الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عيون الأطفال الفيليين و تفاصيل مؤلمة

احمد الحمد المندلاوي

2020 / 10 / 7
حقوق الاطفال والشبيبة


# وصلتني هذه القصة المؤلمة من سلسلة قصص لن يطويها النسيان ،من الأخت فائزة ناصر،اذ تقول:
بملامح أتعبتها السنون،أغمضت عينيها لتتذكر المشهد كاملاً و تسرده بكل تفاصيله المؤلمة، تنهدت وقالت: عندما طرقوا الباب بقوة أحسستُ بأن شيئاً فظيعاً قد حدث،فركضت وفتحته ليخبرنا أحد الجيران بأن أهلي و أهل زوجي قد تم القاء القبض عليهم من قبل البعثيين و أخذوهم في سياراتهم،ركضنا أنا وزوجي مثل المجانين في الشارع وعند وصولنا الى بيت أهلي وجدت طعام الغداء الذي ما زال ساخناً موضوعاً في الأواني وقوات تلبس ملابس عسكرية تملأ المنزل بحثت في عيون الموجودين علّي أجد أهلي من بينهم, ولكني لم أرَ أحداً منهم, دفعوني لخارج الدار وأخبروني أنَّ المنزل قد صودر و أصبح من ممتلكات الدولة الآن. انَّها الأرملة الفيلية (خديجة عبد الحسين الحيدري) من مواليد 1953, تزوجت من الشهيد الفيلي (ياسين رستم باولي) وسكنوا مدينة الصدر مع أبنائها الثلاثة، تحدثنا عن مأساتها التي عاشتها في ظل النظام البعثي وتقول:
في عام 1980م ألقت القوات البعثية الصدامية القبض على أهلي كلهم وكذلك أهل زوجي بتهمة التبعية الإيرانية رغم إنّنا عراقيون وأجدادنا مدفونون بالنجف الاشرف, ولم استطع حتى توديعهم, كل ما عرفته من هنا وهناك انه تم تهجيرهم الى ايران ومصادرة كل أموالهم. وتضيف خديجة أصبحنا بعدها نعيش الخوف كل لحظة وننتظر أن يأتوا الينا ويأخذونا كما أخذوا أهلنا, زوجي كان معروفاً بخلقه النبيل ،والناس ومعارفنا كانوا يحبونه فقد كان يحب عمل الخير كثيراً، وكان يعمل في تصليح راديترات السيارات, التحق على مضض كجندي احتياط في الجيش العراقي ولكن عندما طلبوا مواليده للالتحاق بجبهات القتال لم يذهب كون أهله مهجرين الى إيران, ولكن البعثيين المنتشرين في كل مكان من سكنة المنطقة ابلغوا عنه، وعلى أثرها التحق بالجيش واستمر شهراً واحداً بالدوام،وتركه مخافة أن يسألوه عن أهله المهجّرين, ولكن البعثيين أتوا لبيتنا وقاموا بتهديدنا في حال لم يلتحق سيلقون القبض عليه بتهمة الفرار من الجيش،رجع زوجي بعدها للعسكرية على أمل أن يشفع ذلك له أمام السلطاتن، ويتركونا في العراق.
وتتابع خديجة في أحد أيام عام 1982م تم استدعاؤنا الى مديرية الإقامة وأخبرونا انَّه لغرض الاستجواب, ولكننا كنا نعلم جيداً إنّ المسألة أكبر من مجرد استجواب، أخذتُ بعض الملابس البسيطة لأطفالي، وذهبنا بخطى متثاقلة والأفكار تتصارع في مخيلتنا عن مصيرنا المجهول، تارة أنظر لزوجي نظرة يأس وأقول في قرارة نفسي يا ترى هل سأراه ثانية؟.. وتارة أخرى أنظر لأطفالي وأفكر فيما سيحل بهم، وصلنا الى المديرية وكان الزبانية من موظفيها بانتظارنا, أدخلونا على أحد المسؤولين لم أعرف اسمه،وطلب منّا جنسيات العائلة فأعطاها زوجي له،وصار يقلب فيها الى أن وصل لهوية زوجي وكان مكتوب عليها انّه من التبعية الايرانية، وهنا رفع رأسه ونظر اليه بخبث، وسأله بمكر عن دوامه بالعسكرية،فأجاب زوجي بانه مستمر بالدوام. وتستدرك الأرملة خديجة بعدها التفت هذا الرجل اليّ وسألني باستهزاء عن مكان أهلي و أهل زوجي، بالرغم من انّه يعرف مكانهم أكثر مني, فقلت له بصوت مرتجف لقد تم تسفيرهم الى ايران قبل عامين،في هذه اللحظة نظر بسخط علينا وملامح وجهه تقطر حقداً وكراهية, وأمر أحدهم بأخذ زوجي، مسكت يد زوجي بقوة وكأني أتوسله أن لا يتركنا ولكن الأمر ليس بيده, ونظر الينا نظرة كأنّه يودعنا وأخذوه من بين أطفاله ولم نعلم حينها انّها لحظات الوداع الأخير، وأن عائلتنا لن تجتمع مجدداً، وإنّني لن أرَ زوجي بعد تلك اللحظة أبداً، وكان هناك شخص يدعى عبود شبيه الى حد كبير بجلاد الملك كان مجرماً يعمل بمديرية الإقامة وليس هناك كوردي فيلي لم يلتقِ به أو يسمع عنه،فقد آذى الكثير منا الى حد كبير, قبل أن يأخذونا من الإقامة رجوته بأن يجلب لي رصيدي في البنك قبل تسفيرنا لأنّي لا أحمل نقوداً معي، والذي كانت قيمته 2250 ديناراً عراقيا آنذاك، فقال لي إعطيني الصك وسأجلب لك المال، أعطيته الصك لكني لم أرَه بعدها أبداً.
وتؤكد خديجة:أخذوني بلا رحمة مع أطفالي الثلاثة وكان إبني الصغير حينها يبلغ من العمر 6 أشهر،ورمونا في أحد المعتقلات في جنوب شرق بغداد،والتي كانت مليئة بآلاف العوائل الفيلية وكلهم من النساء والاطفال والشيوخ أما الشباب فكان مصيرهم مجهولاً مثل مصير زوجي،كانت قاعات السجن مكتظة وبالكاد كنا نجد مكاناً ننام فيه وكان البرد قارساً ولم اجلب الكثير من الملابس لي و لأطفالي معي،ألا انْ بعض الخيرين من العوائل المسجونة معنا أعطونا بعض الملابس والبطانيات، وكنا نعاني من البرد وقلة الطعام ولم نستطع حتى الاغتسال وعشنا كل لحظة كأنها دهر من الزمان،كنت أبكي وأنا أظر لكل الأطفال الموجودين و أتسائل ما الذنب والجرم الذي اقترفه هؤلاء الأطفال كي يعيشوا هذه اللحظات القاسية، ويدخلوا السجن وهم بعمر الأشهر،اين العالم؟ أين حقوق الانسان؟ أين منظمات الإغاثة من هذا الحال المزري الذي نعيشه؟؟. وتضيف خديجة بقينا في هذا السجن وعلى هذا الحال ما يقارب الشهر، في هذه الأثناء تمت مصادرة أموالنا وممتلكاتنا، وأصبحت منهوبة باسم القانون الأعمى،الى أن دخلوا علينا السجن وأمرونا بالمضي معهم سألناهم ما الذي يجري؟ الى اين تأخذوننا؟.. قالوا سنسفركم الى ايران، في تلك اللحظة توقف الزمن وبكيت كما بكى البقية بمرارة وسألتهم عن مكان زوجي قالوا لي إنَّهم سيرسلونه بعدي الى إيران, صعدنا الى سيارات كبيرة تسمى (المنشآت) سارت بنا في يوم مغبر, حاولت فيه النظر الى كل شبر من ارض العراق الذي تركته دون وداع مثل زوجي وأهلي, كي أملأ عيني منه ولكن دموعي المنهمرة حالت دون ذلك.
وتتابع خديجة سارت بنا السيارات مدة نهار كامل الى أن وصلنا الى منطقة جبلية تسمى (جوان رود), أنزلونا من السيارات وأمرونا انْ نركض باتجاه معين، وحذّرونا من العودة أو الالتفات للوراء لأنهم سيطلقون النار علينا،أمسكت بيد طفلتي الصغيرتين, وأنا أمل ابني الرضيع على كتفي، ورميت الحقيبة التي معي كي استطيع الركض، وركضنا بهول الى المجهول ونحن نتوقع أن يقتلونا في أي لحظة، لكنهم لم يفعلوا ذلك لأنّهم كانوا يعلمون إنّ المنطقة مليئة بالألغام وهي ستقوم بالمهمة نيابة عنهم، وفعلاً هذا ما حدث فقد رأيت بأم عيني إنفجار أحدها على فتاة هي وجدّها من الذين كانوا معتقلين معنا وتقطعوا الى أشلاء متناثرة وسط صيحات الأُم الثكلى،ولكننا كنا مضطرين لتركهم حتى دون تغسيل ودفن .. فهَمُّنا الوحيد هو ان ننجو مع أطفالنا. وتستدرك خديجة مشينا في منطقة جبلية وعرة خائفين ومرعوبين من لحاق الجيش العراقي بنا وقتلنا ومن الألغام التي قد تنفجر على أحدنا في أي لحظة ومن الحيوانات المفترسة في المنطقة،أو من الحيوانات البشرية من قطّاعي الطرق ،مخاوف كثيرة أرعبتنا والتعب أنهك أجسادنا الى حد كبير خصوصاً وأنّنا لم يكن معنا رجال عدا شيوخ كبار في السن،بلا طعام وبلا مؤونة وبلا ملابس كافية تقينا برد ذلك الشتاء الذي لا ينسى كان أطفالي يبكون من شدة الجوع والتعب وكنت أصبرهم بقرب الوصول رغم أنّني لم أكن أعرف أين نحن من على خارطة الكرة الارضية، ألا أن إبني الرضيع كان يبكي بشدة ولم أعرف ماذا أفعل؟؟ فقلت له إنَّك يا ولدي تحملت السجن فتحمل الجوع أيضاً لحين مجيء فرج الله،فقد ولدتك للشقاء والعذاب.
وتضيف خديجة: مع غروب شمس ذلك اليوم العصيب، وصلنا الى قرية صغيرة مهجورة فقررنا ان نبيت بها لحين شروق الشمس، ولم نشعر إلا وقد أحاط بنا مجموعة من الرجال الذين يحملون الاسلحة.. كانوا عبارة عن قطاعي طرق،وكنا قد سمعنا العديد من الحالات لمهجرين سبقونا عن حالات إغتصاب وسرقة وقتل من قبل هؤلاء المجرمين، وبعضهم قال إنّ المدعو عبود هو من يتفق معهم على أذيتنا، أعطيناهم كل ما نحمل من مال ومصوغات ذهبية وأشياء ثمينة وعائلة من عشيرة الملكشاهية كانوا سائرين معنا أخذوا منهم ما يقارب ثلاث كيلوغرامات من الذهب،أما أنا فقد أعطيتهم كل الخواتم في يدي فقط أردنا أن يتركونا بدون أن يؤذونا أو يغتصبوا شرفنا حتى خاتم زواجي والذكرى الوحيدة المتبقية لي من زوجي سلبوني أياها،فقط أردنا النجاة بحياتنا و حياة أبنائنا, وفعلاً استطعنا الخلاص منهم، وفي فجر اليوم التالي خرجنا نكمل مسيرتنا المجهولة،وما زاد الطين بلة هطول الأمطار علينا، وكأن السماء تبكي على مأساتنا، ولكنّنا تأذينا من البرد والمطر، مشينا بخطى متثاقلة والخوف يكتسحنا بقوة ليتكرر مشهد السطو من قبل قطاعي الطرق بكل وحشية وسط صراخ الأطفال والنساء ونحن نقرأ آيات من القرآن الكريم كي ينجينا من هذه المصائب. وتبين خديجة بقينا نمشي الى ما بعد الظهر،لحين ملاقاتنا مجموعة من الرجال عرفنا فيما بعد أنّهم من الحرس الحدودي الإيراني استبشرنا خيراً برؤيتهم،وفعلاً استقبلونا وأعطونا الملابس والأحذية، فقد تمزقت الأحذية التي كنا نرتديها خلال المسير وأعطونا الطعام،ثم جلبوا لنا سيارات حملونا بها الى مساجد وضعونا فيها معزّزين مكرّمين, وفي اليوم التالي أخذونا الى مخيمات اللاجئين في كرمانشاه وبقيت هناك أحد عشر يوماً بعدها أتى العراقيون الذين سبقونا بالتهجير يبحثون عن أهاليهم وذويهم، فأعطيتهم أسماء أهلي عسى ولعل يصلني خبر منهم وهذا ما حدث فقد وصل الخبر لأخوتي في إيلام وجاء أقاربي وتكفلوني ثم أوصلوني لأهلي مع أطفالي الثلاثة. وتقول خديجة قضيت ثلاثين سنة في الجمهورية الاسلامية الايرانية تكفلت خلالها بأطفالي وحدي واستطعت ان أُربيهم بلا أب و طوال تلك السنوات كنت آمل أن أجد والدهم في يوم من الأيام, الى أن سقط نظام صدام غمرتنا السعادة حينها وشعرت بأنَّ الله إنتقم منه لأفعاله الدنيئة مع أبناء المكون الفيلي الى جانب الفئات المظلومة الأخرى، ورجعت الى أرض الوطن أبحث عن زوجي.. وبعد تعب مضني أخبروني في مؤسسة الشهداء أنَّه استشهد مع آلاف الشباب الذين تم إرسالهم الى الجبهات القتالية الأمامية لينظفوا الطريق من الألغام, واليوم ليس له أثر أو قبر حتى نزوره وتقر عيننا،وضاعت أحلام إبني الذي كان قد قرّر أن يجعل من أبيه أسعد شخص بالعالم حين يجده. وتضيف الأرملة خديجة اليوم أنا امرأة كبيرة أطالب بحقي في العيش الكريم بعد المعاناة والمأساة التي عشتها في حياتي خصوصاً وانه ليس لي معيل، رجعت الى أرض الوطن لأجد بيتي يسكنه الغرباء وعندما طالبتهم بالرحيل قالوا لي إنّهم اشتروا العقار من الحكومة، وعندما لجئت للحكومة قالوا لي وكلي محامياً ليتابع المسألة. والمحامي طلب أجوراً كبيرة لا استطيع تسديدها، والمشكلة الأخرى انَّه لم تثبت بالوثائق إستشهاد زوجي ما يعني انني لن أستلم أي حقوق أو راتب لحين إثبات ذلك ولم استلم أي شيء الى اليوم. وتطالب خديجة الحكومة الحالية الموقرة الالتفات الى وضعها وحالتها و إيجاد الحل لها ولعشرات الآلاف مثلها من أبناء الشريحة الفيلية فنحن جزء من أرض العراق سواء شاءت الحكومات الجائرة ذلك أم أبت, ورجعت على أمل أن تجد الراحة بعد سنين الغربة والعذاب والى اليوم لم يتحقق ذلك، على حد تعبيرها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسل الجزيرة: أي غارة إسرائيلية على رفح توقع شهداء وجرحي لت


.. لحظة اعتقال مواطن روسي متهم بتفجير سيارة ضابط سابق قبل أيام




.. واشنطن: طرفا الصراع في السودان ارتكبا جرائم حرب


.. عام على الحرب.. العربية ترصد أوضاع النازحين السودانيين في تش




.. برنامج الأغذية العالمي: السودان ربما يشهد -أكبر أزمة غذائية