الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الحادي عشر/ 2

دلور ميقري

2020 / 10 / 7
الادب والفن


في ظهيرة اليوم التالي، وكان جمعة، يقضي فيه جمّو وقته بالحديقة المنزلية معتيناً بالأزهار، جاءت شقيقته مع ملاءتها السوداء، المكتنفة هيئتها. على الأغلب، أنّ فَدو تركها مع امرأته وخرجَ، فآثرت الهربَ كيلا تبقى تحت أنظار زوجته، الكامدة والكئيبة. لكنّ النهارَ كان جميلاً وحارّاً، دفعَ امرأة جمّو للجلوس في الإيوان. رأتها تقشّر البطاطس، لأجل طبخة الغداء. لم يكن من شيمة رابعة، مدّ اليد لمعاونة أيّ كان مذ مغادرتها الدار غبَّ مرض والدتها الأخير. لكنها بوجود شقيقها الأصغر، الذي بالكاد ردّ على تحيتها، راحت تقطّع ثمار البطاطس المقشّرة بوساطة السكين. جثمَ الصمتُ على الجلسة لدقائق، قبل أن تفتح الضيفة فمها: " ابني سيحضر ليأخذني إلى داري، وأتمنى ألا يتأخر. لأن اليوم عطلة، أظنه سهر بالأمس خارجاً. صرتُ أكره ليالي الخميس، لما تسببه لي من قلق عليه "
" خلّو شاب وعازب، لكنه عاقل. ومن يجرؤ، خصوصاً في هذه الأيام، التعرّضَ لأحد رجال الأمن؟ "، علّقت بيان. تهلل وجه الأخرى، كونها أتت بالأساس كي تصلح ذات البين مع أهل الدار. لقد انتبهت حال دخولها المنزل، كيفَ رد جمّو بجفاء على تحيتها؛ ما يعني أنه عليمٌ بإساءتها لبيان يوم أمس. قالت لهذه الأخيرة، وهيَ تنهض من مكانها: " سأعدّ الطبخة بنفسي، بينما أنت تنتبهين لطفلتيكِ ". أصغر البنتين، كانت في الأثناء تزحف في أنحاء الإيوان هرباً من معابثات شقيقتها. كمألوف العادة في هكذا موقف، حلفت بيان على ابنة حميها أن تبقى في مكانها: " سأضعُ الطبخة على النار في خلال دقيقة، ثم أعود إليك ". قبل أن تخطو باتجاه المطبخ، ظهرَ رجلها ليبلغها أنه ذاهبٌ إلى دار صديقه، بديع نورا هلّو، وسيعود حتماً على موعد الغداء. في هذه المرة، تجاهلَ دعوة شقيقته لتناول الطعام معهم. جمّو، مثلما سبقَ القول، كان طبعه أرفع من العنعنات العائلية. هوَ النقابيّ، المعتاد على إلقاء الخطب الحماسية على رفاقه العمال في كل مناسبة، كان يسوؤه ولا مِراء أن يُحشَرَ في دسائس الحريم وأشياء تافهة من هذا القبيل.

***
مجرّد أن شعرت رابعة بصفاء الجو، بالنظر لطبع بيان الطيّب والمسالم، راحت تهز رأسها علامةً على أنها تود الإفضاء بأمرٍ مستطير. كان الصمتُ يسود المكان، بعدما أغفت الطفلتان على الأريكة العريضة، القائمة في صدر الإيوان. زقزقة العصافير، حَسْب، كانت تتناهى من مواقعها على أشجار الحديقة. تنهّدت المرأة الأرملة بصوتٍ مسموع، ثم ما لبثت أن قالت: " سأفضي لك بمسألة، أتمنى أن تبقى سراً بيننا "
" بالطبع، بالطبع. خيراً إن شاء الله؟ "، ردّت امرأة الأخ بغير حماسة. مع أنها كانت بمثابة صندوق أسرار لبعض صديقاتها وقريباتها، لكنها توجّست مما ستفوه به " المرأة المسمومة ". تنحنحت هذه، ثم ابتدأت الكلام مبتسمة: " ربما طال حديثي، فعليك الانتباه ألا تسلين أمر طبختك على النار ". بادلتها المضيفة الابتسام، برغم أن هواجسها لم تهدأ. في حقيقة الحال، أنّ نزراً مما توقعته من الأسرار، كان قد وصلها عن طريق " سارو "، ابنة هَدي. هذه الفتاة، السمراء ذات القسمات المتناسقة والجسد الرشيق، كانت تتصف بالاستقامة والبراءة، كذلك تكنّ المحبة لإمرأة عمها، التي تكبرها فقط ببضعة أعوام.

***
لقد عشقَ خلّو ابنة عمّته، وذلك مذ أن رآها لأول مرة وكانت لمّا تبلغ بعدُ سنَّ الآنسات. " أمّو " هذه، عُدّت بحق من أجمل فتيات الحارة، لدرجة أنّ المرآة يُمكن أن تصرخ بلوعة لو تجسّدَت على صفحتها الصقيلة. آلت مع مرور السنين إلى أن تغدو فتاةً هيفاء، يضجّ جسدها بلواعج الفتنة؛ سحنتها الناصعة كالفضة، ينهمر عليها شلال الشعر الأسود الناعم والغزير، يبرز منها أنف مستقيم دقيق، يعتلي شفتين بلون القرمز. لكن سحرها الحقيقي يكمن في عينيها الواسعتين، اللتين يغشى الاحورار سوادهما، فيظهران كحبّتي عقيق. إلى ذلك، كانت تتصف بالذكاء والثقة بالنفس مع شيء من الجسارة.
وإنها هيَ، أمّو، مَن أرشدت ابن خالها، الوسيم، إلى طريق العشق، وكان فتىً خجولاً بسبب تربية والدته، المتّسمة بالصرامة والمحافظة والقسوة. بيد أنه عوّضَ ذلك بحنان بالغ، استمده من جدّته، المرحومة سارة، وكذلك من خاليْه جمّو وفَدو. هذا الأخير، كاد مرةً أن يقضي بالخطأ على حياة الشاب، لما كان ينظف مسدسه بحضوره. إذ انطلقت بغتة رصاصة، فاستقرت في فخذه. ما سبب له عاهة خفيفة، يُمكن الانتباه لها، لو دققَ المرءُ في مشيته.
رابعة، كانت سببَ تعرّفِ الابن متأخراً على أسرة عمته، حينَ قادته يوماً إلى منزلهم للمشاركة في أمسية عزاء. فيما بعد، لم يعُد يخفى عليها ميل قلبه إلى ابنة العمّة، لكثرة تردده إلى بيتها. كون سلطة الأم مطلقة على خلّو، بيّنت له هذه بوضوح ألا يتوقّع مباركتها لزواجه بأمّو بأيّ حال من الأحوال. لكي تضعه في الصورة بشكلٍ واضح، عيّرت الفتاةَ بأبيها، وذلك على خلفيّة حكاية مشينة كانت الحارة قد نسيتها منذ سنوات طويلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد