الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-إخوان الصفا- والموقف من الشريعة وخَلقْ الإنسان والخلافة (2/3)

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2020 / 10 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


 
يقول التوحيدي في معرض حديثه عن "الجماعة" : "إنهم قالوا ان الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، لانها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية. وزعموا انه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية، فقد حصل الكمال".
هذا الكلام يقوله التوحيدي بعينه، لم يكن ليقوله الا وهو يعلم من أمر "الجماعة" وأمر العصر ما هو واقع، أو ما هو احدى صور هذا الواقع، وفي "رسائل" الجماعة ما يدعم ذلك ويؤكده، كما يقول د. حسين مروة:
"الاخوان" ياخذون بفكرة "الخطيئة الأصلية" لبني الإنسان منذ آدم، على نحو ما تصفها الاديان القائلة بها. ولكنهم يرون – أي "الاخوان" – ان الإنسان خرج من ربقة([1]) هذه "الخطيئة" بعد توبة آدم وامتثاله لأمر الله الثاني ووصيته الثانية، ثم جرى على ذلك من استخلف في الأرض بأمر الله بعد آدم، وجعل وصية الله هذه، كلمة باقية في عقبه"، وهذه "الكلمة" هي "خلافة النبوة ومملكة الرسالة والامامة، فمن تعدى هذا الأمر (الالهي) وخالف هذه الوصية، وطلب أن يكون خليفة الله تعالى ليدبر خلقه بسعيه وحرصه، فانه لا يتم له، وان تم وقدر عليه فانما هو خليفة ابليس، لانها حيلة ومكيدة وخديعة وتعد وغصب وظلم وعدوان وخذلان وطغيان وعصيان"، فلننظر في هذه الصفات الأخيرة المتلاحقة، (.. غصب، ظلم، عدوان، خذلان، طغيان، عصيان).
ليس يحتاج المرء إلى جهد غير عادي، لكي يكتشف مرمى هذا الهجوم، أي من يقصد "الاخوان" بهذه الأوصاف السلبية المثيرة، فانه لمن الواضح ان الذي تم له ان يكون "خليفة" بتعدي أمر الله ومخالفة وصيته لآدم، فأصبح بذلك "خليفة ابليس" انما هو من يتسمى بـ"الخليفة" في عصر "اخوان الصفاء"، وهو ليس "خليفة" واحداً بعينه، بل هو كل من يتسلم منصب "الخلافة" الرسمية في الدولة الاسلامية المعاصرة لهم (الخلافة العباسية)"([2]).
يتوضح هذا الهدف لدى "اخوان الصفاء" في أمكنة أخرى من "الرسائل" حين هم يتعرضون للعباسيين بتعابير شفافة، فيصفونهم بأنهم قتلوا "الأولياء وأولاد الانبياء"([3])، وحين هم يكثرون من التعريض بالسلطان الجائر، وينددون بمن ينصب خليفة لله في أرضه، ويملك رقاب الناس ويبسط يديه في البلاد لينصف المظلوم من الظالم، فاذا به يصبح هو الظالم وهو المتعدي على الضعفاء والمساكين.
جزء آخر من "الرسائل" نجد "إخوان الصفا" حيث "يبشرون" بفكرة "دورية" المُلْكْ والدولة، وانتقالهما في كل دور من أمة إلى أمة ومن أهل بيت إلى أهل بيت، ومن بلد إلى أهل بلد، ثم يضعون العلامات التي تنطبق على جماعة "اخوان الصفاء" نفسها ومن ينضوي إلى دعوتها، واصفين "دولتهم" المنتظرة بأنها "دولة أهل الخير"، التي ستكون مدة حكمها "مئة وتسعاً وخمسين سنة" وهي الدولة التي "يبدأ أولها من قوم علماء حكماء، وخيار فضلاء يجتمعون على رأي واحد ويتفقون على مذهب واحد ودين واحد، ومن الخصائص التي يتميز بها أهل "دولة الخير" هذه "أنهم العلماء بأمور الديانات، العارفون بأسرار النبوات، المتأدبون بالرياضيات الفلسفية"([4]).
فاذا كانوا كذلك، فإننا ننتظر أن نفهم منهم أن "الدين الواحد" الذي يتفقون عليه هو غير الدين المتبع في مجتمعهم وعصرهم. وقد كشفوا لنا هم ذلك، بوضوح، في كثير من نصوص "الرسائل"، فهم يعلنون انفتاحهم الكامل على الاديان والمذاهب كلها وعلى العلوم بأسرها، دون تحفظ، ويدعون أصحابهم "ان لا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتاباً من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب، لان رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم كلها"، ثم يدعون كل "اخ" لهم: "فاجتهد يا اخي ان تبين الحق لكل صاحب دين ومذهب مما هو في يده، أو مما هو متمسك به، وتكشف عنه الشبهة التي دخلت عليه (..) ولا تمسك بما أنت عليه من دينك ومذهبك، واطلب خيرا منه، فان وجدت فلا يسعك الوقوف على الادون، ولكن يجب عليك الاخذ بالاخير الافضل، والانتقال اليه، ولا تشتغلن بذكر عيوب مذاهب الناس، ولكن أنظر: هل لك مذهب بلا عيب؟"، فالدعوة هنا صريحة –حسب رسائل إخوان الصفا- إلى موقف نقدي من الدين، كل دين، ونبذ للتمسك بالموروث من الأديان والمذاهب دون استثناء، وهذا الموقف النقدي ينسحب على الشريعة الاسلامية، ولكن –يقول د. مروه- بطريقة حذرة محترسة تداور الامر باللجوء إلى مثل ما لجأ اليه الصوفية من تصنيف الشريعة إلى ظاهر وباطن، فالظاهر هو الذي يصلح "للعامة" يداوي منها النفوس المريضة الضعيفة، أما العقول القوية تتغذى الحكمة العميقة المستمدة من الفلسفة، وبالتالي فإن "الذي يصلح للخواص البالغين في الحكمة، الراسخين في العلوم (...) هو النظر في أسرار الدين، وبواطن الأمور الخفية وأسرارها المكنونة.." .
لذلك، "فإن العبادة عند "إخوان الصفا" نوعان لا ثالث لهما": أحداهما، العبادة الشرعية الناموسية.. وأما الثانية، فهي العبادة الفلسفية الالهية.." وهكذا، فكل اعتراف بأحكام الشريعة وقوانينها وطقوسها يصبح اعترافاً ظاهرياً شكلياً، لانه خاضع – آخر الامر- للتأويل "الباطني" الذي يختص به "الراسخون في العلم"، وهنا، كما عند الصوفية، يتحدد "الراسخون في العلم"، وفقاً لمنطلق  "أهل الباطن"، بحدود المفاهيم المتبعة في التأويل "الباطني" عند هؤلاء أو أولئك، ومن هذه المفاهيم، مثلاً، في تأويلات "اخوان الصفاء" ان الحج إلى مكة الذي أقرته الشريعة هو في "الباطن" ليس كما يفهمه غير "الراسخين في العلم" فهماً ظاهرياً، وانما "باطنه" و"حقيقته" مثال لطواف الإنسان على الأرض، ثم المفهوم "الباطني" عندهم "للنبوة"، انها أثر فلكي. وذلك انه "ينبث من جرم عطارد قوة روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، بها تكون المعارف، والاحساس في العالم، الخواطر، والالهام، والوحي والنبوة والعلوم أجمع"([5]).
نخلص من هذا العرض التركيبي –كما يستطرد د. حسين مروة- إلى تصور عام لاستراتيجية "اخوان الصفاء".. ان خلاصة هذا التصور ان "الجماعة" ينطلقون من موقع المعارضة للخلافة العباسية، ولمفهوم الشريعة الذي تتأسس عليه الايديولوجية الرسمية لدولة الخلافة هذه، ولذلك تتطلع -أي جماعة اخوان الصفاء- إلى بناء دولة جديدة للمجتمع تستند إلى فلسفة جديدة منفتحة على كل مصدر للمعرفة، وعلى الاديان والمذاهب والفلسفات كلها، وعلى مختلف القوميات واللغات والاجناس البشرية.
وتتمثل في فلسفتها هذه ايديولوجية هذا المجتمع على أساس جديد. اما المحتوى الاجتماعي الذي سيكون الاساس لهذه الايديولوجية، فقد تدرج من مرحلة إلى مرحلة حسب مراتب الناس.
بدأت "الرسائل" بمرحلة المداورة والمناورة في التعامل من المدعوين الذين هم في المرتبة الدنيا من استيعاب الدعوة، حذرة معهم كل الحذر، آخذة في الحسبان كل ما هو متكون لديهم من معتقدات موروثة ومن مرتكزات مذهبية وايديولوجية اكتسبوها من طبيعة نظام الحكم الاستبدادي السائد وطبيعة العلاقات الاجتماعية المسيطرة ومن آثار تجهيل جماهير "العامة" وعزلها عن حركة التطور الثقافي التي كانت في اوج نشاطها حينذاك".
ان وعي "الجماعة" لهذا الواقع، حملهم على تضمين عملهم "البرنامجي" شبه "نظام داخلي" تنظيمي، يقضي أول كل شيء باختيار فئة الشبان "للحلقات" الأولى من "التنظيم"، لكون هذه الفئة من الناس "كمثل ورق أبيض نقي لم يكتب فيه شيء، كما ان الخطة "التكتيكية" في التعامل مع المدعوين الشبان، تقضي بتقديم المعارف الأولية اليهم عن شؤون الدعوة، وهي المعارف التي تستثير في أذهانهم الشكوك في ما يكون قد وصل اليهم من معتقدات دينية أو مذهبية أو من أصول أيديولوجية "رسمية"، ثم تستثير في الوقت نفسه فضولاً معرفياً عندهم للاطلاع على ما هو أبعد من تلك المعارف الأولية عن شؤون الدعوة.
وهكذا تتدرج أساليب "التعليم" متصاعدة، مرحلة مرحلة، مع تصاعد مراحل العمر بالمدعوين، حتى تبلغ معهم مرحلة ما بعد الخمسين من اعمارهم، فيحق لهم حينذاك بلوغ المرتبة الرابعة، وهي العليا، فيرتفع الحذر، ويصبح "التعليم" صريحاً معهم، ويمكنهم الاطلاع على أسرار "المنظمة" كاملة""([6]).
أما موقف "اخوان الصفاء" من الشريعه، فيلخصه د. حسين مروة كما يلي([7]): 
أولاً، في رفضهم التقليد المطلق لظاهر الشريعة، وطلبهم "البحث والكشف بالبراهين" عما فيها "من الاسرار والاشارات المكنونة"، وذلك كشأن "المتوسطين في كل علم وصناعة لا يرضون بالتقليد اذ يمكنهم البحث والكشف عنه بالبراهين.
ثانياً، في تفسيرهم النبوة تفسيراً ينطلق من تصور مادي، فهي عندهم أثر فلكي، آت من جرم الكوكب عطارد كما أشرنا قبل. وهذا التصور ينسف التصور "الرسمي" للشريعة والنبوة من الأساس.
ثالثاً، في قولهم بتجدد الشريعة والدين بصورة دورية ترتبط بحركة الاجرام الفلكية من حيث التقارب والتباعد بين هذه الاجرام.
رابعاً، في نظرية "الامامة" عندهم، فان "الامام" في نظريتهم ينبغي ان تجتمع فيه ست وأربعون من الصفات، وهي بمجموعها تضع الامام في منزلة النبوة، أو فوق هذه المنزلة. ثم يقررون انه "ان لم يتفق ان تجتمع تلك الخصال في واحد، لكن تكون متفرقة في جماعتهم، اجتمعت تلك الجماعة على رأي واحد، وائتلفت قلوبهم على محبة بعضهم بعضاً.. فإن كنت (الخطاب إلى كل أخ من من اخوانهم) عازماً على طلب صلاح الدين والدنيا، فهلم بنا نجتمع مع جماعة اخوان فضلاء..".
وهذا يعني، بوضوح، ان جماعتهم ذاتها تمثل منصب الامام، ولذلك قالوا بأن الامام المنتظر ليس مختفياً، بل ظاهر بين الناس، وعلى هذا، اذن، يتبين ان "اخوان الصفاء" يضعون أنفسهم في موضع المواجهة المباشرة لنظام حكم الخلافة العباسية، لا أيديولوجيا فقط، بل سياسياً كذلك، أي أنهم يرمون إلى هدم هذا النظام لإقامة نظامهم هم مكانه، واعتبارهم هم أنفسهم ذوي الامامة الشرعية، هذا اذا اخذنا لفظ "الامامة" بمعناه الظاهر المألوف، والا فهو رمز فقط يقصدون به هدفهم السياسي.
 


([1]) الربقة (بفتح الراء وكسرها) : العروة في الحبل. يقال "حل ربقته" أي فرج كربته.
([2]) حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – الجزء الثاني – دار الفارابي – بيروت 1985 - ص366/367
([3]) الرسائل: ج2 ، ص303. قد يكون قصد "الاخوان" من "الاولياء وأولاد الانبياء" أئمة الشيعة من أحفاد علي بن أبي طالب ومن يعتبرهم "الاخوان" بمنزلة "الاولياء" من زعماء المنظمات والحركات المعارضة للدولة في العصر العباسي.
([4])  حسين مروة – مرجع سبق ذكره - النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية - الجزء الثاني – ص367 / 368
([5]) المرجع نفسه - ص369
([6]) المرجع نفسه - ص371
([7]) المرجع نفسه - ص376








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن


.. الشرطة الفرنسية تعتقل شخصا اقتحم قنصلية إيران بباريس




.. جيش الاحتلال يقصف مربعا سكنيا في منطقة الدعوة شمال مخيم النص


.. مسعف يفاجأ باستشهاد طفله برصاص الاحتلال في طولكرم




.. قوات الاحتلال تعتقل شبانا من مخيم نور شمس شرق طولكرم