الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يسرا البريطانية (18)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 10 / 2
الادب والفن


في مطار دبي الخاص بطيران الإمارات شيئان رددا الصدى بداخلها، أغنية نجاة الصغيرة ما أحلى الرجوع إليه التي طالما كانت تستمع إليها أبان فترة الجامعة بحلب، والشيء الآخر هو مدينة دبي ذاتها، التي خرجت منها لاجئة منكسة الرأس كادت تكون حافية القدمين، بعد احتجازها في السجن، لتعود إليها بجنسية بريطانية مرفوعة الرأس وبحوزتها مضخة مالية وشبكة تجنيد سرية، عبرت بوابة الجوازات ولم يخفق قلبها أو تتلبد مشاعرها، تذكرت عبارة الفريق الركن حازم عبد الرحيم "واجهي مصيرك بشجاعة، فالله وحده يعلم مصيرك" وضعت تلك العبارة على صدرها واستوعبت التدريب الذاتي والنفسي وحفظت قائمة الأسماء من دون أن تدونها في ورقة وحفرت رسم خريطة طريق حياتها القادمة كما تم التخطيط لها من دون أرقام هواتف ولا أسماء أشخاص ولا عناوين مكتوبة، كل شيء في القلب " قلبك هو خزانة أسرارك" عبارة سمر يام وهي تودعها آخر مرة وقد زرعت في رأسها كنز الأسرار وخريطة الطريق "العبي كيفما شئت ولكن لا تدعي أحداً يقترب منك ويزيل الحواجز حتى تصلين هدفك، تعلمين وحدك أين؟"
تدربت على ألا يكون أحداً في الكون يتوقع منها الحركة التالية "اجعلي حركتك القادمة سراً عن أقرب من لديك، لا تثقي حتى بجبار الشريف"
"يا الله" هكذا ردت للوهلة الأولى قبل أن تستوعب المعنى " ربما لا يكون جبار الشريف هو نفسه والدك"
العودة لدبي هذه المرة كانت مسرحية، استعانت بلعبة الأبراج التي أتقنتها سن المراهقة بالزبير، أبعدتها لندن عن تلك الأسرار الفلكية وها هي تستعيد مع الدور الجديد سحر تلك الأيام "من أين أبدأ؟"
حركت سر الأبراج وجلبت سحرها الرباني المكون من حلقات الماء والأرض والنار والهواء، نشطت خيالها وبدأت باختراع حلقة، وهي حلقة الثلج بحكم كونها من مواليد ديسمبر وجعلت من برج القوس وهو البرج التاسع في دائرة الأبراج الذي ينتهي به فصل الخريف برجها العاجي! الذي لا يصله أحداً ممن يحيطون بها، ولن تسمح لأي كائن أو فضولي بالتسلل إلى عالمها أو يقتحمه، ولهذا اختارت فندق "أتلنتس" للإقامة فيه بما كان يمثله من حلم في المرة الأولى التي وطأت قدماها دبي، أول ما نفذ إليها وهي تخطو في المطار رائحة المكان تذكرها بشريط صور الأمس، وهي صور ذات مرارة عالقة بذهنها، صممت على محوها بصور أخرى تتشكل في بالها. لم تعد هاربة من كنف الوحوش البشرية، لقد حان موعد استرداد الوديعة والانتقام، لم تعد ذكرى الزوج المغتصب، محتها الأرقام الفلكية والمهمة السرية، هناك فقط رسم قديم للرجل الذي تزوجها قبل النزوح إلى دبي أرض العسل، وجدته في مال معجون بالخطيئة والبذخ، مغموساً بالوجع الناجم عن رضوخها في قاع بناية مكونة من 120 طابقاً اسمها "برج خليفة" لم تنفع كل تلك السحب الرمادية وهي تعبر الطوابق العليا من البناية في محو ذكرياتها، حتى رائحة الصنوبر المنبعثة من حمامات الغرف العليا لم تستطع محو آثار ليلة واحدة اغتصبت من دبرها من قبل الزوج الطارئ، لتهرب بعد أن كرهت عادته الشاذة حين يقرأ القرآن ويصلي ركعتين ثم يغتصبها كل ليلة.
****
( 2 )
لم يغب عن بالها مايك، وهي تقضي أغلب وقتها ليلاً لتناول العشاء بالمطعم اللبناني بفندق "أتلنتس" المقيمة فيه، كانت تستغرق في العادة، أكثر من أربعين دقيقة لتكمل زينتها، أغلب ما كانت ترتدي بالليل قميصاً وردياً فاتحاً أو قميصاً أزرقاً فاتحاً في بعض الليالي، مع سترة خفيفة سوداء، وتنورة حمراء عند الأسفل، كان الوقت الذي تبدأ فيه سهرتها، عادة ما تكون الساعة الحادية عشرة، شعورها دائماً ما يكون خليطاً بين الامتعاض من الوحدة التي ظلت فيها بضعة أيام تنتظر شيئاً يحدث ولكن لا شيء يحدث سوى الهدوء المتواصل من حولها رغم الضجيج والازدحام الذي يغمر دبي المدينة ويحيلها إلى دوامة من التوتر، منذ وصولها وهي تقضي الأيام والساعات تتحرك في الأرجاء بلا تحديد لهدف أو غاية، الشيء الوحيد الذي يحدث من حولها هو تحرش بعض الرجال بها كلما وجدوها وحيدة تتناول وجبة الغداء أو العشاء، أما الإفطار فكانت تكتفي بوجبة خفيفة سريعة تصلها من خدمات الغرف، ثم تبدأ بعدها الخروج إلى البهو الخارجي تتجول فيه أو تذهب لبعض المجمعات التجارية تقضي ساعتين أو ثلاث لتعود بعد أن يتم تنظيف مكان إقامتها لتبدأ بإلقاء نظرة على المكان لتتأكد من أن أحداً لم يعبث به كما كانت تفعل أيام الخدمة، كانت تبتسم في سرها وتتساءل عما إذا هناك من يمارس هذه اللعبة غيرها في هذا العالم الذي بدا لها واسعاً ومملاً.
بعد أن تعود للغرفة، تبدأ بالقراءة التي اعتادت عليها منذ وصولها المدينة وقد بدأتها بكتاب( من القلب مباشرة) لجاك ويلش الذي أخذت تلتهمه رغم حجمه الكبير ثم تبعته برواية (الزهرة الزرقاء) لنورا روبرتس وهي رواية تتحدث عن نساء ثلاث يلتقين على منعطف طريق من حياتهن، تبحث كل واحدة منهن عن مستقبلها في النجاح، بعد أن أنهت الرواية خرجت للفسحة الخارجية من الفندق تستنشق الهواء وقد صممت على فكرة "سأكتب سيرتي الذاتية، لربما تصبح رواية ذات قيمة تذكر" واصلت القراءة والاستمتاع بالوقت رغم الضجر وبدأ وكأن حياتها ستجري على هذا المنوال، تذكرت عبارة حازم عبد الرحيم "شدي عزمك وافتحي المظروف وتصرفي بما فيه على هواك، وكيفما تشائين لأنك بعد مدة وجيزة ستحملين حياتك على كفك كما حملها والدك"
درجت كل مساء تقريباً على الخروج من الفندق لترتاد الصالات والفنادق الأخرى، أخذت تمنح الرجال ممن تستلطفهم بعض الاهتمام وبدأت بالتحدث للبعض والتعرف على النساء والرواد، ومشاركة البعض جلساتهم بعد الاندماج العفوي الذي يفرضه الإفراط في الشراب، في كل ذلك، لم تغب عن بالها أجواء لندن ولم تنس ساعة، التفكير في جبار الشريف ومايك الباكستاني "ترى أين جرفه الضباب؟" غلفت جوهرها المضطرب والمتحفز بقناع من اللامبالاة وذرت عليه زينة مفرطة من الماكياج ووسعت أفقها نحو الرجال المتربصين بها وأخذت تطارد الأشباح كلما وجدت فرصة التلاعب بهم، وقد ساعدها المال المتدفق في الانغماس بما نصحها به الفريق الركن، مدركة في أعماقها وجود حكمة مما أوصاها، وقد أيقنت من ذلك ذات ليلة وهي عائدة مـتأخرة وقد أسرفت في الشراب وتمكنت من الوصول للمصعد بصعوبة، وبلوغ غرفتها المزدوجة وقد خارت قواها، لتجد أسفل الباب من الداخل قصاصة ورقة صفراء كتب عليها "تسيرين في الطريق الصحيح، أكملي مشوارك" هذه العبارة كادت تنتزعها من حالة الثمالة لكونها أول اتصال سري يتم معها، مكثت بضع دقائق تتأمل العبارة لتستخلص منها ما يوحي بعمل أو تحرك، لم تر فيما تقوم به أي شيء يوحي بالإنجاز، ومع ذلك جاءت الإشادة بما تفعله، وهو ليس إلا سهر وتسكع ولهو يستهلك المال الذي تشعر بأن ثمة من هو أحق به منها " ممن الورقة؟ مايك أم حازم أم سمر؟" هذا وحده كفيل بتشويشها وخلط الأوراق من حولها، مضت للحمام، فرشت أسنانها ثم ألقت بجسدها على الفراش من غير أن تغير ملابسها، كانت منهكة وثملة ومشوشة.
يسرا جبار الشريف القرمزي، حينما جاءتها بطاقة الدعوة الرسمية لحفل الدعوة بمرور الذكرى الرابعة لافتتاح برج خليفة تساءلت "من هناك يحاول اللعب معي؟"
انبثقت تلك الدعوة من فضاء غير مألوف، كانت بطاقة الدعوة مفاجأة لها وهي مرفقة في الصباح مع غصن زيتون أخضر، تلقتها مع صينية الشاي والفطور المكون من بيضتين مسلوقتين وإبريق شاي أخضر وقطعتي خبز نخالة محمصة مع زجاجتي عسل صغيرتين وعلبة عصير بلو بيري، راحت تتأمل الدعوة وتتذكر تلك الليالي التي قضتها قبل سنوات في هذا البرج، لقد مرت تلك السنوات وها هي السنة الرابعة على ذكرى الافتتاح أما هي فقد حسبتها خمس سنوات من عمرها في بريطانيا، كيف حدث ذلك؟ كيف حسبتها وأين أخطأت في الحساب وهل تأخرت الجنسية لأنها كانت تحسب الأيام مضاعفة لتنتهي من الجحيم؟
كان برج خليفة بالنسبة لها يعد إحدى أكثر الوجهات الخيالية في العالم، وقد ارتبط في ذاكرتها بمرارة اللجوء القسري الذي اضطرته، انبثقت تلك الومضة من الألم ذات صباح وهي ثملة مترنحة، ضائعة تقف على قمة الهاوية حينما شاهت شروق الشمس مذهلة تلفح مدينة الأحلام دبي، لينتهي بها المطاف لسجن النساء بدبي، كادت تسيل دمعة من عينيها لكنها تذكرت الأرقام المالية الفلكية والمهمة السرية فأشاحت بوجهها كأنما هناك من يراقبها، تجرعت كأس فودكا صرف بعد أن نهضت وتركت صينية الإفطار مكانها.
****
( 3 )

كانت أجواء السنة الجديدة مخيمة على المكان وآثار الاحتفالات عالقة هنا وهناك من أسفل البرج حتى قمته، وسط الحشد الدولي للبشر والوجوه، وضمن الحلقة الصغيرة المدعوة والتي لا تعرف هي ذاتها الطرف المعتم الذي تسلل لها بالدعوة، رأت كل شخص تلك الليلة يشبه الآخر، الرجال يتشابهون رغم أحجامهم وبشرتهم وبدت النساء كأنهن قطعة واحدة رغم كميات الأصباغ والألوان التي تلطخ وجوههن، بدت يسرا القرمزي تلك الأمسية مشعة كأنها نجمة سينمائية، إذ تضاءلت كل الشحوب ومحي الذبول الذي اكتسى بشرتها عبر السنوات المنصرمة، لمع وجهها ببريق خاطف يومض بالحيوية وبدت عيناها متقدتان تشعان حياة، قوامها برز نافراً كأنه خلق من جديد وساحت خصلاتها على جبينها ناعمة محت بقايا الغبار العالق بفعل عملها بحمامات الفنادق "والله واحلويتي يا يسور" قالتها في سرها وهي تخفي ابتسامة خشية أن تسقط ويلتقطها متطفل وسط الحشد، اعتادت منذ حلت بمدينة دبي وإدمانها على السهر والتسكع بالفنادق على الاختلاط بالحشود والاندماج مع السكارى والمتطفلين وأدركت مفتاح التخلص منهم ولكنها في حالات عندما يسوء المزاج تود لو تلقي بهم في الجحيم، الليلة بدت منفتحة الأسارير ومستعدة للانفلات من كل القيود، يدفعها تحريض سمر يام التي اختفت من الدنيا كالشبح "أين يذهب كل الذين أعرفهم؟" اندفعت تتلقى ملاطفة كهل بريطاني ميزته من لهجته المقعرة، وعندما عرف أنها بريطانية ما أنفك يدور وراءها كالحارس وهو يتلفظ بعبارات الغزل مما دفع بأحدهم وقد بدا من لهجته مصرياً لأن يعترض طريقه وقد أوشك الأمر على الانفجار لولا تدخلها ومطالبة البريطاني بالكف عن ملاحقتها فيما تهيأ الآخر لاستلام مكانه وفتح حوار معها لولا اقتحام صوت أحد العاملين في المكان يعلن عن بدء توزيع الهدايا بمناسبة ذكرى افتتاح البرج، ضج المكان بالأصوات وتعالت الصرخات من دون تمييز
كان الجو خيالياً وبدا كما لو أنه من ألف ليلة وليلة، أدارت الخمرة الرؤوس وتدافعت الأبدان تتحين حيزاً تتنفس من خلاله، بدت ليلة مجنونة عندما فوجئت بشاب في مقتبل العمر، تكسو وجهه لحية خفيفة وتقدح عيناه شهوة وتبرز ملامح وجهه وهي تنم عن جسارة جامحة يقترب منها ويهمس في إذنها اليمني وسط الضجيج بعبارة جريئة.
"أحبك منذ رأيتك "
كانت جرأة متناهية منه وهو يكاد يلتصق بها ويلامس جسدها في خضم الزحام ويهمس لها بتلك العبارة المباشرة التي تنم عن جموح طائش، ودت لو تصرخ في وجهه وتدفعه بعيداً لتفضح جرأته لكنها تماسكت وقالت بعبارة جافة وهي تشيح بوجهها عنه.
"تجاوزت الخط الأحمر يا سيد"
ظنت أنها بهذه العبارة سوف تغلق الباب في وجهه ولكنها استغربت إصراره وحدود طيشه عندما لف المكان على هيئة دائرة ليعود إليها وقد علت وجهه ابتسامة مصطنعة.
"لن تفلتي مني، أنا واقع في هواك"
فاجأته بمحتوى الشراب، دلقته على وجهه من كأسها، واستغربت وسط دهشة الحضور في حيز الدائرة يبتسم لها بتلك الابتسامة التي لا تتغير ولا تدل على إحساس وكأنه يستدرجها لمزيد من الغضب، انسحبت من أمامه وقد شعرت بانتصار إرادتها وهي تملك زخماً هائلاً من جموح التصرف من دون أن يطرف لها جفن، دهشت من جرأتها تلك التي اكتشفت نفسها من خلالها وقد خرجت من قشرة الذعر الذي كان يحاصرها طوال السنين الماضية وها هي تقف اليوم على أرض صلبة تسكب الكؤوس في وجوه من لا يعجبها من غير توجس أو تردد، لم تعبأ بالحضور ولا بردات الفعل ولا بأي من مشاعر الخوف "لم يسبق لي كنت بهذه القوة والجسارة، أحسنتي يا يسرا" قالتها كأنها تخاطب امرأة أخرى غيرها.
مع تولي الدقائق زاد الصخب وتصاعدت الصرخات التي بدون معنى مع بدء توزيع الهدايا، كانت قمة برج خليفة تلك الليلة تشق الفضاء وتصل بالحضور للعالم الأعلى كما بدا من سماتهم المبهورة بالليلة الخيالية، وبمرور الوقت شعرت مع بعض الحضور بدوار أشبه بدوار البحر إذ بدا ما يشبه الغثيان يجثو فوق صدرها فقررت التدرج في الانسحاب، اتجهت نحو زاوية قريبة من باحة الخروج بقرب المصعد، فتحت حقيبتها وأخرجت هاتفها وبحثت عن رقم السائق وقبل أن تضرب الرقم همس ذات الشاب في إذنها مرة أخرى.
" لا يناسبك الغضب، بعد مدة وجيزة ستحملين حياتك على كفك كما حملها والدك"
رأسها مرة أخرى تحول إلى جبل، كما حدث بالمرة الأولى وهي قبالة حازم عبد الرحيم، مثقل بالتشويش والألغاز، انفتح الطلسم وخرج منه العفريت، دارت بها الأرض وكأن بهذا البرج الهائل يميل للسقوط، تزاحمت مشاعرها وبدا لها الكون ضيق لا يتسع أنفاسها، لم يعد أمامها سوى النظر في عينيه هذه المرة مباشرة لمعرفة الخريطة السرية "كيف وقع هنا؟" قالتها بسرعة خاطفة ومن دون تفكير داخلي، أسعفها الشاب من خدر قدميها وتصلب شرايينها عندما أضاف مسترسلاً.
"عبدالعزيز، تثقين بي لو عرضت أن أوصلك؟"
أجابت عينيها، وهي تردد بصوت واهن.
"عرفت مغزى العبارة"
وضع أصبعه على فمها إشارة الصمت.
****
لم تتخيل يسرا القرمزي نفسها ثملة في غرفة وحيدة مستلقية على الفراش مع شاب وسيم تنتهي بهما الليلة ولم يحدث بينهما شيء يذكر، مما يقع عادة في مثل هذه المواقف، الغرفة معتمة طقسها بارد نسبياً ورائحتها الزكية تعكس الجو الذي تعيش فيه المرأة الشاردة الذهن، كانت الساعة الخامسة وأربعة عشرة دقيقة، شاشة التلفاز من دون صوت تعرض فيلما وثائقياً عن صيد الكافيار، وظهر ضوء متقطع ينير زوايا الغرفة من حين لآخر نتيجة تغير مشاهدة الفيلم وينعكس على وجه الرجل المستلقي على الكنبة الطويلة بمحاذاة السرير الذي استلقت عليه المرأة الواهنة، ظهر أثر الكحول بادياً على الاثنين في ترهل الحديث بينهما الذي أوشك على الانقطاع.
"ألا تود انتزاع غفوة من النوم؟"
سألته كمن تريد هي التي تود ذلك، لكنها بادرته بالسؤال تحسباً من أن تتركه وتنام، لاحظ الشاب ذلك من صيغة سؤالها فبادرها قائلا بشيء من الرجاء.
"نامي ولا تبالي بي فقد تصحين ولا تجيديني حولك، ولا تنسي شيئاً مما اتفقنا عليه"
مرت لحظة صمت ساد خلالها الهدوء الذي يكسره بين فينة وأخرى ضوء التلفاز عندما يشع فجأة حاداً، لا يبدو أن أياً منهما لاحظ ذلك أو شعر به، كان الخدر يأخذ منهما ويبدو في صوتهما المتقطع الذي لا يكاد يطول عن عبارة أو عبارتين.
كانت ممدة على السرير وظهرها مسنداً على وسادتين أو ثلاث، وفيما ساق واحدة منكفئة والأخرى مستقيمة، وقبل أن تغمض عينيها أدخلت راحت يدها من أسفل صدريتها وحشرتها في أبطهما ثم سحبتها ووضعتها على أنفها لتشمها، كانت تخشى أن تنبعث منها رائحة العرق أو الدخان، فمنذ أن خرجت للحفل عند المساء لم تتوقف عن التدخين، ولم تغتسل حتى عادت واكتفت بالدخول للحمام دقائق للتبول وعادت مكانها مثقلة بكمية الكحول والدخان وقد أكملت الساعات الثلاث المنصرمة في الحديث مع الرجل في تفاصيل، لشدة ما انتظرت الشهور الماضية لبلوغ هذه اللحظة التي تدرك من خلالها أحقيتها في المصاريف الباهظة التي صرفتها من دون أن تقوم بشيء، ظلت تشعر بوخز الضمير وهي ترى نفسها تعيش وسط هذا البذخ من أموال لا تعرف إن كانت من حقها، ولا تعود لمن هم أحوج منها إليها، كان حسابها من مايك منفصلاً، وخمنت أن يأتي يوم ولو بعد حين يعود من وراء الضباب ويطالبها ببعض منه على الأقل، لقد وضعه في حسابها لخشيته من المصادرة، هكذا خمنت ولكنها عادت وافترضت بأنه على علاقة بالطرف الآخر الذي يمثله الفريق الركن من غير أن يظهر أي منهما تلك العلاقة، أفكارها كلها عبارة عن تخمينات حتى تلمست بعض الخيوط عندما كشف لها عبدالعزيز قبل قليل بعض الدهاليز التي يتوجب المرور بها، وتشمل السفر لباكستان وشراء سلع لمحلات تجارية تملكها ومسجلة باسمها، ربطت بين مايك وهذه المهمة وضحكت في سرها قائلة بسخرية داخلية؟
"طريقك طويل يا جبار الشريف"
إثر الليلة التي تلت الحفلة الصاخبة، ورغم قيامها بمسح عشوائي في ذاكرتها حول الأسماء والأشخاص وكل من يحيط بها منذ جاءت لمدينة دبي بحثاً عن ملامح شبح يقف وراء كل ما يجري، إلا أنها ألغت ذلك من ذاكرتها واستجمعت خيوط الخريطة الجديدة التي رسمها الشاب، وغادر كالآخرين الذين تلتقيهم ويختفون بعدها من دون أثر، تلت تلك الليلة إشارات مبهمة اتبعتها وقادتها لشخصية خرافية أشبه ما تكون بإحدى شخصيات "هاري بوتر" فسرت الأمر بأن هذا العالم السري الذي تعيش فيه قريب من عالم الأساطير وظهر ذلك واضحاً في المرأة التي قادتها لقصر حديث تسكنه شخصيات أشبه بالأشباح يقع خارج مدينة دبي وعلى طرفها الصحراوي.
خرجت من صمتها واندفعت تتساءل؟
"متى سأرى الشريف؟"
ردت المرأة التي ترتدي النقاب بحدة وبصوت أثار في يسرا التوتر.
"لا علم لي بما تقولين"
كان الكلام بين المرأتين مقتضباً إلى أن دخل رجل أثار انتباهها وجلس على الكنبة وساد على إثره الصمت، الصالة المستطيلة بدت فارغة من الأثاث باستثناء دولاب كبير من الألمنيوم أخذ حيزاً واسعاً من المكان، تنهد الرجل القزم ذو الشنب الأبيض المجعد والتفت نحو يسرا التي كتمت ابتسامة لا توحي بشيء سوى ثمة شعور ينبئ عن غرابة الموقف، رجل قصير وامرأة منقبة "أين عبدالعزيز الشاب الوسيم مرتاد الصالات الليلة؟" تساءلت في سرها وهي تتأمل الوجهين المقعرين وقد ساورها حدس عن الوجه النسائي الذي وراء النقاب، خمنت شكله وتوقعت ألا يكون وجهاً رقيقاً، تخيلت وراء الحجاب الأسود وجهاً قاسٍاً معتمدة على صوت المرأة الجامد والمقتضب "لماذا يُنَظمون نساء نزعت منهن الرحمة؟" أثارتها الخاطرة وهي تتصور الوجه من خلف النقاب، فيما بدأ يزول الشك حول الرجل الذي تحيط به هالة ضبابية سببها تغيير ملابسه "أين رأيته من قبل؟" إنها دنيا ضيقة ويكاد يحيط بها لغز كبير"كيف تدار الأمور في هذا الكون؟" كاد يفطر عقلها وقد رأت المستر مسعود الموظف بقسم الحسابات بشركة الخرسانة المسلحة التي يديرها سعيد الصراف في بريطانيا، هذا هو بلحمه وشحمه ولكن مع الشنب الأشعث والذقن الخفيفة " يا له من عالم صغير مخيف"
"ستأخذك السيدة إلى شخص يدعى ..."
قطع عبارته وتوجه للمرأة المنقبة قائلاً بلهجة آمرة.
"إلى ياسر"
"متى تصحبوني لجبار الشريف؟" ودت لو تصرخ بتلك العبارة وتنتهي من هذا الانتظار اللاهث الذي يستنزفها، خلطت بين المهام الموكلة لها ولكنها ظلت منتظرة الفرصة التي تقف أمامه إن كان حياً يرزق لتسأله "لماذا هجرتنا؟"
تأملت المرأة المنقبة من كافة الزوايا، قلبت الصورة، تخيلتها بلا نقاب، نزعت عنها ملابسها الخارجية، وانتزعت منها الهالة الضبابية، جردتها من صوتها الجهوري وسرحت في النتيجة، رأت امرأة بلا قلب في جسد رجل تقودها في صحراء قاحلة مليئة بالوحوش من الرجال، لا أحد يقوى على مجابهتها ولا التجرؤ على الاقتراب منها وإلا لقي حتفه، أفاقت من هذه الخاطرة العابرة على صوت المرأة ذاتها تجادل مسعود المحاسب اللندني والذي يبدو أنه عرفها وتجاهل أن يعلن عن ذلك أمام المرأة الفولاذية.
"لن نسافر على نفس الطيران، على كل منا أن تركب طائرة مختلفة"
رضخ لها مسعود وقد أساءها أن تجد الرجل يستسلم لها، وزاد من استيائها أن الاثنين لم يأخذا رأيها في الرحلة، فحتى هذه اللحظة لا تعرف طبيعة الرحلة ولا إلى أين ومتى وكيف؟ دارت برأسها كل تلك الأسئلة عن تفاصيل الخطة من دون أن يكون لها رأي، خرجت عن صمتها وقبلت بالتحدي قائلة بصيغة سؤال استفزازي.
"أليس من حقي معرفة التفاصيل؟"
ردت المرأة المنقبة مستبقة الرجل بلهجة توحي بالخدمة في العسكرية.
"عندما غادرتِ منزل اليازجي بالزبير هل عرفت حينها التفاصيل التي مرت بحياتك كلها؟"
أغمضت يسرا عينيها وتخيلت المرأة جارة كانت لهم، منزلها مجاور لمنزلهم، وقد تعرفها وصادفتها مراراً في الطرقات وتبادلت معها النظرات وربما هي واحدة من صديقات والدتها، ولعلها أيضاً دخلت منزلهم وأكلت معهم "كل ساعة يثبت لي العالم كم هو صغير".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر