الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موهوب ، ولكن بطريقته الخاصة … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2020 / 10 / 4
الادب والفن


( شهيد ) … وهذا هو اسمه الحقيقي !
شاب موهوب ، ولكن بطريقته الخاصة … !
قديما وفي العهد الملكي في العراق كانت السينما هي المتنفس ، ومكان الترفيه الوحيد عند المقتدرين من الناس ، وليس كل الناس … فقد كانت ترفا لا يتوفر الا للميسورين منهم … فسعر التذكرة مثلا كان يكفي لمعيشة عائلة فقيرة من ثلاثة افراد ليوم ، او ربما اكثر !
نعود الى صاحبنا ( شهيد ) وموهبته … !
شاب في العشرينات متوسط القامة هزيل البنية مقوس الظهر … عميق السمرة … كسمرة المغيب ، وشعره مفلفل … يعمل في مجال المجاري … تنظيف البلاليع ، وتسليكها للاهالي باجر زهيد جدا لا يتناسب مع جهد وحقارة المهنة اللاادمية ، ولكن هكذا كان الحال ، وهكذا كانت الحياة تسير بنا كبطة عرجاء في ذلك الزمان !
وهو عمل على اية حال يوفر له ، ولاهله ما يسد رمقهم ، والبقية من راتبه تتكفل بنثريات حياته ، واهمها اقتطاع مبلغ تذكرة السينما ، وهو اقصى ما يطمح ويتمنى … بان يشاهد فلما عن الغرب الامريكي كلما تسمح له الظروف بذلك ليتفاخر امام الكل بانه قد شاهد العديد من هذه الافلام ، وله فيها رصيد ضخم ، وهي المتعة الوحيدة المتاحة في ذلك الزمان … محسود من يتمتع بها … !
اما نحن الصبية فلم يكن يتسنى لنا الذهاب الى السينما اما لعسر الحال المزمن ، او لارتباطنا بالمدرسة ، ودوامها وواجباتها الثقيلة والكثيرة ، والتي تحرم علينا هكذا تسلية … اما ( شهيد ) الغير متعلم ، ولم يذهب في حياته الى المدرسة فكان قادرا على الذهاب الى السينما في اي وقت يشاء ، وبما تسمح به ظروفه المادية كأن يكون مرة او مرتين في الاسبوع ! وكان لا يشاهد فلم ليس فيه اقل من ثلاث او اربع معارك كبيرة غير الشجارات الفردية في البارات وصالونات القمار … بين الولد ( بطل الفلم ) وبين اعدائه من الاشرار ، وقطاع الطرق من الگانگز اي رجال العصابات لانه يعتقد - وهو الخبير في هذا المجال - انه كلما زاد عدد المعارك كلما زاد استحسان ، وقبول الناس لهذا الفلم ، وخاصة المعارك بالايدي او بالزجاجات الفارغة … !
لذلك فهو يحرص على سؤال من سبقوه بمشاهدة الفلم ، ويسألهم عن عدد المعارك ، ويتوقف دخوله الى الفلم على جوابهم … لانه ، وببساطة لا يمتلك ترف المجازفة اذا كان الفلم بايخ ، وليس فيه من المعارك ما يكفي لاشباع رغبة ( شهيد ) وتصنيفه بالفلم الجيد او الممتاز … !
يقف ( شهيد ) عصر كل يوم تقريبا في بداية الشارع الرئيسي العريض والوحيد في الحي ، وفي مكان محدد اعتدنا ان نراه فيه ، وكأنه كان يتعمد ذلك … حالما بأن هذا هو مكان السينما الثابت التي يمتلكها ، ويجود بها علينا لنستمتع باحداث فلم كامل من الغلاف الى الغلاف ، وبالتفصيل الضروري ، والدقيق … مع الموسيقى التصويرية الخارجة من فمه … مجانا ، تاركا لخيالنا الطفولي الخصب ان يرسم المشهد ، ويتم المهمة ، وتكتمل المتعة البريئة … !
وعلى الرغم من انه كان يحمل بين جنبيه قلباً طيبا رقيقا … الا انه اذا جاء احدنا متاخرا ، وطلب منه ان يعيد سرد ما فاته من الفلم … كان يرفض ، ويطرد صاحب الطلب هذا شر طردة ، ويهدده بانه سيحرمه من الحظور … فهو يريد الانضباط ، والالتزام بالمواعيد كما في السينما الحقيقية فلا مجال اذن للتساهل في مثل هذا الامر … !
نتحلق حوله على شكل نصف دائرة ، ونحن جلوس على الارض المفروشة والمعفرة بالتراب ، اما هو فينتصب واقفا امامنا كطود شامخ معززا بثقة متناهية بالنفس ، ويبدء بسرد احداث اخر فلم شاهده في سينما الرشيد ، او الوطن ، او سينما نادي بورت كلاب ، واحيانا من خزينه الذي لا ينضب … يغرف من ذاكرة حديدية لا تغفل حتى عن ابسط التفاصيل ، ولا يبدء السرد الا بعد ان يهدأ الجميع ويشدوا انتباههم ، واهتمامهم لحركاته وطفراته وانفعالاته ، وكأنه قرد في سيرك … فبدونها لا يكتمل المشهد ولا تحلو السهرة !
الشاب موهوب بالفعل … !
عندما يمر على ذهني احيانا ذلك الماضي البعيد ، واتذكره ، واستعرض المرات القليلة التي شاهدته فيها ، وهو يسرد لنا فلما من افلام الويسترن ( الكاوبوي ) لاودي مرفي او سكوت برادلي او الن لاد او كاري كوبر ، وغيرهم من نجوم الصف الاول في هوليوود في الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي احن من بعيد الى تلك الايام على بساطتها ، وقسوتها وبؤسها ، اليس هذا امرا غريبا … ؟!
يبدء السرد مع الموسيقى التي يخرجها من فمه الذي يرغو ويزبد من فرط الحماس ، والانفعال المصطنع ، وتقمص المشهد وجلاله ، وكأنه سلطان من الجن … ثم يطلق ضحكات ملعلعة مقلدا احد الاشرار … وكان يقلد ايضا الموسيقى التصويرية بالضبط خصوصا اللحظات الحرجة التي يمر بها بطل الفلم اثناء انقاذه البطلة من أسر الاشرار … اعداء الولد ، وهو تعبير على ما اصطلحنا عليه ببطل الفلم .
فهو يجيد بالاضافة الى دقة سرد المشاهد … يجيد ايضا تقليد اصوات حوافر الخيول ، وهي تغير على الاعداء من قطاع الطرق واللصوص ، واصوات المسدسات والبنادق ، وغيرها من الاصوات التي تعلن مجئ البطل المفاجئ من العدم لانقاذ البطلة ، ويشرح بالعربي والانكليزي ، ويجيد بشكل خاص السباب والشتائم اكثر من غيرها في حوار الفلم … وكان يحرك فينا بواعث التفكير والتأمل والحلم ، وطبعا لم نكن نعرف هل ما يقوله انكليزي فعلا ، ام مجرد تصفيط كلام ، واصوات لا اكثر … لا ندري ! ولم نكن نهتم ما دمنا نستمتع باحداث الفلم ، وكأننا نعيش فعلا وقائعه … او كأننا جالسون في احد الالواج في السينما … !
المهم
كان الشاب موهوبا بالفعل في هذا المجال ، ولو كان في امريكا مثلا لاصبح ممثلا بمستوى كاري كوبر او راندلف سكوت الممثل العجوز البارد التمثيل وضعيف البنية الذي لم يكن ينال الكثير من الاعجاب بيننا …حتى شهيد نفسه لا يفضله كثيرا فيقول عنه بانه لا يتعارك مع الاشرار كثيرا … عجوز وحركته ثقيلة ، وجبان !
واذا ضايقه واحد منا يتوقف عن السرد ، ولا يستأنف الرواية الا بعد ان نتوسل ونتوسل ، ونضرب من زعّلَه او ضايقه من زملائنا حتى يعود ، وتعود الامور الى مجاريها … انها عجائب وغرائب لا يعيش معها الملل … اليس كذلك !
واستمر الحال هكذا بين مد وجزر ، حتى بدء تواجد ( شهيد ) يقل يوما بعد اخر ، واصبحت رؤيتنا له نادرة … اخذ يختفي من المشهد فترات طويلة ، ولم نكن نعرف السبب ، وفي الحقيقة لم يكن يهمنا الامر كثيرا لانه ليس سوى تسلية … !
ثم انقطع تماما … واختفى ، وكأنه رائحة وتلاشت في الكون !! ولم يشعر بخسارته سوى البعض من مستمعيه من محبي ومدمني السينما من صبية الحي ، ولكن اكثر الناس تضررا كانوا اصحاب البلاليع ، والمجاري التي كانت بحاجة الى تسليك فهو الوحيد القادر بخبرته ، وشطارته ان يعالج مثل هذه الانسدادات .
واختفى ( شهيد ) كما يختفي الشهاب في تيه الفضاء دون اثر … !
كثرت الاقاويل عن سر اختفائه … البعض يقول بانه قد يكون ذهب الى الكويت للعمل هناك ، والبعض الاخر يقولون انه سافر الى مكان بعيد قد يكون امريكا ، والاكثرية يقولون بانه كان معتل الصحة على الرغم من شبابه بسبب عمله الشاق والغير صحي ، والذي التهم من عمره الكثير ، وقد يكون مات … اين مات ، وكيف مات … الله اعلم !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب


.. شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً




.. عوام في بحر الكلام - الفن والتجارة .. أبنة الشاعر حسين السيد