الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدستور: محالة للفهم

سعيد هادف
(Said Hadef)

2020 / 10 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


ما قبل الاستفتاء: أطروحات متضاربة ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يعد يفصل الجزائر سوى ثلاثة أسابيع عن الدخول في مرحلة ما بعد الاستفتاء، وهي مرحلة بلا شك ستدشن محطة مفصلية في علاقتها بإرثها السياسي وبمحيطها الأممي في تحولاته العميقة. وإذ يفتح الأسبوع المغاربي هذا الملف، فليس انطلاقا من ثنائية مغلقة (التصويت ورفض التصويت)، أو (التصويت بنعم والتصويت بلا)، فذلك شأن له حيثياته ومقتضياته وفاعلوه؛ إنما هذا الملف يهدف إلى المساهمة في النقاشات التي عاشها الجزائريون منذ أن انخرطوا في حراكهم القومي، بعد الحرب العالمية الأولى، بحثا عن الخصائص السياسية التي تميزهم كأمة تتمتع بالاستقلالية والسيادة والانسجام، ومع أن ذلك الحراك القومي (Mouvement Nationaliste) نجح في تأسيس دولة حظيت باعتراف الأمم سنة 1962، إلا أن "تلك الدولة" ظل نسقها السياسي عرضة لعدد من الأزمات، ومع أن نسقها السياسي في مظهره العسكري نجح في تخطي تلك الأزمات إلا أنه لم يعالجها بشكل عميق، حيث ظلت في حالة كمون سرعان ما تنفجر كلما توفرت عوامل الانفجار، وذلك بسبب جهل النخبة الفكرية والطبقة السياسية بالمهام المنوطة بهما في تطوير الحياة السياسية بمظهرها المدني. كما أن الهدف من هذا الملف هو فتح نقاش حول الدستور كوثيقة مؤسسة لدولة يطيب فيها العيش، الدستور كوثيقة قانونية وسياسية وفلسفية تعرف كيف ومتى تضحي بالأيديولوجيات حفاظا على ديمومة الدولة وحقوق الشعب، فالمسألة هنا تتعلق بالدستور في بعده التأسيسي قبل علاقته بمفردات التغيير السياسي، وحالما يكون التأسيس منفتحا على عصره وفقا للمعايير السياسية الحديثة، فإن سيرورة التغيير ستأخذ مجراها الطبيعي، أما في غياب هذا "التأسيس"، فإن أي محاولة للتغيير سيكون مآلها الفشل. ولعل هذا ما حمل الرئيس الأسبق، ورجل الإصلاحات مولود حمروش على عرض جملة من التحذيرات على شكل وصايا في رسالته الأخيرة، ولعل أقوى عبارة هي تلك التي أكد فيها أن كل حل جزئي أو قطاعي لا يندرج في مسار شامل وفي خطة متكاملة لن يكون ناجعا. بل أخطر من هذا فإن أي حل من هذا النوع يتسبب في اختلالات إضافية ويعمق من عجز الدولة ويزيد في خيبة الأمل والاستلاب.
نستنتج، عبر تجارب التاريخ البشري، أن السياسة هي أم العلوم وفق تعبير أرسطو، وأن الدستور هو ذلك النشيد الذي يبدعه الشعب بكل ما يملك من حب وذكاء وجهد، هو خارطة طريقه في عيشه المشترك، هو تعاقده على أهم قضاياه التي تضمن له السلم والأمن والعدل والحرية والحياة السعيدة. وأن تبني بيتا بسيطا يتوفر على عوامل الراحة أفضل من أن تبني، عن جهل، قصرا شامخا يعاني من جميع الاختلالات تقضي حياتك كلها في محاولة ترميمه، فلا القصر يكون قابلا للترميم ولا أنت تنعم بحياتك.
السياسة في بعديها النظري والميداني، ومنذ ارتباطها بالديمقراطيا والعلمانيا وحقوق الإنسان، ما زالت ورشة مفتوحة على التجدد والاجتهاد، ويمكن القول أن مفهوم "الدولة الفاشلة" الذي ظهر في الأعوام الأخيرة (2005)، يكاد ينسحب على أغلب دول العالم بما فيها بعض الدول الغربية، ولعل ما تعيشه فرنسا اليوم يترجم جانبا من فشلها في التدبير العلماني لقضية العيش المشترك، الأمر الذي حملها منذ أعوام على فتح ورشة للنقاش تجلت مخرجاتها في الخطاب الأخير لماكرون أملا في إخراج الدولة من حالة الفشل التي كادت تعصف بخلفيتها الفلسفية وسياستها المدنية. وثمة ثلاث مؤشرات على فشل الدولة: سياسية، اقتصادية واجتماعية.
المؤشرات السياسية: وأهمها يتمحور بمدى درجة شرعية ومصداقية نظام الحكم، تراجع قدرة الدولة على تقديم الخدمات العامة، تعطيل أو تعليق تطبيق حكم القانون وانتشار ممارسات انتهاك حقوق الإنسان، تنامي حالة من ازدواجية المسؤولية الأمنية بحيث تتمتع جهة بسلطة تضاهي سلطة الدولة، وجود حالة من عدم الااستقرار السياسي خاصة على المستوى المؤسساتي، تزايد حدة التدخل الخارجي سواء من جانب دول أو فاعلين من غير الدول.
المؤشرات الإقتصادية: وأهمها عدم انتظام معدل التنمية الاقتصادية، استمرار تدهور وضع الاقتصاد الوطني بدرجات تدريجية متفاوتة أو حادة، بالإضافة إلى ازدياد معدلات الفساد وانتشار المعاملات العرفية.
المؤشرات الاجتماعية: من ملامحها تصاعد الضغوط الديموغرافية، ويعبر عنه بارتفاع كثافة السكان في الدولة، وانخفاض نصيب الأفراد في المجتمع من الاحتياجات الأساسية، تزايد حركة اللاجئين بشكل كبير إلى خارج الدولة، أو تهجير عدد من السكان في منطقة داخل الدولة بشكل قسري، وجود إرث عدائي لدى أفراد الشعب، انتشار ظاهرة هروب العقول والكفاءات.
وبصرف النظر عن نتيجة الاستفتاء الجزائري يوم فاتح نوفمبر، فإن السؤال الذي ظل مطروحا وما زال هو: هل الأزمات التي مرت بها الجزائر كانت عاملا في إنضاج نخبنا الفكرية والسياسية؟ وإذا ثبت العكس فمتى ننضج؟ وما هي المعيقات التي حرمتنا من هذا النضج؟ وإلى متى سنظل قاصرين؟ وما هو مصيرنا الذي سيترتب عن هذا القصور الفكري والسياسي؟ السؤال يبقى مطروحا ليس فقط على الوضع الجزائري، بل على الوضع المغاربي برمته

في المعنى اللساني والاصطلاحي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة "الدستور" ليست عربية الأصل ولم تذكرها القواميس العربية القديمة، ولهذا فإن البعض يرجح أنها فارسية الأصل، ويقصد بها التأسيس أو التكوين. ويمكن القول أن "الشريعة" هي المفهوم العربي العديل للدستور، غير أن المفهوم بقي رهينة البراديغما الدينية، مع أن "مشتقاته" انزاحت إلى الحقل الوضعي، القانوني والسياسي (على غرار، الشرعية، المشروعية والتشريع...). أما الدستور في اللسان اللاتيني «Constitution» اسم يتشكل من عنصرين: كلمةcum» »؛ بمعنى «مجموع« وكلمة statuere»». بمعنى «الإنشاء والبناء، التثبيت والتنصيب».
الدستور سمة من سمات سيادة دولة الحق والقانون (État de droit). ومن الواضح أنه يجب علينا "أن نفضل سيادة القانون على سيادة أحد المواطنين". إن الدستور الممتاز هو ذلك الذي يضمن سعادة المواطنين ويتوفر على شروط الديمومة والمرونة والقدرة على التكيف مع المستجدات، والسيء هو ذلك الذي لا يضمن السعادة ويتسبب في النزاعات والثورات وفي إفقار جزء كبير من المواطنين بسبب قوانينه غير الكفؤة أو غير العادلة.
وهو مجموعة من القواعد والمبادئ الأساسية التي بمقتضاها يشتغل تنظيم خاص بالدولة، تنظيم إيتاتيكي (Etatique) أو غيره، ويقر نظامَ واشتغالَ هذا التنظيم الذي يكون دولة بشكل عام (فرنسا مثلا) أو مجموعة من الدول (الفدراليا الأميريكية على سبيل المثال).
هذه القواعد مجتمعة تشكل الكيان الذي هي عليه. عندما تُكتَب هذه المبادئ في وثيقة واحدة أو مجموعة من الوثائق القانونية، في هذه الحالة يمكننا القول أن هذه الوثائق تجسد دستورا مكتوبا. وإذا كانت مكتوبة في وثيقة واحدة وشاملة، فهي تجسد دستورا مدونا (constitution codifiée).
الدستور هو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أو مركبة) ونسق الحكم (ملكي أو جمهوري) وشكل الحكومة (رئاسية أو برلمانية) وينظم فيها الصلاحيات من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات بين القدرات (Pouvoirs) وحدود كل قدرة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة (Autorité).

الدستور: سؤال البدايات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأبحاث والدراسات التي تحدثت عن الدساتير الأولى التي عرفتها بعض الأمم، تؤكد ذلك الارتباط الجدلي بين السياسة والثقافة والحضارة، كما تؤكد ظاهرة التثاقف بين التجارب السياسية وبين الأمم؛ فكل الأمم التي أسست حضارات، أنشأت أنساقا سياسية على خلفيات دستورية. بلاد القبط عرفت قانون بوخوريس (Bocchoris)، نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، وهو قانون غير مُدوّن، شهد إصلاحات وتعديلات حررته من مظهره الديني وأضْفت عليه طابعا مدنيا.
في بلاد الإغريق، كانت القوانين(thesmoi) التي وضعها دراكو (Dracon)، نهاية القرن السابع قبل الميلاد، تمثل دستور أثينا المكتوب. وحتى لا يدعي أحد عدم اطلاعه على تلك القوانين، فقد تم تدوينها على ألواح خشبية حيث حُفظت لقرنين تقريبًا، على مسلات على شكل هرم ثلاثي الجوانب.
أما إصلاحات صولون (Solon) فقد استهدفت المشاكل السياسية والاقتصادية. سياسيا، قسم صولون الأثينيين إلى أربع فئات، على أساس الثروة وقدرتهم على الانخراط في الخدمة العسكرية. الطبقة الأكثر فقرا، والأكثر عددا، (thète)، أصبح لها حقوق سياسية لأول مرة. وفي عام (454 ق م) بناء على رغبة الشعب أرسل مجلس شيوخ روما إلى بلاد الإغريق لجنة من ثلاثين حكيماً لدراسة شرائع صولون وغيره وكتابة تقرير عنها، ومن ثم تم تشكيل لجنة من عشرة حكماء للخروج بما جاء به الثلاثون، لوضع قانون لروما "دستور" وتم تخويلهم لمدة سنتين للإنتهاء من وضع القانون، الذي تم تدوينه على اثنى عشر لوحاً (وهي ألواح ذائعة الصيت) وافقت عليها الجمعية بعد التعديلات، وتم عرضها في السوق للناس ليعرفوا حقوقهم وواجباتهم.
و عقدت روما أول جمعية مُشكلة من مواطنيها، وقررت هذه الجمعية إقراراً للعدل التخلص من السلطة المطلقة في نسقها الملكي، واختارت بدلاً من الملك قنصلين متعادلين في السلطة، يحكمان لمدة عام واحد فقط، ليكون من مهام كل قنصل مراقبة زميله، وعينت اثنين من البريتور (Praetor) ليراقب كل منهما القنصلين حرصاً على مصالح الشعب.
ووضعت لبنات أساسية لدستور كانت مهمته الأولى هي التصدي للحكم الفردي المطلق، ونصت على قتل من يحاول أن يصبح ملكاً، وإن تم الحكم على مواطن بالإعدام في زمن الحرب من أحد الحكام فله أن يلجأ للجمعية العمومية، كما نصت على أن عقوبة الإعدام هي من حق الشعب وحده في زمن السلم.
ويعتبر دستور قرطاج واحدا من أقدم وأعرق الدساتير المكتوبة في التاريخ حيث يعود على الأقل إلى القرن السادس قبل الميلاد، وهو شكل من أشكال التنظيم السياسي المقنن، وكانت جمهورية قرطاج أهم منابع الديمقراطيا في العالم القديم قبل روما وأثينا بشهادة أرسطو وأفلاطون والمؤرخ الإغريقي الكبير بوليبيوس والمؤرخ والأديب الروماني تيتوس ليفيوس وكذلك ديودروس الصقلي والمؤرخ و العالم الجغرافي الكبير سترابو.
مع بداية القرن الخامس (480-290 ق.م) دخلت قرطاج مرحلة الثورة الشاملة التي شهدت تقويض الحكم الفردي المطلق. استلهمت من النموذج الروماني فكرة أن تتركز السلطة المباشرة في يد ملكين أو سبطين (الشوفطان)، يتم انتخابهما من أسرتين مختلفتين على غرار الملكين الذين كانا يحكمان إسبارطا في الإغريق، والقنصلين الذين كانا يتقاسمان الحكم في روما. يقوم الملكان بخدمتهما مدة سنة كاملة (تعرف باسمهما) ويجمعان كثيرا من الوظائف والقدرات التنفيذية في مختلف الميادين السياسية والعسكرية والقضائية، فهما اللذان يرأسان مجلس الشيوخ، ويعينان جدول أعماله ويقودان جيوش البر والبحر، وينظران في أمور القضاء.
ونلاحظ كيف كانت الأمم تستلهم من بعضها البعض، وكيف كانت الأفكار والرؤى تتفاعل، كيف قرأت أثينا تجربة قرطاج، وكيف تأثرت قرطاج بروما، وكيف تتلمذت روما على يد أثينا.
غير أن أقدم دستور يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد حوالي (1750 ق م)، هو شريعة حمورابي أو قوانين حمورابي (Code de Hammurabi)، وهو مجموعة قوانين بابلية يبلغ عددها 282 مادة قانونية سجلها الملك حمورابي سادس ملوك بابل على مسلة كبيرة أسطوانية الشكل.
الدستور الروماني أو موس مايوروم(mos maiorum) (ومعناه "أعراف الأجداد") مصطلح يطلق على مجموعةٍ غير مدونة من القوانين والمبادئ التي جسدت السياسة في روما القديمة. لم يكن هناك شيء رسمي اسمه الدستور الروماني، فقد كان منظومة مرنة من القوانين المرحلية التي تتغير باستمرار، وبالتالي فقد كان أقرب في حقيقته إلى القانون العام البريطاني، كان يتطور بمرور الزمن باستبدال القوانين القديمة بأخرى جديدة.
تطور الدستور الروماني عبر التحولات التي عاشتاها روما. فبحلول سنة 573 ق.م، اندثر دستور المملكة الرومانية ليفتح الطريق لدستور الجمهورية الرومانية الجديد. ثم بحلول سنة 27 ق.م، اختفى هذا بدوره ليحلَّ مكانه دستور الإمبراطوريا الرومانية التي أسَّسها أوكتافيوس، وقد اشتهر نمط حكمه بالريجيم الرئاسي (Principate)، أما أوكتافيوس فقد حظي بلقب أوغسطس(August). في سنة 300م، جاء دستور الإمبراطوريا البيزنطية التي انقسمت عن شقيقتها الغربية، ليحلَّ مكان معظم الدساتير القديمة.
يجمع الدارسون أن الدستور الروماني هو أحد الدساتير التي يندر وجودها قبل القرن الثامن عشر. ليس هناك دستور مثله حكم إمراطوريا مترامية الأطراف. في الواقع، فقد كان الدستور الروماني محل استلهام، وكان مثالا لدساتير الأزمنة الحديثة. لذلك نجد أغلب الدساتير اليوم متشابهة البنية، إن لم تكن متطابقة مع الدستور الروماني (على سبيل المثال: الشيكات والرَّصيد، فصل القدرات، حق النقض، المماطلة السياسية، النصاب القانوني، سحب الثقة، الانتخابات).
ويعتبر "كتاب السياسات"، لأرسطو، في نظر المختصين، هو الأكثر تأثيرا، والأكثر عمقا واستمرارا عبر التاريخ. في العصر الروماني، أثرت أطروحات أرسطو على أكبر المنظرين الرومان، مثل بوليب (Polybe) وشيشرون (Ciceron)، اللذيْن اعترفا بضرورة الأخذ بالتحليل الأرسطي لنماذج الحكم أو الأنساق السياسية. فيما بعد وفي العصر الوسيط، كان أرسطو المرجع الدائم، حيث جملة "كتب أو قال أرسطو" كانت موجودة و مستخدمة من قبل معظم الكتاب. أيضا حضرت أفكار أرسطو في عقول وقلوب فلاسفة السياسة في عصر الأنوار. بالمقابل، خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين تم إهمال الفكر الأرسطي. طبعا هذا لم يستمر طويلا، حيث النظريات الحديثة لعلم السياسة، كما "الوظيفية" مثلا، أخذت أيضا من المناهج والأفكار الأرسطية. "كتاب السياسات" كتاب يفتن القارئ ويذهله كونه تحدث عن قضايا كثيرة نعيشها اليوم، وكونه مصدرا عظيما للفكر الإنساني، دون أن ننسى أثره، بالإضافة إلى جمهورية أفلاطون، في الفكر العربي-الإسلامي، وقد تجلى ذلك في عدد من مؤلفات المنظرين السياسيين والفلاسفة وتنظريراتهم وفتاويهم، ولاسيما تلك التي شاعت في عهد المماليك، في سياق الجدل الذي دار حول معايير الإمامة.

مفاهيم ذات صلة بالدستور ــــــــــــــــــــــــــ

النسق، السيستام «Système» ـــــــــــــــــــ
الكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية، "Systema" المستعارة من الكلمة الإغريقية القديمة "سيستوما" وتعني التئام أجزاء عديدة في جسد واحد. النسق في اللسان الإغريقي يفيد معنى "الشيء الذي يبقى متماسكا وواقفا". هو مجموعة من عناصر مترابطة بشكل كلي وداخلي تشتغل بطريقة موحدة (ينطبق هذا التعريف على النسق العصبي أيضا). النسق الفرعي (Sous-système)هو نسق يشارك نسقا أعلى منه.
في حقل التداول العربي يغيب هذا التدقيق المفاهيمي، وتطغى كلمة "النظام" على غيرها لدى المتخصصين كما لدى عموم الناس، وغياب هذا التدقيق أنتج اختلالا في الفهم ومن ثمة في الإدراك والوعي والممارسة، ولاسيما في المجال السياسي.
النسق السياسي (Système politique) هو الشكل التنظيمي للدولة. ويشمل تحديدا الريجيم السياسي، البنية الاقتصادية، والتنظيم الاجتماعي، الخ. الأنساق السياسية عديدة، وتشمل خصوصا الديمقراطيا، المونارشيا، الفيوداليا، التوتاليتاريا، الأوتوريتاريا الخ.
وضع الإغريق من جانبهم تصنيفا حصروه في ثلاث عائلات كبرى تضم جميع الأنساق السياسية المعروفة: المونارشيا، الأوليغارشيا والديمقراطيا، وباختصار مباشر: شخص واحد يتحكم (ملك، دكتاتور، ...)، فئة تتحكم (النخبة، البرجوازية، الصيارفة، ...)، عدد أكبر (المواطنون).
النسق السياسي هو مجموعة من التطبيقات والمناهج والمؤسسات تشكل مجتمعة بناءه النظري وطرق اشتغاله الميداني، ويمكن أن يكون مفتوحا، مغلقا، أو معزولا وفقا لدرجة تفاعله مع محيطه.
النسق السياسي يشكل عنصر المقارنة الرئيسية في السياسة المقارنة، ومن منطلق أن خمسة أشكال دستورية، تقتضي لدى الأشخاص خمسة أشكال روحية؛ يميز أفلاطون بين خمسة أنساق تلائم خمس طباع بشرية: الريجيم الموانارشي (أرستوقراطي)، التيموقراطي (البحث عن الشرف)، الأوليغارشي (البحث عن الثروة)، الاستبدادي (العنف) ثم الديمقراطي. وعادة ما يتم تصنيف الأنساق السياسية إما تحت خانة الريجيم الديمقراطي أو الريجيم السلطوي، غير أنه ميدانيا، فإن الوضعية غير محسومة دائما. أفلاطون ميز بين جملة من الأنساق السياسية والريجيمات، ويقر هو وأرسطو أنه حتى الريجيمات النقية لها قابلية التحول إلى طغيان. فحكم القلة الفاضلة، وحكم محبي الشرف وحكم محبي الثروة ثم حكم الشعب كلها ريجيمات قابلة للانحراف إلى الاستبداد، حيث الكلمة الفصل للظلم والفساد. فما هي أبشع صفات الاستبداد والتغول؟
الممارسة السياسية بصرف النظر عن نوع نسقها أو ريجيمها فهي تجل لروح المجتمع وللطبقة السياسية وعلى رأسها أصحبا المناصب العليا، فجودة النسق من جودة الطبقة السياسية التي تمارس السياسة من خلاله.

الريجيم «Regime» ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الريجيم السياسي يحيل على الطريقة التي من خلالها يتم تنظيم وممارسة القدرات (pouvoirs) في إطار كيان سياسي معين. وهذا يحيل، إذن، على الشكل المؤسسي للقدرة ولكن أيضا على الممارسة الناجمة عن هذا النموذج المؤسسي. هذا يتجاوز الدراسة الدستورية (التي تحلل الهياكل الرسمية للدولة)، ولكن لا ينبغي الخلط بينها وبين دراسة الأنساق السياسية (أي دراسة الفاعلين والأفعال) .
ممارسة القدرة ذات أهمية بالغة، لأن كل الريجيمات لها نفس الشكل المؤسسي. الريجيمات السياسية يمكن التمييز بينها من حيث المستوى التطبيقي في ممارسة السلطة.
الريجيم هو كيفية إدارة وتسيير جماعة بشرية معينة (الدولة) في المجالات الاجتماعية السياسية والاقتصادية.
حسب موريس دوفرغر (Maurice Duverger) الريجيم يتضمن تصورا سياسيا، بينما النسق يكتسي مظهرا وظيفيا، كيفية الاشتغال. النسق الاقتصادي هو الكيفية التي يشتغل بها الاقتصاد، بينما الريجيم الاقتصادي هو معالجة السياسة الاقتصادية. النسق الاقتصادي هو مجموع التطبيقات والمناهج والمؤسسات التي تشكل، على حد سواء، بناء نظريا ومنهجا تطبيقيا. قد يكون المفهومان مترادفين تقريبا، لكن يمكننا القول أن نسقا من الأنساق قد لا يتلاءم مع ريجيم واحد. إذن في نسق سياسي معطى، يمكن ملاحظة أكثر من ريجيم. فالنسق (السيستام) هو مجموع من الأدوات والريجيم هو كيفية استخدامها. »في أساس كل ريجيم توجد الظاهرة الأساسية للسلطة (autorité)، وللقدرة (pouvoir) وللتمايز بين الحاكمين والمحكومين«.
كل ريجيم سياسي يمكن تعريفه كمجموعة من الأجوبة عن أربعة أصناف أساسية من المشاكل:
- سلطة الحكام وحقوق وواجبات المواطنين: ما هي أسس القدرة السياسية التي تعطي تعريفا للقيم المؤسسة للريجيم؟
- اختيار الحكام وممثلي المواطنين: كيف تم تعيين الأشخاص الذين يتحملون العبء والقدرة لحكم جماعة عمومية؟
- بنيات أو هياكل الحكام: هذه نادرا ما تكون وحيدة ومتجانسة (uniques ou monolithiques)، ما هي هذه البنيات؟ ما هي أشكال تنظيمها وما هي الروابط التي تربط هذا الطرف بالآخر؟
- التقييم، الرقابة والحد من حجم وسلطة الحكام: كيف تتمفصل حقوق وواجبات الحكام مع حقوق المواطنين وواجباتهم؟ كيف تكون مضمونة بشكل متبادل؟ كيف يتم فحص ذلك ومراقبته، وكيف يتم بشكل افتراضي إجبارهم على احترام الصلاحيات والمسؤوليات والنطاقات الحصرية للحرية؟

أنماط الريجيم الديمقراطي ــــــــــــــــــــــــــــ
الملامح الرئيسية لهذا الريجيم هي: ابتكار دستور يحقق إجماع الأمة وينص على علمانية الدولة ولا يقف على الطرف النقيض من القانون الأممي، التنافس الانتخابي (انتخابات منتظمة، الحق في الاقتراع العام والاعتراف بالتعددية السياسية)، دولة الحق والقانون (ضمان الحريات الأساسية، هناك دستور يحدد صلاحيات الفروع المختلفة للدولة، وهناك أيضا الفصل بين المجال العمومي والمجال الخصوصي)، التقسيم إلى ثلاث قدرات منفصلة: (التشريعية، والتنفيذية والقضائية)، حكم الأغلبية (الأغلبية تمتلك القدرة، وحماية المعارضة (الأقلية) مضمونة، وكذلك التناوب)، الفصل بين الدين والدولة (الحياد الديني للدولة، المساواة في المعاملة بين الريجيمات الدينية المختلفة، وأنشطة الطوائف الدينية لا تحظى بالدعم الكامل من قبل الدولة).
يتعلق الأمر بنموذج مثالي ويمكنك أن تجد بعض الاستثناءات كما هو الحال في بريطانيا حيث رئيس البلد (الملكة) يجسد أيضا رئيس الكنيسة الأنغليكانية، أو كما هو الحال في بلجيكا حيث التعليم الكاثوليكي تموله الدولة البلجيكية. لكن الأمر لا يتجاوز هذه الحدود، لأن هذه البلدان لا تتخذ الدين مصدرا للتشريع.
أنواع الريجيمات الديمقراطية: الريجيم البرلماني (Régime parlementaire)، الريجيم الرئاسي (Régime présidentiel)، الريجيم الفدرالي (Fédéralisme)، الريجيم التوافقي (régime conventionnel).
كل ريجيم في النسق الديمقراطي يتكون من القدرات الثلاث، فكيف يكون توزيعها الوظيفى؟ أي كيف تكون العلاقة بين هذه القدرات الثلات فى الحكومة الواحدة؟ بمعنى هل هى علاقة فصل شبه كامل كما هو الحال فى النموذج الأمريكي؟ أم هى علاقة انصهار واندماج كما هو الحال فى بريطانيا؟ أم هى علاقة ما بين الاثنين كما هو الحال فى فرنسا وروسيا؟

علاقة الريجيم بالنسق ـــــــــــــــــــــــــ
- النسق (السيستام) يعني البناء (تراص عدة أشياء في جسد واحد، ترابط وتشابك وتلاحم)؛
- الريجيم يعني الفعل (التسيير، التدبير، الإدارة....)؛
- النسق هو الجسد/البناء، الريجيم هو الروح/الفعل؛
- النسق هو مجموعة من الأدوات (مؤسسات، أجهزة، نصوص..)، الريجيم هو كيفية استخدامها؛
- النسق الديمقراطي يفرز بالضرورة ريجيما ديمقراطيا.
- النسق القابل للدمقرطة، رغم فساده، قد يفرز ريجيما ديمقراطيا – الريجيم الديمقراطي، إزاء هذا النسق، يكون أداؤه السياسي مشروطا بكفاءة حكومته وجودة أدائها وقدرتها على محاربة الفساد (قانونيا، تنمويا، سياسيا، اقتصاديا، إعلاميا، ثقافيا)؛
- النسق الجاهل للديمقراطيا لا يفرز سوى ريجيم فاشل سياسيا، ريجيم جاهل أو معاد للسياسة.

جدلية الطبيعي والثقافي ـــــــــــــــــ
انتبه الفلاسفة الإغريق القدامى إلى كون القانون الوضعي/الثقافي قد يؤدي إلى الظلم، لذا فكروا في قانون يصحح أخطاء هذا القانون، سمّي بقانون الطبيعة، أي القانون النابع من الوجود الإنساني ذاته. وقد وقع في هذا الفهم للقانون شرخان مهمان في بداية عصر الأنوار في أوروبا. حدث ذلك في سياق الاجتهادات الفكرية والسياسية المطالبة بالحقوق: الأول نجم عن الطريقة التي تم بها تدبير "حق الشعوب"، والثاني نجم بعد انقسام المسيحيين إلى كاثوليك وكالفانيين، وعن الطريقة التي عولجت بها هذه النازلة في إطار الحق الطبيعي كحق عقلي. وانفتح الجدل والبحث عن أفضل السبل التي تصون حقوق الإنسان وحقوق الشعوب وطال هذا البحث كل نواحي الحياة بهدف تحقيق المصالحة بين الوضعي/الثقافي والطبيعي، بين العقلاني واللاعقلاني، بين الفردي والجماعي....
هل نحتاج اليوم إلى تصنيف جديد للأنساق السياسية؟ تصنيف يتجاوز التصنيفات التقليدية؟ وإذا كان الإغريق وضعوا تصنيفا حصروه في ثلاث عائلات كبرى تضم جميع الأنساق السياسية المعروفة: المونارشيا، الأوليغارشيا والديمقراطيا، فقد صنفوا الدساتير إلى صنفين فقط: مستقيم ومنحرف؛ وبالتالي، ومن منطلق أن السياسة علم يرتبط عضويا بباقي العلوم، ولأن التطورات التي عرفها عصرنا نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، ولاسيما في مجال التدبير السياسي، كل ذلك يؤكد لنا أن حياتنا البشرية يتحكم فيها نسقان:
- نسق ذو روح إنسانية، غايته خدمة الشعوب، ومنهجه ديمقراطي-حقوقي يتوسل العلوم بهدف تحقيق مقاصده الإنسانية؛
- نسق مضاد، ذو روح معادية لكل ما هو إنساني، غايته افتراس الشعوب، ومنهجه التجهيل والتسلط والاستبداد؛
- بما أن "السياسة" هي علم تدبير الشأن العمومي، ولأن جودتها مشروطة بتطوير القوانين والديمقراطيا في خدمة الحقوق والحريات، وتكوين من يمارسها على أسس علمية وتنمية مهاراته في المجالين النظري والميداني، ونشر الثقافة الحقوقية في أوساط الشعب؛ وهذا ما يجب أن يكون، وفي هذه الحالة ستتغير البراديغما الخاصة بالشأن السياسي، وحتى تستعيد اعتبارها، فإن من يمارسها ويحترم هذه المبادئ هو من يستحق صفة "السياسي" بينما من يقف على الطرف النقيض من هذه المبادئ فليس من حقه هذه "الصفة" ويبقى مجرد "محتال" و"منتحل" للسياسة؛ وبالتالي فكل ريجيم سياسي هو بالضرورة ذلك الذي يحترم تلك المبادئ، وكل ما عاداه لا يجب وصفه بالريجيم السياسي، والأمر ينسحب على النسق أيضا وعلى رجال السياسة ونسائها. وبالتالي فكل رجل سياسة أو حزب أو ريجيم أو نسق لم يتشبع بالقيم الديمقراطية ولا يعمل بموجبها، هو في الجوهر "معاد أو جاهل للسياسة" ومن العدل أن يتم عزله عن العمل السياسي.
نستنتج، عبر تجارب التاريخ البشري، أن السياسة هي أم العلوم وفق تعبير أرسطو، وأن الدستور هو ذلك النشيد الذي يبدعه الشعب بكل ما يملك من حب وذكاء وجهد، هو خارطة طريقه في عيشه المشترك، هو تعاقده على أهم قضاياه التي تضمن له السلم والأمن والعدل والحرية والحياة السعيدة. وأن تبني بيتا بسيطا يتوفر على معايير الصحة والأمن، وعلى عوامل الراحة أفضل من أن تبني، عن جهل، قصرا شامخا يعاني من جميع الاختلالات تقضي حياتك كلها في محاولة ترميمه، فلا القصر يكون قابلا للترميم ولا أنت تنعم بحياتك. (للمقال مراجع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????


.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي




.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي


.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت




.. بالخريطة التفاعلية.. كل ما تريد معرفته عن قصف أصفهان وما حدث