الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ناغورني قره باغ: مغامرة جديدة للتوسع التركي وتجديد ابادة الشعب الارمني

جورج حداد

2020 / 10 / 8
الارهاب, الحرب والسلام


إعداد: جورج حداد*


في الادبيات السياسية التاريخية هناك تعبير شائع اطلق على منطقة البلقان التي انطلقت منها شرارة الحرب العالمية الاولى، والتي شبهت بأنها "برميل بارود". وقد اطلقت هذه التسمية على منطقة البلقان لانها تمثل نقطة تلاقي ـ وتصادم! ـ ثلاثة عوالم متناقضة هي: العالم الصليبي الاستعماري الغربي، والعالم الاسلامي ـ العثماني الفتوحاتي، والعالم المسيحي الشرقي المتمثل اساسا بروسيا.
واننا اذا وضعنا هذا "البرميل البارود" على بطنه، فسنكتشف ان فوهته الامامية تقع في البلقان، ولكن فوهته الخلفية تقع في منطقة ما وراء القوقاز، وقلبها (جورجيا وارمينيا واذربيجان). فهذه البقعة الملتهبة من العالم حيث يتلاقى شمال غرب اسيا مع شرق اوروبا، احاطت بها منذ القديم، وتصارعت، وتعاونت، وتزاحمت ـ في مختلف المراحل ــ شتى امبراطوريات العالم القديم في العصور القديمة والمتوسطة: الامبراطورية الروسية، والبيزنطية (قبل وبعد استقلالها عن روما التاريخية)، والطورانية التركية (السلجوقية والعثمانية)، والمغولية ـ التتارية، والفارسية. وكانت ـ ولا تزال ـ شعوب هذه المنطقة (ولا سيما الارمن والاذربيجانيون) "شريكة" محلية، واداة، وضحية، لمطحنة الصراعات الدولية المحيطة بها. وبنتيجة هذه الصراعات كانت منطقة ما وراء القوقاز عرضة، وعلى مدى مئات والوف السنين، للضم لهذه الامبراطورية او تلك، وللتجميع، وللتفكيك، ولاعادة التجميع، واعادة التفكيك... ومن ذلك انه في القرون الاخيرة قبل الميلاد نشأت مملكة ارمينيا الكبرى، التي امتدت من بحر قزوين (اي شملت الاراضي الاذربيجانية الحالية) الى قيليقية (في تركيا حاليا) المحاذية للبحر الابيض المتوسط. ولكن الصراعات ادت الى تفكيك هذه المملكة الى خانات وامارات وممالك صغيرة متضاربة. ونذكر هنا ان القائد القرطاجي العظيم هنيبعل برقة (او بركة) حينما ادرك انه تحاك ضده في قرطاجة مؤامرة لتسليمه الى روما، ارتحل الى احدى الممالك الارمنية في شمال سوريا (جنوب تركيا) وساعدها في الحرب ضد الامبراطورية الرومانية، التي كانت تجتاح الشرق. وقد اكتشف هنيبعل هناك ايضا انه يجري تدبير مؤامرة ضده لتسليمه الى روما، فتجرع السم وانتحر. وفي القرن الاول الميلادي اسس الارمن مملكة قيليقية الارمنية، التي استولى عليها الاتراك في 1375. وقد ظلت اعداد كبيرة من الارمن تعيش في قيليقية حتى الحرب العالمية الاولى. الى ان تم التطهير العرقي في قيليقية للارمن الارثوذكس والسريان الارثوذكس والروم الارثوذكس في المجازر التركية في 1915 – 1922.
وفي نهاية الحرب العالمية الاولى انهارت الامبراطورية الروسية وانتصرت الثورة الاشتراكية في روسيا. وحينذاك فتح افق جديد لحل النزاعات القومية ـ الدينية في ما وراء القوقاز على اساس التآخي الاممي ـ الاشتراكي.
ولكن في ظروف مرض زعيم الثورة لينين، وسيطرة ستالين (بالتحالف مع الصهاينة) على السلطة السوفياتية، طبقت الستالينية سياسة براغماتية ـ تعسفية ـ استبدادية ضد القوميات والاديان في الاتحاد السوفياتي، بما في ذلك ضد الارمن والاذربيجانيين.
وفي سنة 1923 قدم ستالين للشعبين الارمني والاذربيجاني "هديتين" مسمومتين او ملغومتين: إذ تم فصل منطقة ناغورني قره باغ الارمنية عن الوطن الام ارمينيا، واحاطتها باراض ارمنية جرى اخلاء الارمن منها وضمها الى اذربيجان، بحيث اصبحت ناغورني قره باغ (التي يعيش فيها حوالى 150 الف نسمة) جزيرة ارمنية ألحقت قانونيا بشكل مصطنع باذربيجان. وفي المقابل جرى فصل منطقة نخجوان (ناخيتشيفان) الاذربيجانية (التي يعيش فيها حوالى 500 الف نسمة) عن اذربيجان، وهي حتى الان "جيب اذربيجاني"، ذي حكم ذاتي، يتبع قانونيا لاذربيجان، ولكن الاراضي الارمنية تفصله جغرافيا عن اذربيجان. ويقع هذا الجيب في جنوب ارمينيا بين ارمينيا وايران (تحديدا اذربيجان ايران). وكان الهدف الستاليني من هذا الشطرنج الجغرافي ـ الديموغرافي، التعسفي والاستبدادي، هو الاحتفاظ بالنزاع القومي ـ الديني، الاذربيجاني (الطوراني) ـ الارمني، كنار تحت الرماد، يمكن اشعالها في اي وقت، لتبرير التدخل القمعي للسلطة الستالينية، بهدف الاحتفاظ بالولاء الارمني التقليدي لروسيا، وفي الوقت ذاته الاحتفاظ بالنفط الاذربيجاني الذي كان مصدر النفط شبه الوحيد لروسيا في تلك المرحلة.
ولدى انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991 بفعل خيانة القيادة الغورباتشوفية (النيوستالينية) المتصهينة، طرحت على الفور ـ وبحدة ـ مسألة مصير ناغورني قره باغ. وكان هناك توجه قوي لدى غالبية سكان المقاطعة بالانضمام الى الوطن الام ارمينيا. وامتشق عشرات الالوف من سكان ناغورني قره باغ السلاح على نطاق واسع وشكلوا جيشا حقيقيا كبيرا لاجل تحقيق هدفهم القومي. ولكن من وجهة النظر الشكلية للقانون الدولي كان ضم ناغورني قره باغ الى ارمينيا يعني الاعتداء على سيادة اذربيجان، وخرق القانون الدولي، وتخريب الستاتيكو الدولي في الاقليم. وهذا ما كانت ارمينيا ذاتها تتحفظ عن القيام به، كما تعارضه روسيا. وحينذاك اندلعت انتفاضة شعبية مسلحة في ناغورني قره باغ تحت شعار المطالبة بالاستقلال عن اذربيجان. وتحت ضغط التأييد الشعبي الارمني الكاسح للانتفاضة في ناغورني قره باغ، قامت السلطة الارمنية بدعم الانتفاضة عسكريا. ووقعت الحرب بين اذربيجان وبين ارمينيا وناغورني قره باغ في 1992 - 1994. وانتهت هذه الحرب بسيطرة الارمن على الاراضي "الاذربيجانية" التي كانت تفصل بين ارمينيا وبين ناغورني قره باغ، وباعلان ناغورني قره باغ كجمهورية مستقلة من طرف واحد. وقد جرت انتخابات في "جمهورية ناغورني قره باغ" (ارتساخ بالارمنية) سنة 2002، ومع ذلك لم تعترف بها ولا دولة في العالم، بما فيها ارمينيا ذاتها. ولكن واقعيا فإن جمهورية ارمينيا تعامل ناغورني قره باغ كجزء منها.
والسؤال الكبير الان هو: لقد كانت فتنة ناغورني قره باغ نائمة في ادراج الزمن الى ان يتم حلها سلميا بالتفاهم بين قادة الشعبين الجارين والشقيقين اللذين امتزجت دماء مئات الالوف من خيرة ابنائهما في الصراع المشترك ضد الهمجية النازية في الحرب العالمية الثانية. فلماذا تم تفجير الازمة في هذه المرحلة بالذات؟ ومن فجرها؟
ان اي جواب على هذا السؤال سيكون جوابا مبتسرا وسطحيا وغير ذي قيمة حقيقية اذا لم يأخذ بالاعتبار النقاط الجوهرية التالية وينطلق منها:
ـ1ـ ان ما يسمى "العالم العربي"، اي المنطقة الممتدة بين موريتانيا في الغرب، والكويت في الشرق، وبين اليمن في الجنوب، ولواء الاسكندرون السليب في الشمال، ـ هذه المنطقة، وبما يحيط بها من بحار ومحيطات، هي مهد الحضارة العالمية، وكانت ـ ولا تزال ـ تمثل قلب العالم القديم (والمعاصر). وكانت هذه المنطقة على الدوام محط اطماع جميع الغزاة من الغرب ومن الشرق.
ـ2ـ واذا كانت روما القديمة، والصليبية، والاستعمار المعاصر، والصهيونية، هي العناوين الرئيسية للغزاة الغربيين للعالم العربي؛ فإن العناوين الرئيسية للغزاة الشرقيين تتمثل في المغول والتتار، والطورانيين الاتراك (من السلاجقة الى العثمانيين)، وحثالة المماليك الذين جاء بهم الايوبيون الاكراد؛ وهؤلاء جميعا دمروا الحضارة التاريخية لشعوب العالم العربي، واستبدوا بها، واذاقوها الامرّين، واوصلوها للحضيض، متسترين بالدين الاسلامي.
ـ3ـ وبالنسبة للغزاة الطورانيين الاتراك، القادمين من الشمال الشرقي، فإن الارمن في القوقاز، والاشوريين في شمال العراق، والسريان في شمال سوريا (بموقعهم الجغرافي وانتمائهم الديني المسيحي الاورثوذوكسي) كانوا يمثلون موضوعيا "العقبة الاولى" و"خط الدفاع الاول" بوجه التوسع الطوراني التركي نحو العالم العربي او "الشرق الاوسط الكبير" (حسب التعبير الجيوسياسي الاميركي المعاصر). ومن هنا نشأ الحقد العميق الطوراني التركي ضد الارمن والاشوريين والسريان. ومن هنا نشأت نزعة ابادة الارمن والاشوريين والسريان لدى الطورانيين الاتراك (الخلافاتيين و"الجمهوريين" والاردوغانيين "الخلافاتو ـ جمهوريين").
ـ4ـ ان نزعة ابادة الارمن هي مكوّن جيني اساسي في نزعة التوسع الطوراني التركي. والإشعال الحالي لازمة ناغورني قره باغ ما هو الا فصل جديد من فصول تراجيديا ابادة الارمن، واحلال غير الارمن في اراضيهم المحروقة؛ وهي التراجيديا المتواصلة منذ مئات السنين.
وجوابا على السؤال: لماذا الان؟ نشير الى النقاط التالية:
ـ أ ـ لقد تلقت تركيا الاردوغانية لطمة شديدة بفشل مشروع اقامة الخلافة الداعشية الذي كان مشروعا تركيا بامتياز. ولكن من الخطأ الفادح ادنى اعتقاد ان تركيا الاردوغانية، وبفعل هذا الفشل، قد تراجعت وتخلت عن نزعتها التوسعية. واذا كانت تركيا قد اضطرت الى التراجع والقيام بالمناورات السياسية ـ العسكرية في سوريا، فإنها في الوقت نفسه عمدت الى تحريك الازمة مع اليونان وقبرص حول التنقيب عن النفط والغاز في شرقي المتوسط، كما والى التدخل العسكري في ليبيا؛ وهي تحرك وتستخدم الداعشيين في مغامراتها التوسعية والعدوانية. ومن ضمن هذا السياق التوسعي دفعت تركيا "حليفتها" اذربيجان لتحريك فتنة ناغورني قره باغ.
ـ ب ـ تراهن القيادة الاردوغانية على ان احتمال نجاح ارتكاب المجازر المخطط لها ضد الارمن في ناغورني قره باغ سيؤدي الى استفزاز التيار العنصري الارمني المتطرف وتحفيزه على انتزاع السلطة في ارمينيا، ومن ثم القيام بمذبحة ارمنية ضد المدنيين الاذربيجانيين في جيب نخجوان (ناخيتشيفان)، مما سيزعزع العلاقة الجيدة بين ارمينيا من جهة وبينها وبين ايران وروسيا من جهة اخرى. وهذا يعني عزل ارمينيا دوليا وخنقها سياسيا واقتصاديا، وتبرير التدخل العسكري التركي الواسع وإطباق الكماشة التركية ـ الاذربيجانية على ارمينيا وسحقها عسكريا، والقضاء على وجود الدولة الارمنية.
ـ ج ـ ان الهدف القريب للفتنة الحالية هو القضاء التام على الوجود الارمني في ناغورني قره باغ. ولكن الهدف التالي هو القضاء الكلي على الدولة الارمنية والوجود الارمني في القوقاز، ووصل الحدود بين تركيا واذربيجان الطورانيتين.
ـ د ـ واذا قدر لا سمح الله لتركيا تحقيق هذا الهدف، ووصلت "حدودها" الفعلية الى بحر قزوين، فإنها تأمل ان تقيم علاقات مباشرة مع الدول الاسلامية في اسيا الوسطى، التي هي بأغلبيتها دول طورانية؛ وتستطيع تركيا بذلك، بدعم ومباركة اميركية واطلسية، ان تقيم جدارا طورانيا تركيا عاليا يمتد من اسيا الصغرى والقوقاز، عبر بحر قزوين، الى اسيا الوسطى، لعزل وتطويق ايران جنوبا، وروسيا شمالا.
ـ هـ ـ واذا ـ في اسوأ الاحتمالات بالنسبة لتركيا ـ فشل هذا المخطط كله، فإن الدولة التركية التي تقف الان بقضها وقضيضها الى جانب اذربيجان، تأمل ان تحصل على "جائرة ترضية" تتمثل في "تطوير" خط انبوب النفط الحالي الممتد بين باكو وميناء جيهان التركي، ووضع اليد كليا على النفط والغاز في اذربيجان، وعبرها في بحر قزوين.
والقيادة الاميركية ـ الاطلسية ليست بعيدة عن هذه المخططات الجيوستراتيجية العدوانية التي تنفذها تركيا، بل هي مهندسها الاول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشكل طريف فهد يفشل في معرفة مثل مصري ????


.. إسرائيل وإيران.. الضربات كشفت حقيقة قدرات الجيشين




.. سيناريو يوم القيامة النووي.. بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم


.. المدفعية الإسرائيلية تطلق قذائف من الجليل الأعلى على محيط بل




.. كتائب القسام تستهدف جرافة عسكرية بقذيفة -الياسين 105- وسط قط