الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(مزامير المدينة*) تصدح بسوناتا البقاء

غازي سلمان

2020 / 10 / 4
الادب والفن


(انا اكتب بالرغم من كل شيء وبأي ثمن، فالكتابة كفاحي من اجل البقاء) : كافكا

استحصلت الرواية العراقية ما بعد السقوط الدراماتيكي للنظام السابق عام 2003 وما تلاه من تغيير عاصف، فضاءاتها المستحقة من الحرية التي كانت قد أُستلبَت خلال عقود تسلطه، تلك الفضاءات المحظورة نزهتها فيها او محجوبة محمولاتها عنها بمغاليق تعسفه، ممثلة بالتاريخ، والهوية الوطنية وثقافات الأعراق والديانات والمذاهب، إضافة الى تابوات السياسة والدين والجنس، فكان لابد للرواية من اعلان قطيعتها مع رؤية سلطة ذلك النظام المنغلقة، بغية استعادة الهوية الوطنية من براثن الفن التعبوي الرخيص، وهتك مفاهيم حقبته المعنونة بكل اشكال الاستلاب والقهر، واستثمارها كثيمات جديدة تضاف الى فضاءات واقعها بعد التغيير المحتشدة بمستجدات السياسة والتاريخ والفساد والاقتتال الطائفي، فما الرواية الاّ نتاج المكونات السوسيو- ثقافية والتاريخية والجمالية للواقع، التي ما ان تتظافر في النصّ حتى يتشكل فضاءه السردي من خلال فاعلية توظيف طاقة الكاتب التخييلية المدعمة بأفكاره، وعمق وعيه المعرفي، ليتخلق واقع مواز اكثر عقلانية واقناعا، وهو ما تمكنت منه رواية ما بعد التغيير عبر صياغة مضامينها المغايرة عن ادب تمجيد حروب حقبة الديكتاتورية وغسل الوجه القذر للنظام، فنجحت بذلك من تجسير الثقة بينها كفنٍ وبين المجتمع كمتلق له، تعرّفه بحقوقه وقيم الحياة السامية لما تمنحه من فهم مغاير عن التحولات الاجتماعية والفكرية المستجدة، مستثمرة الاساليب الحديثة في السرد وموروث تقنيات الرواية العراقية والعالمية معا.
والكاتب علي لفته سعيد احد الكتاب الذين ابكروا في رفد المنحى الجديد للرواية العراقية المتسم بالنزوع الى التجريب والتجديد في الاساليب السردية للتعبير عن المتغيرات التي انتجها الواقع الجديد. اذ يصحبنا عبر فضاءه الاستعاري (مزامير المدينة) وهي احدى منجزاته الابداعية، الى مضماري مرحلة الديكتاتورية وما بعدها، وقد تزوّد منهما زوّاداته بانتقاء الرحالة المخضرم الذي عايش كلا الحقبتين كاتبا قصصيا وروائيا، لينطلق في سفر السرد الذي بدا وعرا، وهو يخوض غمار البنى الاجتماعية والسياسية الهشة على مستوى الأمان والسلم المجتمعي، وقد تعاقبت دمغة تسلط الانظمة من خلال استمرار حضور أيديولوجيا الماضي في ذهن البنى السياسية الجديدة، وحيث ما زالت السياسة نقيضا للثقافة والفنون، وما برحت السلطات الحاكمة (تتحسس مسدسها كلما سمعت بكلمة ثقافة) – جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي-
ألا ان واقعا ما بعد الديكتاتورية، لم يزل مسكونا بصراع ثلاثة قوى فاعلة فيه: السلطة السياسية الحاكمة، والمجاميع الدينية برموزها المتحصنة بالمقدس، والمثقفون المستقلون، فلابد وان تشتبك نوتات مزاميرالكاتب مع السياسة وتتشابك بالأفكار، وهو يبحث في مكونات الواقع بإطاره البانورامي، راصدا ذلك الصراع في ظل طبيعة العلاقة النفعية بين السلطة الحاكمة والجماعات الدينية التي دفعتهما الى التحالف والتعاضد بغية تشديد الخناق على الابداع والثقافة لمواجهة التيارات السياسية والاجتماعية المدنية والنخب الثقافية ذات التوجهات المتعالية على تأثير الغيبيات ومفهوم المقدس وما ينتج عنه من محظورات، واهتزاز في موقف المثقف الذي تتنافس تلك الأطراف على استقطابه واستمالته اوالحاق الأذى، أي اذى به، الأمر الذي وجدت فيه "شخصيات الرواية المثقفة "نفسها بين فكيّ رحى، (الحكومة - التيارات الدينية السياسية) التي طالما سعت لانتزاع مساحات لها من حرية التعبير لتخطي تراكمات ايديولوجيا الماضي ومجابهة اعادة إحياء انساق محظوراتها التي تشكل عائقا امام انطلاقة تجدد الافكار واعادة النظر في القيم المجتمعية المتوارثة.
وقد حسم الكاتب بوعيه المعرفي امرَ التعبير عن ذينك الحقبتين من خلال فاعلية شخصيات روايته المثقفة، ودورها المؤسس في تعيين سمات الفضاء الايديلوجي والثقافي، فالروائي كمثقف لابد وان (يُضمّن عمله ملامح من صورة المثقف وفقاً لمنظوره الخاص والتي ربما تتطابق مع حقيقة المثقف في الواقع، لكنها بالتأكيد تعبّر بطريقة أو بأخرى عن مكانة المثقف في المجتمع)1، تلك المكانة التي أفصحت بوضوح عن ازمة المثقف العراقي الباحث عن الحرية والكرامة الانسانية الا انه لم يقبض الا سرابا:
(كل شيء في هذه الدنيا كذبة ونحن الحقيقة المالحة، صرنا مزدوجي الحقيقة والرأي والاتجاه المتغير) الرواية ص203
فحين مدّ المثقف قامته خارجا من ظلمة النظام الديكتاتوري السابق، وهو ينوء بثقال الآمال المؤجلة وخيبة الامل، دخل بعد اسقاطه قبرا، لم يكن ليتوقعه، ليجد وطنه وقد اضحى مِزَقاً، مكتشفا انه في مواجهة السلطة مرة اخرى:
(حين كنت تقف امام صورة معلقة في باب المقبرة، تطلق سيل احتقارك وتلعن الزمن الذي جعل الصورة تلطخ الجدران حتى في المقابر وقد زادت على صور صدام (1000) مرة، وتلعن الساعة التي جاء بها هؤلاء وهم بالمحابس ويهيجون الناس باسم الدين والتضحية في سبيل الله والوطن) الرواية ص72
عزز الكاتب سطوة الراوي بضمير المتكلم، ما أتاح له توسيع دائرة التشخيص من خلال استبطان العوالم الداخلية لشخصياته واستقراء انفعالاتها ورؤاها واحلام يقضتها، للتعريف بها والتعرف على مواقفها من الصراع القائم بين الاتجاهات الفكرية السائدة، مستدعيا حكاياتها المتماضية الى حضرة الحاضر، عبر مسارات روي بلغة بالغة التكثيف، متواصلة التداخل، بدت مستوياتها متناغمة مع حركة شخصياته، رغم تباين مراوحة السرد عند الكثير من المساحات المكانية والزمانية المختلفة حيث لم يكن الكاتب ليشيّد فضاءه الروائي على حدث واحد بدأ بالتنامي لينتهي عند حد معين. ما منحه حرية اوسع في التخلي عن التنظيم المتسلسل المنضبط لعناصر السرد، وتبويب فصوله التي جاءت بعناوين مضمرة لها ايقاع الشعر المنثور، حصرت فهم المتلقي بما سيرد بعدها. وكل ذلك جعل النص متماثلا فنيا مع غائيته باعتباره نصا تحليليا للذات الساردة المنتهكة بأزمنة عنف مغشية بالموت ، الموت الذي اصبح فضاء دلالي للرواية.
ولكي يكسب الكاتب شخصياته مشروعية حضورها، منحها فرص وافية للانعتاق من سلطته اللغوية، بإدراكه كيفية ترسيم وعي كل منها، من حيث تنوع ثقافتها واختلاف مهنها وانحدارها الطبقي، معبرا عن رؤاها بمنطوقي التوصيف والإخبار، وعَبرَ تطويع لغة السرد لمستويات متناسبة مع قدراتها المعرفية، حتى انه لم يفرض اللغة الفصحى كلغة معيارية للسرد، بل هجنها باللهجة العراقية الدارجة مستزيدا من الامثال والاغاني الشعبية، وهو ما ساهم في توسعة بلاغة التعبير وايصال المعنى الذي يبتغيه بسلاسة بذخت على سرديته انماطا من الرؤى الجمالية جعلت النص يرتقي بمستوى اللغة الابداعية المجازية ويحتفي بكل جمالية الحكي.
واحسب لحظتئذ ان الكاتب قد ادرك ما ادركه قبله بعقود من الزمن شاعرنا الراحل( حسين مردان) حين كتب:
(ان بعض الكلمات الفصحى قد فقدت حيويتها و خمدت فيها الحركة فهي اشبه بكرات زجاجية, من زجاج كثيف لا ينبعث منه اي شعاع و حرارة في الوقت الذي نجد بعض الكلمات العامية تحتفظ في داخلها
بكمية كبيرة من التدفق اللوني و اللهب المشرق و الموسيقى الجادة) 2
وما الكاتب هنا الا ساردا متواريا خلف ضمير المتكلم متخذا لنفسه دور راوٍ مشارك بصيغة (الانا) التي ما ان ولجت النصَّ حتى تحقق لها تذويتها من خلال تماهيها مع الشخصية المحورية"محسن" فضمير المتكلم دائما ما يستدعي خزين لاوعي الكاتب بنسب متفاوتة، وان (الكثير من لغة تقديم الشخصية أو وصفها أو كلامها إنما يأتي انعكاساً بدرجة أو بأخرى من علاقة الروائي بشخصياته المتخيلة، أو المتخيلة التي لها أصول حقيقية، أو الحقيقية في تجربته)3
متوسلا ملكة التخييل في تنصيص مرجعية مشتركاتهما الواقعية معا، فنجح في ايهامنا بتخييل الواقعي ماحيا بذلك الحدود الفاصلة بين ما هو ادبي وبين ما هو واقعي خارجه. وكان من مخرجات التماهي واستغراق الراوي في شخصية (محسن) ان انشطر صوت الروي متوزعا بين محسن كشخصية مخاطَبة وبين مناجاة الذات لذاتها، والمناجاة هي احدى أوجه المونولوج، اذ راحت الاحداث تصدرعن (محسن) لترتد اليه ثانية، الامر الذي شكل منه بؤرة سردية، وبؤرة اشكالية في آن واحد، توجت ثيمة الرواية برؤيتها، في ذات الوقت راح صوت الراوي يعرّفنا بالشخصيات الاخرى متحدثا عنها، وهو ما يؤدى الى (ايجاد نوع من الحوارية الداخلية التي تنبع من داخل البناء الروائي وليس من حوار الشخصيات، من خلال اتحاد الراوي بالشخصية، مثلما يتحد السرد الموضوعي بالذاتي في عملية البناء الروائي)4
ان الأثر الروائي لـ (مزامير المدينة) ما انفك يتنامى صراعا بين موقفين، ينمّ عن تناقض في مفهوم العلاقة بالوطن لدى الفرقاء، وتباين حاد في رؤيتهم لمستقبله، فعلاقة النخب المثقفة به هي علاقة انتماء اليه، فيما مفهوم علاقة السلطة الحاكمة بتحالفاتها ووعاظها، على انه غنيمة تحقق لها امجادا زائفة تتغنى بها من على اعالي ركام الخراب الذي تنتجه. وفي ظل احتدام هذا الصراع الذي سوف لن يتوقف مهما قويت اطرافه او وهنت، وتحت وطأة اقتفاء الساسة الجدد سيرة النظام السابق في محاولة اعتلاء ظَهر المثقف، ودعوته حين الحاجة اليه، لتبرير اخفاقاتهم وتزيين قبحهم، قدم لنا الكاتب نماذج متعددة لشخصيات مثقفة" اختلفت في العلاقة والموقف من السلطات بكل اشكالها سواء الحاكمة منها او سلطة المقدس والقيم المجتمعية الراكدة.
فشخصيتا ( مهند وناهض) قد انحازتا بعد عام 2003 ،الى تنظيمات دينية تقربت الى السلطة السياسية وتنفذت فيها حيث صاحبا راعي اغنام متجول(سيّد) ترك مهنته ليعمل في (الدين -السياسة!) استكمالا منهما لممارسة دورة الخنوع والانتهازية اذ كانا يخدمان في جوقة اعلام النظام السابق واستمرارا لوظيفتهما في الحاق الاذى بالأخرين من خلال الوشاية بهم، فكانا يحرّضان "الراعي السياسي" على مضايقة صاحبهما "محسن" ليكونوا جميعا مصدر قلقه وخشيته باستمرار:
(المتقلب ناهض ربما يتعاون مع مهند في تخطيط المؤامرة، لأني اعرف كيف كانا سابقا وكيف هو حالهما اليوم، الافضل لهما التفكير بالتخلص منك من خلال تلك الاتهامات ..) الرواية ص221
ويناقضهما في الموقف"محسن" الكاتب القصصي ، الى جانب صحبة مثقفة اخرى، بلا انتماءات سياسية اوعقائدية، ومختلفون في المستويين المعيشي والطبقي :( يوسف صاحب القلب الجميل. ...ساعدته شهادته في الحصول على الاحترام وهو ما يجعلك تنظر اليه على انه اكاديمي) الرواية ص 179 ومحمود ابن لتاجر وجمعة القادم من بغداد بعد الحرب الاهلية2007 ليكمل دراسته الجامعية، وشاكر صاحب محل الاستنساخ وهو وكر اريحيتهم وصخبهم، ومجتبى(السيّد) (سليل الرسول) وسليل الثراء، و كاتب الشعر (الذي برز حضوره بعد عام 2003، لم يكن معروفا، كان منزويا وخائفا من النظام، وظل يسير كما يقول قرب الجدران لأنه لا يريد العودة الى السجن..) (الرواية ص35) لذا فضّل الانسحاب من الخوض بجدية في أي من القضايا السياسية خصوصا، وصنع له عالماً يضمن له السلامة من خلال اللوذ بالتفكه والسخرية ( كأنه ينتقم من الحزن ويكتم كل ما فيه داخل ضحكة يتيمة تبدو على محياه) الرواية ص79 فتحول جلّ همه البحثَ عن وسيلة لزيادة في عطاءات والده الناقم عليه بسبب كتابته الشعر وصعلكته فلم يعطه المزيد.
ان"محسن" وقد سلك جادةً مغايرة تماما، قرر ان لا يعتاش على نتاج خزينه المعرفي مفضلا العيش على الهامش، هامش الحياة المادي الذي ورثه من فقر عائلته، راح يعمل في مهن عدة لا تنتمي اليه كمثقف، حتى قاده العوز الى ان يعمل حفار قبور، ليستعيد بمهنته هذه تسلسلية فواجع الحروب، وذاكرة الخراب المتأبد منذ ما قبل 2003، وهو المؤمن بسلطة الثقافة في المساهمة في توطين ثقافة السلام والحب في ارض يتآكلها الفقر والاقتتال على مر قرون، وجد يقينه في تفاعل الثقافة مع كل المسلمات المجتمعية المتخلفة، بما انها تضفي معان مستجدة على موجودات محيطه لادراك معنى لوجوده كذات فاعلة، وليس عبر توافقية رخيصة مع السلطة الحاكمة والمتحكمة.
فيتحدّث الى (ناهض):
(عليك أن تجد طريقك الذاتي من خلال عقلك لا من خلال وجدانية مصلحية و عاطفة مزيفة... و كان يردّ عليك أن لا مستقيم يبقى مستقيما و لا طريقا باتجاه واحد..." ) الرواية ص.129
لم يكن امام محسن اذن، الا العيش في عالمين متناقضين، عالم بمسلماته ويقينياته الثابتتين، شاسع مترامي باللاعدالة والمظالم وفوضى السياسة، ضاجا بعويل الامهات الثكالى على ابناء تتلقفهم آلات الحرب والتصفيات السياسية.
وعالم بفضاءه الضيق يمده بنسغ الموائمة المؤنسة، يركن اليه ليستمد منه القدرة على الكتابة(إرم هذا الكسل برصاص الكتابة لأنها وحدها الحقيقية التي يمكن لها مواجهة التعنت..) الرواية ص158، فهو عالمه الذي تَشيّد من الصحبة المثقفة ومن خيالات والديه المتوفيين، ليكنز ذلك كله في خزائن وحدته "بيته" الذي يختلي اليه محتميا من شرور واقعه، فهو الحضن الذي يسرّب اليه انشغالاته ومحنه واحلامه، وهو صومعته التي تتسع لإحياء طقوس استحضارات (ارواح) كل اولئك، ومنهم الاب، تلك الذاكرة الحية التي كلما غرف منها محسن يشخص الوطن امام المتلقي مثقلا بمآسي تاريخه كلها،( قالها لك قبل عقود، الأب المغرم بتفاصيل التاريخ وهو يحكي عن الحرب إن قامت في العراق لن تقف وأسماها مثل طابوقة )الرواية ص8
فلاغرو ان توشحت نوتات مزامير المدينة بإهدائها له:
(الى ابي مرة اخرى ... علمتني مواجهة الصعاب.. وتركتني للأثر) الرواية ص5
وسيضيّف "محسن" في منزله، اطياف عشيقته"سلوى" التي نمت علاقته بها بعيدا عن سطوة المجتمع وايقوناته الاخلاقية (وهي زوجة لعسكري سابق بترت له حرب الثمانينيات من القرن الماضي رجولته) وهي ضحية للحرب ايضا، وجدت في رجولته الكاملة ما تفتقده في زوجها، حيث ضمته الى عالم رواءها المطيب بالشبق والنشوة الحميمة ودفء المعاشرة، فيما كان محسن ينهل من عشقها حنان الامومة الذي حُرم منه طفلا (اعرف انك تمضي حياتك تبحث عن حنان حتى لو كان صدر امرأة ليست امك، سأكشف لك سرا، إني اراك حين كنت تنام مع سلوى تضع راسك في رقبتها قريبا من صدرها وكنت ابكي لانك تعوض فقداني بها.) الرواية ص 167،) مستشكفا عالمها الأنوثي ليشكل منه عالما اخر مواز لواقعه المضطرم بالمتضادات: الكتابة والخيال والاحلام الراكدة، والواقع المحتشد بفجائع الحروب وبمكابدات انكفاءاته المتلاحقة، وبمحاولات استعادة هباتها من اللذة الحميمية في العاطفة والجنس وكأنه يضيء عتمة ذاتها بحثا عن ما مضيّع من أناه فيها، فقد باتت سلوى تختزل ذاكرة مراحل عمرية كاملة منه، حتى اصبحت سلواهُ وهاجسه الى سحر الكتابة، ومنفذه خارج ربقة العزلة المرتهنة بالرعب والقلق على مصيرها، بعدما هجرته، حيث ظل يستعيدها اطيافا تؤججها جمرات شغفه، وعبثية بحثه المحموم عنها، متعايشا مع صراعه الداخلي بين ما ينبغي ان تبقى عليه وبين ظنونه بها مشوبة بتأنيب الضمير لانه ساهم مع الحرب في تعميق مأساة زوجها: (كنتَ ألعن من الحرب لانك لا تصيب جسده، بل بمعناه في الحياة ... كلما فكرت بسلوى عليك ان تتذكر كيف كنت تهرب منها او اردت الهروب، وكيف تمنيت لو ابتعدت عنك وصرت مشغل مولدة كهربائية فوق سطح فندق حتى لا تعود اليها مساءا، وتكفّر عن سيائتك اتجاه زوجها،) الرواية ص 172 وهكذا تبلورت هذه العلاقة لدى محسن بمستوى مفهومها الانساني، اذ لم تكن حاجته منها الى الجنس ميلا حسيا مجردا بحد ذاته،او وسيلة لاثبات فحولته، فقد رفض ان يمارسه حين تهيأت له الفرصة مع فتاة عثرعليها في حفرة قبر مع شريكها. فما سلوى في الحقيقة الا احدى(المخيلات التي تمنحك بعضها قلقا، وبعضها يدعوك الى اكمال صناعة الجمال المحفوف هو الاخر بالقلق لمصير سلوى، فكأن الكتابة لديك هو كيف تصل الة معلومتها لكي تستكمل الرواية في جزئها الثاني..)الرواية ص193
و"محسن" تلك الذات الخلاقة الحائزة على اكسير الجمال النقي، بما تختزنه من((صفات ثقافية وعقلانية مميزة، تؤهلها للنفاذ الى المجتمع والتأثير فيه بفضل المنجزات القيمية الكبرى) بحسب "ماكس فيبر-
أي ان دور المثقف لا يرتبط بطبيعة الحال بالكم المعرفي بل بما ينتجه هذا الكمّ من افكار تؤهله لدور ريادي يسهم في تشكيل فكر الفرد واعادة صياغة وعيه دون ان يقسره على القبول او التفاعل مع منجزه الابداعي بل يترك له حرية التفاعل معه ،مقارنةً ومقاربةً مع واقعه.
وبهذا عدّ "محسن" الكتابة مرتبة عليا من الادراك الانساني التي ترتقي به موقفا من العقائد الدينية والاجتماعية السائدة، التي ما انفكت تنخر في القيم الحضارية لتكرس قيمها الهزيلة، قيم الصراع على السلطة والمال التي تكلف المجتمع مزيدا من الانقسام والتناحر، فالكتابة فعل تخليق الجمال في مواجهة القبح تأكيدا للصراع الازلي بينهما، وهي الفن - كما يراه "كافكا"(ان تبهر انظارنا الحقيقة، فليس هناك ضوء حقيقي الاّ الضوء الساقط على الوجه القبيح المتراجع.)5

لتكون الرواية التي يأمل "محسن" اتمامها هي منجزه القيمي الكبير وملاذا لذاته المسكونة بالتوجس من فقدانها هويتها ومسخ استقلاليتها، ووسيلته لتمرير أفكاره غفلة عن اية سلطة، ووثيقة ادانة تمتلك سلطتها المؤثرة. وهي بالتالي مزاميره الصداحة من اجل البقاء.
مثلما هي سوناتات (مزامير المدينة) التي ما انفكت تصدح بمرارة المحنة، محنة جلجامش التي تلتم عندها اوجاع وطن ينتظر دوما حربه القادمة. (يموت الرجل في مدينتي، وقلبه مثقل بالهموم، يهلك الرجل وهو محزون القلب، ها أنا ذا أنظر من فوق الأسوار، فأرى الجثث تطفو على النهر، وأنا سيحل بي حقا نفس المصير).
الهوامش
*رواية الكاتب العراقي علي لته سعيد –الصادرة من دار الفؤاد للنشر والتوزيع- ط1 – 2018
01. هويدا صالح الصورة – مقالة – الصورة الروائية للمثقف - موقع صحيفة البلاغ2013 /11/02
2. محمد الجزائري - ويكون التجاوز، دراسات نقدية معاصرة في الشعر العراقي- مطبعة الشعب - سنة 1974
3.جماليات الشخصية في الرواية العراقية. د. نجم عبدالله كاظم- دراسة - موقع كتاب العراق-4/12/2010
4. د.قيس كاظم الجنابي – الرواية العراقية انماط ومقاربات- منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2012. ص87
5. روجيه غارودي واقعية بلا ضفاف- ت. حليم طوسون - دار الكاتب العربي -1968 .ص196

بغداد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن