من خلال انتقاء دقيق للأطر و استفادتها من تكوين أساسي و مستمر و من التربية العملية و عدة ديداكتيكية و إعادة الإعتبار لدورها الأساسي في المجتمع و الدولة .
واقع التدريس في المغرب يشهد جوانب إيجابية لكن تشوبه سلبيات عدة , هذه الأخيرة تحط من قيمته و تجهز على الدور المهم للمدرس في مجتمع يغلب عليه الإتيكيت و فضفضة المظاهر و سطوة المناصب . و في اللحظة التي راهن فيها الجميع على انتشال منظومة التعليم من تحت الركام باعتماد رؤية استراتجية و بت روح جديدة في الجسم التعليمي من خلال نظام المكافأة و التحفيزات العامة و الخاصة المرتبطة بالإشراط البافلوفي و التعزيز الإيجابي , إلا أنه على نقيض ذلك جدلت الحكومة المدرسة العمومية و أطرها التربوية و اعتمدت نظام تشغيل جهوي هزيل و معيب شكلا و مضمونا أجهز على ما تبقى من روح الكفاح الذي خاضه الجسم التعليمي على مر السنيين فأصابه بالتخشب .
إنها إهانة في عهد اللامسؤولية و الإلتزامات الصورية و أشخاص يتقنون اللعب على الحبال و العزف على الأوتار, فوقعت معها حكومة الإسلاميين صيدا لقوانين لا مشروعة تطوق الحق في الشغل و الإضراب و العيش الكريم , في مقابل استفادة أعضائها من امتيازات لا متناهية . إن الحقيقة البارزة اليوم أن السواد الأعظم من الحكومة و البرلمان و النقابات و الأحزاب السياسية و الجمعيات الاَنية وُجدت لإتراع الفراغ المؤقت الذي يمكن أن تحتله كيانات أخرى شعبية و وطنية لا تقبل المساومة أو إبرام الصفقات تحت الطاولة . فالقانون الذي سُمي توظيفا جهويا في ميدان التعليم بالمغرب يعد جريمة إنسانية تضرب عرض الحائط كل القوانين و المواثيق الدولة . إنها سياسة الهشاشة الممنهجة التي تؤكد وجود طابور خامس يريد العبث بأمن البلد و بيع مقدراتها السيادية لأطراف خارجية , لنقل إذن أن ما سمي بقانون أطر الأكاديميات مؤامرة ضد البلد تستهدف وحدته و اقتصاده .
أمام هذا المشهد الأسود الحالك يشتغل المدرس المغربي حسب ما هو مقرر وزاريا و يبذل مجهودا كبيرا في سبيل تحقيق نتائج عالية و صناعة كفاءات وطنية لنقل البلد من مصاف الدول المستهلكة و المتخلفة و اللحاق بركب الحضارة الغربية . هذه المهمة تختلف عن العديد من الأدوار المنوطة بموظفين اَخرين حيث تفرض المهنة التزامات قبلية و اَنية و لاحقة على عكس ما يتصور الكثير من الناس .
إن العمل الذي يقوم به أساتذة التعليم الإبتدائي يقتضي التخطيط القبلي لجميع المكونات و الدروس و يلزم تملك معارف و مهارات مقبولة في مواد شتى بدءا من إتقان اللغتين العربية و الفرنسية إضافة إلى الإنجليزية في المستقبل القريب و دراسة أنشطة الحساب و الهندسة و القياس في مادة الرياضيات لتفادي الوقوع في إنزلاق ميتامعرفي . و بالموازاة مع المعرفة الذاتية تظهر الحاجة لقنوات تمكن من نقل المعرفة من مستواها العام إلى مستواها التعليمي و هذا يتطلب بيداغوجيات و مقاربات و كفايات ترفع من نجاعة و نفوذ الفعل البيداغوجي و إيجاد مدرس فعَّال , إضافة إلى تطبيق سليم لديداكتيك المواد من خلال معرفة القوانين العامة للتدريس و كيفية تفعيل النشاط التعليمي داخل الفصل إلى جانب الإلمام الكافي بنظريات التعلم .
ثم إن عمل الأستاذ يكون مع تلاميذ صغار في السن تقتضي الحاجة إطلاعا محترما على علم النفس التربوي , لإحتواء كل الحالات و تجاوز الصعوبات التي قد تعترض العملية التعليمية التعلمية. فالتلميذ يعيش حياة ثانية في المدرسة تفرض اعتماد مقاربات تمكن التلميذ من الإستمتاع بهذه الحياة التربوية و التعليمية , ما يعني أنه على الأستاذ إعداد أنشطة فصلية و مندمجة . في هذا السياق يبقى المدرس أو المشرف ملزما قانونيا بحراسة و مراقبة التلاميذ تحت طائلة المسؤولية التقصيرية التي ينظمها قانون الإلتزامات و العقود المغربي .
إنها مهام متعددة التخصصات و متنوعة المضمون لا ينحصر أدائها في المدرسة بل يمتد ليشمل كل لحظة من حياة الأستاذ . فهو يؤدي دور معلم الاَلفياء و الاَداب و القيم و الساهر على نشاط و أمن التلاميذ .
إن إلمام الأستاذ بكل هذه الجوانب يضعه في سياق يفرض عليه تكوينا أساسيا إضافة إلى تكوين أهم و هو التكوين المستمر, الذي لا يمكن أن تكون له نقطة نهاية طوال الخط الزمني في حياة المدرس , حيث أن ميدان التعليم هو ساحة خصبة للبحث العلمي الذي يشهد مستجدات مستمرة و إن التمكن من البيداغوجيات و المقاربات و الأدوات النظرية و العملية يتطلب أعواما طويلة من الجهد و البحث , على عكس العديد من الوظائف الأخرى التي يقتصر الأمر فيها على إتقان أدوار محددة لا تشهد تغييرا كبيرا . فمهنة التعليم لا تخضع لقوانين النمطية و الروتين بل تترك مساحة وارفة للتجديد و كل ما يبدعه المدرس يبقى إبتكارا و إبداعا و لا مجال للحديث فيه عن البدعة .
مناسبة الحديث عن هذا الموضوع هو أن الصدفة أسقطتني لمشاهدة فيلم مغربي بعنوان مول البندير و نحن نعلم مسبقا أن إعلامنا الوطني هو صاحب البندير و الدُّف ؛ و هذا الشريط التلفزي فحواه أن مدرسا كان يعاني التهميش و الفقر و الإهانة في ظل مهنته لينتقل بعدها إلى ميدان الغناء الشعبي و يجد ضالته فيه . الرسالة الملغومة هدفها تقزيم مهنة التعليم و جعل المدرس موضوع نكثة و سخرية و هذا ديدن و خط القناة التلفزية المنتجة للفيلم و التي سبق للأستاذ المهدي المنجرة أن اعتبر أنها قناة فرنسية صهيونية . إنها سياسة ممنهجة و قديمة في تاريخ المغرب ترجع فصول حياكتها إلى حكومات سابقة التي تتخبط في قراراتها العشوائية و التي كادت أن تفجر الوضع العام بكامله , حيث أدى قرار وزاري يقضي بفرض رسوم على التسجيل في التعليم إلى انتفاضة سنة 1984 و التي سميت بانتفاضة الخبز أو كما سخر منها وزير الداخلية إدريس البصري بإنتفاضة الكوميرا . و اليوم نشهد ارتجاجات ما قبل الإنفجار الكبير و التي تدق اَخر المسامير في نعش مهنة التعليم مع حكومة صورية تنفذ أوامرا خارجية تمس سيادة و أمن البلد الذي سيجد نفسه غارقا في الخوصصة و الديون و الحنق الشعبي .
الحقائق البديهية التي نوردها يدركها العقل الفردي و الجماعي لكن على مستويات دنيا تحول دون أجرأتها و تنفيذها . فالحكومات العربية تعرف مانيفست المشاكل التي تعتري المنظومة و المجتمع , لكن قراراتها تبقى بعيدة عن الواقع و لا تخدم مصلحة الوطن كما تفتقد لفقه الأولويات .
إن المهام المسنودة للأساتذة التعليم الإبتدائي السالفة الذكر ليست على سبيل الحصر إنما تتعداها بأعداد كثيرة , و تبقى مهمة تلقين التلميذ الذي يكون صفحة بيضاء مع بعض التصورات و التي قد تكون خاطئة بنضاف لذلك تجاوز اعتماد مفاهيم مجردة , كل هذه المعطيات تجعل من مهمة التلقين و التعليم صعبة و مكلفة للأستاذ . على طرفي النقيض من ذلك نجد أن الأستاذ الجامعي يكتفي بإلقاء المحاضرة و نادرا ما يسهب في شرح نقطة محددة و هو معفى من البيداغوجيات و طرق التواصل التي تقيد المدرسين في السلك الإبتدائي . هذا الأخير يفرض مهارات فردية و صبرا كبيرا و قدرة على التواصل و تبسيط المعلومة و المعرفة و هذا ما أدركته الدول المتقدمة التي تخصص لأساتذة التعليم الإبتدائي أُجرة عالية جدا .
إننا نملك الإرادة و الإصرار لأجل أن يتدارك المغرب الأخطاء التي وقع فيها في مجال التربية و التعليم و أن يعمل على إعادة الإعتبار للمدرس, و هذا لن يتحقق إلا بالإشتغال في ظل الوظيفة العمومية و تحسين شروط العمل و أن يحظى بالدور المحوري و الجهوري في صلب قضايا المجتمع . أما المفاوضة و الحوار بعيدا عن هذه الأركان فتظل مجرد محاولة بئيسة لتحسين و تجميل شروط العبودية و إخضاعه بالقوة للعنة الرأسمالية و الخوصصة و الإستعمار الحديث .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي