الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سعيد ، ولكن … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2020 / 10 / 3
الادب والفن


هل السعادة في :
الغنى ، الصحة ، الجمال ، الجاه ، السلطة … ؟ ام في كل هذه التفاصيل مجتمعة ، وهو من سابع المستحيلات ؟
صاحبنا وبطل حكايتنا هذه لا يمتلك واحدة من هذه العوامل ، ومع ذلك فهو سعيد ، بل سعيد جدا … !
الاحداث في العهد الملكي في العراق ، وفي منتصف الخمسينات من القرن الماضي …
( نعيم ) وهذا هو اسم بطلنا … !
شاب قد تجاوز الثلاثين باشواط ، وشارف على الاربعين ، ولم يتزوج لعدم امتلاكه لمقومات الزواج المكلفة … اما عن شكله فهو ابيض البشرة … يعاني مما يسمى بشق الارنب في شفته العليا … متوسط القامة نحيف محدودب الظهر قليلا هزيل البنية شعره اجعد يميل الى الاحمرار مع صلع خفيف في اعلى الجبهه .
اما عمله … فهو يعمل ( كنّاس ) في احد اهم الاحياء في مدينتنا ، المسمى بحي الضباط ، وهو حي راقٍ ، وحديث في زمانه … بيوته كبيرة وحدائقها واسعة ، غنّاء … ضاحكةً بازهارها ، وورودها … يقطنه كبار الضباط الانكليز ، وعوائلهم ، والمسؤولين الكبار من باشوات ، وغيرهم في العهد الملكي البائد قبل انهاء الملكية في العراق … من امثال الكابتن موريس الذي وجدوه في المغطس داخل حمام بيته ميتا ، او منتحرا كما تطايرت الانباء … عندما نجحت الثورة ، وسقط النظام الملكي الاقطاعي بعد ذلك بسنين … !
المهم … !
ياتينا ( نعيم ) وبشكل شبه يومي باخبار الانكليز وعوائلهم بحكم عمله هناك … كيف كانوا يعيشون في رغد ، وبحبوحة اسطورية متمتعين بكل مسرات الحياة ولذائذها … يثير دهشتنا واستغرابنا بحكاياته … ونتعجب مما نسمع ، ولا نستطيع مهما اطلقنا العنان الى مخيلتنا الصغيرة المحدودة ان نتصور شكل الحياة عندهم ، ونقارن بين ما كنا نعيشه من بؤس وشقاء وعدم ، وبين ما يسرده على اسماعنا من اشياء خيالية ، وغريبة لا تتحملها عقولنا البكر الصغيرة !
كانت المرافق الصحية مثلا في ذلك الزمان الاغبر ترفا ما بعده ترف … لا تتوفر في كل البيوت … لهذا كنا في معظمنا نقضي حاجتنا في الازقة الضيقة كالبهائم ، وباختصار … كان اكثرنا يعيش كما تعيش الحيوانات المنفلتة ، وربما اسوء … !
وكان ( نعيم ) بالرغم من كل ذلك ، يسرد علينا بالتفصيل ما يشاهده من مناظر تسر العين ، وتنعش القلب ، وتفتح النفس ، حتى كنا نحسده على مهنته ككنّاس التي تتيح له كل هذه الاطايب والمسرات ، ويصور لنا باسلوبه المرح كيف يختلس النظر بحذر شديد الى الفاكهة المحرمة … الى الجنة بدون آدم … الى بنات وزوجات الانگليز الشقراوات الفاتنات ، وهن يلعبن التنس نصف عاريات ، او يسبحن في مسابح منزلية واسعة في حدائق البيوت الكبيرة … عاريات الا من ورقة التوت ، ويقفزن في الفضاء ، وكأنهن فراشات ملونة ، وكيف ان كل حديقة من هذه الحدائق كانت اكبر في مساحتها من حينا البائس كله . ربما كانت هذه المناظر ، وتلك الحياة فوق الخيال كانت تشكل الما ، وحسرة من نوع ما الى المسكين ( نعيم ) والتي سيكون لها اثرا مدمرا في نفسيته مستقبلا كما سنرى !
وتنعكس علينا ايضا فتجعل رؤوسنا تغلي بالاحلام الطفولية الفارغة … !
كما كان يسرد لنا كيف ان الضباط الانكليز كان عندهم سينما خاصة بهم تعرض افلاما عن الحرب ، والحب ، والغرب الامريكي … وغيرها يشاهدونها وهم نصف سكارى ، او كاملي السكر ، اما الطعام فمما لذ وطاب من زيتونٍ واعناب … يلقون الفائض منه دون مبالاة في حاويات الزبالة ، يجمع نعيم وزملائه الصالح منه وياكلونه ، وباقي فضلات الطعام يأتي بها الى بيت شقيقه ليتناولونها وجبة دسمة … وهكذا !
اما الغنى … فهو في واد والغنى في واد اخر … !
يعطي ( نعيم ) راتبه الضئيل كله تقريبا الى شقيقه الاكبر حتى يفرد له من بيت الطين الذي يقاسمهم العيش فيه غرفة صغيرة بالكاد تكفيه ، ولا تتوفر فيها اي وسيلة من وسائل الراحة والترفيه … !
ولكنه سعيد ، بل في غاية السعادة ، او هكذا اقنعنا !
لا تراه الا وهو مبتسم … ابتسامة لا تفتر … يصفر بلحن جميل ، ويقفز سرورا ، وكأنه يرقص في الهواء دون ايقاع ، ولا يحدد سروره شئ ، ولا ينغصه شئ مهما كان … متفائل على طول الخط ، وكأن الدنيا والحياة سهلة ، وبسيطة ما عليك الا ان تعيشها ، وتتمتع بما متوفر بين يديك من سعادة ، مؤمنا بانه يمارس حقا طبيعيا منحته اياه الحياة برغبتها او رغما عنها … لا فرق ! هذه هي فلسفته التي يؤمن بها !
فهو يبدو لنا سعيدا دائما مقبل على الدنيا غير مدبر ، ولا اعتقد ان احدا منا كان يعرف سر هذه السعادة الدائمة … هل هي حقيقية تنبع من اعماق اعماقه ، ام مفتعلة يداري بها ما يعتلج في داخله من الم ومكابدة … ؟ لا احد يدري … ! فعلى الرغم من كوننا صغارا الا اننا تصورنا بعقولنا البسيطة الطيبة ان سعادته حقيقية ، وفوق مستوى الشك !
كثيرا ما كان يأتي باشياء تبهرنا ، وتشعل خيالنا المحدود الفضاء بنار الخيال … نتحلق حوله ، وهو يعزف لنا على قيثارة مكسورة ، او هارمونيكا مكسورة ايضا ، او كمان بدون اوتار … قد قام باصلاحها جميعا بمهارة ، وحولها الى الات صالحة للاستعمال …
كما يعرض علينا معايدات وصور مليئة بالالوان ، والرسومات الجميلة لفتيات شقراوات يافعات يحتفين باعياد الميلاد وراس السنة … كل هذه الاشياء يجمعها مما تلقيه عوائل الضباط الانكليز من اشياء مستهلكة ، او تالفة في حاويات القمامة ، ونحن ننظر الى هذه المشاهد فاغري الافواه ، وكأننا مصعوقين بمس كهربائي !
يُسلمْ ( نعيم ) نفسه لشيطان الرقص … على انغام القيثارة ، والهارمونيكا فرِحا سعيدا … ربما متخيلا نفسه واحدا من الضباط الانكليز … ! ويصيبنا من سعادته ومرحه نصيب فتسري عدوى الرقص والغناء بيننا ، على امعاء خاوية ، واجساد هزيلة تسترها اسمال بالية … تصوروا ! في بلدنا يتنعم غيرنا بخيراتنا على حساب جوعنا ، ونحن نعيش الحرمان ، هذه هي الدنيا … قاسية لا قلب لها !
ولكنه يفاجئنا احيانا بقهقهات عصبية ، ويطلق ضحكات لا معنى لها كأنها طرقعات سياط ! حتى قال احدهم يوما ان نعيم يعاني اكثر مما نتصور ، وقد ياتي اليوم الذي ستقذف به هذه المعاناة الى غياهب الموت او الجنون … ! وما سعادته ومرحه الا بخارا حبيسا لابد ان يجد له متنفسا ، والا انفجر بوجه صاحبه وانهاه … !
لقد زلزلت هذه النبوءة ايماننا الراسخ في ( نعيم ) وفي سعادته التي وصفها البعض منا بانها حتما مزيفة … وصَدَقوا !
لاحظنا ان ( نعيم ) بدء يتهرب منا ، وعندما كنا نمسكه في طريق ما لانراه الا عابسا قانطا مطأطأ حتى نكاد لا نعرفه … ينظر بعينين لا تريان شيئاً ، يحاور نفسه كمجنون ، وازداد نحولا وشحوبا حتى فقد الوعي بما حوله … هل اصاب ارادته مرض ، فانكر الدنيا ، ولم يعد يعرفها … وتغلب يأسه على امله ، وحزنه على فرحه ومرحه … ؟! قال البعض ان نعيم قد سقط في قبضة الكآبة التي لا ترحم فنالت منه كل منال !
حتى كان يوما باردا من ايام كانون استيقضنا على اصوات موحشة تنعي ( نعيم ) وتعلن خبر موته المفاجئ ، ويقولون ان ابتسامة جميلة طيبة كانت تُشع من وجهه ، وكأنه كان يحلم حلما ورديا من احلامه التي تنسجها مخيلته المعدمة في نفس اللحظة التي خرج فيها السر الالاهي … فبقيت ابتسامته ساكنة مطمئنة على وجهه الطفولي البرئ ، وكأنها تعكس ما كان عليه يوما سعيدا مسرورا ! لقد كان شعلة من جمر فاصبح رمادا … ونسيا منسيا !
هكذا عاش ، وهكذا مات … فهل كان سعيدٌ حقا ؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج