الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: مستهل الفصل العاشر

دلور ميقري

2020 / 10 / 3
الادب والفن


1
رنّ الضحكُ في الدار، لينتهي عبرَ أثير النسيم الربيعيّ المعتدل إلى سمع بيان، وهيَ في مكانها تحت سقف الإيوان. هذا، كان نهاية فترة الحِداد؛ بحَسَب مشيئة امرأتيّ الشقيقين الكبيرين، اللتين لم تكونا بالأساس على علاقة ود مع الحماة الراحلة. لكن سبب الضحك، أحالته امرأةُ أصغر الأشقاء إلى حالةٍ من التشفّي والشماتة على خلفيّة حدثٍ آخر: لقد شاء جمّو شراءَ بيت حميه، وكان يأمل من خلال ذلك تأمينَ حياةٍ هادئة لأسرته بعيداً عن المشاكل اليومية في بيت أبيه. السيّد صالح، بادر بنفسه إلى هذا الإقتراح بعدما لجأت ابنته إلى كنفه مع طفلتيها، باكيةً من القهر. اهتز قلبُ الأب عندئذٍ، فاستدعى على عجل صهره كي يبلغه بعزمه على العودة إلى مزرعته في الجزيرة كون أمورها باتت على غير ما يرام.
" أعتقدُ أن التعويضَ الماليّ، الذي حصلتَ عليه لقاءَ خدمتك العسكرية، ما زال معظمه متوفراً لديك؟ "، قالها لصهره متسائلاً. ثم أردفَ، لما هزّ الآخرُ رأسه إيجاباً: " في هذه الحالة، سأنقل ملكية منزلي إليك لقاء ألف وخمسمائة ليرة. ما رأيك؟ ". وجه جمّو، أشرقَ في الحال، وكان ما أنفكّ عابساً مذ لحظة حضوره. رد بالقول، عقبَ وهلة تفكير: " بقيَ معي حوالي ألف ليرة، وفي الوسع تأمين بقية المبلغ بالدَيْن من أحد الأخوة أو الأصدقاء "
" لا أظن أنّ أحداً يقبل إقراضك هكذا مبلغ جسيم، بالنظر إلى راتبك الضئيل "
" إذاً، أبيعُ حصتي في دارنا إلى أخي حسينو "، قالها الصهرُ هذه المرة دونَ مهلة تفكير. ما دلّ على أنه وضعَ الإحتمال، مسبقاً، في ذهنه. ربتَ حماهُ على ظاهر كفّه بحركة تشجيع، ثم طلبَ منه أن يُبادرَ دونَ تأخير إلى مسعاه.
لكن الصفقة ما لبثت أن أخفقت، لأن طرفاً ثالثاً دخلَ على الخط. ذلك كان خطأ السيّد صالح بالذات، آنَ كشفَ الموضوع عن حسن نيّة أمام صهره الآخر؛ زوج ابنته البكر.

***
حدّو، كان يكنّ حقداً دفيناً لجمّو، برغم أن هذا الأخير رجلٌ مسالم وذو طبعٍ بعيدٍ عن العنعنات العائلية. ربما كان ذلك الحقد شيئاً غير ذي بال، ما لو ذكرنا طبيعة علاقته بأخته غير الشقيقة. فالسيّدة ريما، أثناء تواجدها في دار رجلها الأول في ماردين، كانت قد ربّت أخاها هذا كما لو أنه ابنها. لكنه، فيما بعد، ردّ الجميلَ بعدم السؤال عنها إلا لو كانت لديه مصلحة مع رجلها. ويقال عن دوره في الكيد لابنتيها، وذلك حينَ حملَ والدهما على إخراجهما من المدرسة الإبتدائية: " لقد فعلتَ ذلك مع ابنتك البكر، وأيضاً مع أختها رودا. فما حاجة الصغيرتين للعلم، إذاً، طالما أن مصيرهما سيكون في المستقبل الاستقرار في بيت الزوجية؟ "، كذلك كانت نصيحته لحميه وابن عمه. ما يؤكد لؤمه، أنه لم يكن ذا عقلية محافظة. بل وعُدّ من الرجال النادرين في عصره، بانفتاحه الإجتماعيّ وتحرره. من أدلة ذلك، أنه استعمل آله تصوير، أمتلكها مبكراً، لكي يلتقط صوراً لإناث العائلة والأقارب؛ إلى اصطحاب بعضهن لدور السينما، لمشاهدة الأفلام الرومانسية.
نشاط جمّو في حقل ثقافة بني جلدته، لاقت منذ البداية السخطَ والاستنكارَ من قبل عديله. لكن ما لم يتوقعه هذا الأخير، أن عاملاً بسيطاً مثل جمّو، سيكسَبُ من خلال عمله الثقافيّ والسياسيّ صداقةَ مَن أضحوا كبار رجالات البلد؛ كالأمير جلادت بدرخان، الشقيقين أكرم وقدري جميل باشا، القائد خالد بكداش، الوزير علي بوظو، الزعيم بكري قوطرش، العقيد محمد زلفو، الدكتور عبد الرحمن شقير وغيرهم. ثم أتت مناسبة وفاة السيّدة سارة، لتبيّن قيمة أصغر أبنائها، وذلك بالحضور الكثيف للمعزّين سواءً من الحي أو من الأحياء الدمشقية الأخرى.
هذا مع كون حدّو من الناشطين سابقاً في حزب " خويبون " الكرديّ، بالأخص الإسهام في عقد مؤتمره الأول في إحدى ضواحي بيروت بنهاية عقد العشرينات. آنذاك، كان حدّو يعيش في تلك الضاحية مع امرأة أرمنية، ساعدته في الاتصال مع أقارب لها ينشطون في حزب " الطاشناق ". هؤلاء هم مَن دبّروا قاعة المؤتمر، ثم حضروا افتتاحه، كما ووثقوا العلاقة بين التنظيمين. كان غريباً، إذاً، الانقلابُ المفاجئ في تفكير حدّو بحيث لم يعُد ليطيق مجرد ذكر اسم الكرد أمامه. ولعل عواطفه الشخصية لا علاقة لها بذلك التحوّل، طالما أن مسيرة حياته لاحقاً أثبتت حرصه الشديد على تأمين مصالحه دون التورّط في نشاطاتٍ أخرى. بكلمة أخرى، أنّ الرجلَ ما عاد ليهتم بالشأن العام وحصرَ كلّ طاقته في محاولة تأمينِ حياةٍ أفضل لنفسه ومن ثم لأسرته عقبَ زواجه من ابنة السيّد صالح.

2
منزلُ زعيم الحي السابق، بُنيَ على مساحةٍ شاسعة مع عدد قليل من حجرات النوم، شأن العديد من دور الحارة. ومثلها سواءً بسواء، كان يؤمّنُ الماءَ لأصحابه من بئرٍ، ينهلُ بدَوره معينَ شبكةٍ معقّدة من القنوات تحت الأرضية ( المسارب )، المتصلة بنهر يزيد. أكبر الأخوة، موسي، حصل من والده على بيتٍ في أعلى الزقاق، وذلك حينَ تزوّجَ لأول مرة. الأخ الآخر، حسينو، عمدَ أيضاً لما أقترن من امرأته الأولى إلى شراء منزلٍ يقع في منتصف الحي بالقرب من جادته الرئيسة. برغم تأهّل الأخوة الثلاثة الباقين، بقيَ بيت أبيهم على حاله دونَ تغيير يُذكر.
مشاكلُ النساء المتفاقمة، دفعت أولئك الأخوة إلى التفكير بتقسيم البيت. جرى الأمرُ في مطلع عقد الخمسينات. على الورق، أخذوا مقاسات البناء ككل ثم جعلوه في ثلاثة أجزاء شبه متساوية. بعدئذٍ عمدوا إلى القرعة، لتحديد نصيب الجزء الخاص بكلّ منهم. في النتيجة، حصلَ أصغرهم على صدر الدار، الذي يضم في قسمه الجنوبيّ بضع أشجار لوز، تفرشُ ظلالها على تربةٍ يباب. حصّة حسينو، نظرياً، ضُمّت إلى ذلك القسم. وهكذا كان أمرُ حصّتي الشقيقتين؛ عيشو مع حصّة سلو، ورابعة مع حصّة فَدو. هذا الأخير، حصل لاحقاً وعلى التوالي، على كلّ من حصّتي شقيقتيه. إذ عوّضَ الكبيرةَ برحلةٍ إلى الحج، بينما الصغيرة حصلت على بيتٍ، كان يملكه في أعلى الحارة، غبَّ عودتها في نهاية عقد الستينات مع أسرة ابنها الوحيد إلى الشام من مكان خدمته في حوران: في نهاية عقد الثمانينات، الشاهد على هجمة المتعهدين على الحي لإشادة أبنية حديثة مكان الدور القديمة، طالبَ أخلافُ الشقيقتين بحصتيهما؛ فخاضوا من ثم جولاتٍ في المحاكم لإثبات حقهم في ذلك الإرث، المزعوم. لكنّ هذا، حديثٌ آخر.

***
كنا قد تركنا جمّو، وهوَ طافحٌ بالأمل عقبَ حديثه مع حميه بشأن شراء البيت. في مساء اليوم نفسه، وكان إيوان منزله يتوهّج بنور قنديل الغاز الكبير، المتدلي من العمود الخشبيّ، الداعم للسقف، استقبلَ هنالك شقيقَهُ حسينو. قال له شقيقه، دونَ مقدمات، مبتسماً عن أسنان مسودّة: " لقد حصلتَ بفضلي على أكبر جزءٍ من بيت أبينا، كون حصّة الذكر بأنثيين! ". بادله جمّو ابتسامة مُجاملة، ثم رد بالقول: " وأنا أبتغي بيعَ حصّتي إليك، فيكون الجزء كله من نصيبك. ماذا تقول؟ "
" وأينَ ستسكن، إذاً، أنتَ وأسرتك؟ "، استفهم الآخرُ وهوَ يحدّق مدهوشاً من تحت حاجبيه الكثين. لم يكن جمّو يود كشف صفقة بيع منزل حميه، إلا بعد إتمامها. لذلك أجابَ، مُداوراً: " أنا أقيم حالياً في منزل أسرة زوجتي، وسيكون لديّ متسعٌ من الوقت كي أدبّر شراءَ منزلٍ يخصّني "
" ألم يكن ثمة حلٌّ أفضل، كأن ترفع جدراناً بينك وبين شقيقيك كي يحول ذلك دونَ مشاكل النسوة؟ "
" لو شئتَ فعل ذلك، فإنه من حقك. فأنا مصرّ على بيع حصتي لك، لألا تذهب إلى شخصٍ غريب "
" حسنٌ. كم يلزمك من المال؟ "
" خمسمائة ليرة "
" إذاً سأحضرُ في مساء الغد مع المال، فضلاً عن شهود الصفقة "، قالها حسينو فيما كان يتزحزحُ بتثاقل من مكانه. مثلما علمنا، كان عمله في البستان يبدأ في أول الليل. شيّعه شقيقه بنظراتٍ معبّرة، وكأنما يتأسّف على ما وصل إليه من حالٍ رثّة: لقد غدا أشبه بخفاش الليل، بلحيةٍ غير حليقة وشعر كث؛ هذا برغم زواجه من فتاة فاتنة من أسرة محترمة، وفوق ذلك، كانت الوريثة الوحيدة لأملاك والديها.

***
على المنقلب الآخر، كان السيّد صالح يرمي نظراتٍ تائهة إلى الليل، المتخم بنجوم الربيع. حقّ له أن يكون مثقلاً بالهموم، هوَ مَن سيبتدئ حياةً جديدة في مكان غريب؛ ولو كان قد أضحى مألوفاً لديه. بصمت وحرص، استهلت امرأته منذ الصباح جمعَ الحاجيات الضرورية للإقامة في تلك البلاد البعيدة، التي تمحضها النفورَ بالنظر للذكريات الأليمة، المعلومة. كان رجلها قد أوصاها بالكتمان، لحين إتمام صفقة بيع البيت. بيدَ أنه لم يكن بذات الحرص، آنَ فتحِهِ قلبه لأول زائر في هذه الليلة، المثقلة بالنجوم والهموم. رنّ جرسُ الباب، وما لبثَ صهره حدّو أن أقبل بقامته القصيرة وهمهمته بتحيّة المساء. عقبَ تبادله حديث المجاملات مع حميه، انتبه إلى علامات الغم على سحنته. لما ألحَّ في السؤال، ما كان من هذا الأخير إلا الإفضاء بموضوع السفر وبيع البيت. لعله أسرّ في نفسه، مهوّناً الأمرَ: " غداً سأذهب مع صهري جمّو إلى المحكمة، لإتمام إجراءات نقل الملكية. فعلامَ كتم الخبر؟ ".
ما لم يكن ببال أيّ من طرفَيّ الصفقة المأمولة، أن المحاكم تعطلت في اليوم التالي بسبب إضراب المحامين، وذلك على خلفيّة احتجاجاتٍ بخصوص استقلالية القضاء ومسألة المعتقلين السياسيين. حارسٌ، كان هنالك على مدخل المحكمة، تكلم معهما بلسانهما الأم وبنبرة مُطَمئنة: " على الأرجح، سيعودون للعمل غداً ".
غير أنّ جمّو وحماه، لن يعودا أبداً إلى المحكمة. ففي مساء ذلك اليوم، وكانا قد تناولا العشاء تواً مع أفراد الأسرة، هدر في سمعيهما صوتُ سلطانة. فور دخولها المنزل، اتجهت إلى شقيقها صارخةً: " أتريدُ بيعَ بيت أبينا إلى الأغراب، وانا ما زلتُ حيّة؟ ". كان ردُّ الشقيق، أن نهضَ من مكانه، دون التفوّه بنأمة، ليتجه إلى حجرة نومه. عندئذٍ التفتت إلى جمّو، لتكلمه والدموع في عينيها: " لو أنك تعرف مبلغ تأثّر أخيك الكبير بالموضوع، لدرجة أنني خشيتُ عليه من أزمة قلبية مفاجئة! "
" ولِمَ سيكون هذا حاله، وهوَ ما شاء الله يمتلكُ ثلاثَ بيوتٍ في الحارة؟ "، تدخّلت ريما وعلى شفتيها ابتسامة ساخرة. نبرت الأخرى للإجابة، زاعقةً معقّفةً فمها: " عن أيّ بيوت تتحدثين، هه؟ الأول، الذي في حارة الكيكان، قمنا بتأجيره. والثاني، سيحل فيه قريباً زوج ابنتك بيروزا عقبَ تقاعده من الخدمة. بقيَ الثالث، أينَ يقيم فيّو مع ربيبتك رودا، ونحن نشاركهما السكنى فيه كالضيوف الثقلاء ".
وإذا بجمّو يستقيم واقفاً، ليخاطب امرأةَ أخيه بلهجةٍ مريرة: " حلالٌ عليكم هذا البيت، فإنني لن أقبل السكنى فيه ولو لم يبقَ غيره على وجه الأرض ".

* الرواية الأخيرة من خماسية " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة