الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبد الحي مسلّم زرارة( 1933-2020).. زيتونة فلسطينية يكاد زيتها يروي مشاعل الحرية

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2020 / 10 / 9
القضية الفلسطينية


"لم يكن هدفي, دائماً, أن أعرض [أعمالي] لكي أبيع ولو اضطررت لذلك, ومعظم أعمالي المرتبطة بفلسطين وقضيتها أحتفظ بها, وحلمي أن يقام-ذات يوم- ويلتئم شمل أعمالي [المتبقية وعددها 400] المتعلقة بالقضية الفلسطينية في متحف صغير أوثّقه بطريقتي الخاصة لكي يبقى للأجيال القادمة".
أجل, هكذا الأماني قطعت أعناق أصحابها كما تقول العرب, فها هو قلب عبد الحي مسلّم يتوقف-أخيراً- عن الخفقان(1), دون تحقيق أمنيته تلك. لكن حلمه, بالحرية, لم يتوقف, رحلة طويلة امتدت على مدار قرن تقريباً من الدوايمة إلى مخيم العرّوب وعمان وطرابلس الغرب وبيروت ومخيم اليرموك(2), وأخيراً عمّان. رحلة كان يصرّ فيها أن يبقى طفلاً يؤسس لنمط فريد من النحت الفطري. ولعل القدر لعب دوراً في أن يسكب فطرته فناً لم يتلق مبادئه في الأكاديميات الفنية ولم يقعد على ركبتي أستاذ, بل هو فن محض تخلّى عن العلم والأدب لكي يبقى بعيداً عن التشنج والأسى والهم ولكي يبقى فرحاً وصادقاً, كما يقول هو نفسه في لقاء قديم مع جريدة الرأي الأردنية يعود للعام 2001. ولذلك لم يشغله -عن فنه- مزاجية المثقفين وتعاليهم، ولا إطراء النقاد الباذخ، ولا المجد والترف المصاحبين للشهرة, وإذا كانت الحياة ورطة كما يقال.. فالفن، كما الحب، منتهى تلك الورطة, وهكذا خرج عبد الحي من قلب المحنة والتجربة ومن "قلب الثورة الفلسطينية", كما يصف نذير نبعة, في زمن- يتابع نبعة- تاهت فيه الثقافة داخل سراديب المقولات والأفكار وغامت فيه الطرق وانتشرت الثرثرة انتشار الهواء.. في مثل هذا الزمان الصعب خرج عبد الحي منطلقاً مثل إحدى القذائف نظيفاً من كل الشوائب التي علقت بالثقافة والمثقفين حراً بسيطاً واضحاً صادقاً لا تكتسب هذه الصفات الهامة بالجهد بل هي عناصر معدنه تجدها مصورة فيه كإنسان طبيعي في كل إنتاجه الفني الذي يأخذ منك المحبة والإعجاب خارج الأطر السائدة والنظريات الجمالية المتداولة ولكنه يبدع جمالياته الخاصة.
قال عن صديقه مصطفى الحلاج: "العمل الفني عند مسلّم أداة ووسيلة لتجسيد المفاهيم والقيم والأفكار والقضايا أحياناً اختار طريق في كتب بالخط العادي ما يرغب في أن يعبر عنه لا يغلق الدائرة بل يفتحها على نطاق أوسع من الإيحاءات.. إنسان شعبي حتى العظم يملك ذاكرة واسعة وقدرة كبيرة على الملاحظة ويتضح ذلك في أعماله الغنية بالتفاصيل الدقيقة وفي استخدامه الكتابة كثيرا ما يكتب اسم العمل أو اسم الشخص الذي كان موضوع عمله ويكتب داخل نسيج العمل الفني بخط عادي كما نمارس الكتابة في حياتنا اليومية وأحياناً بطريقة زخرفية.. يغنّي بصوت جهوري فيستدرج الأشباح المعتمة التي تهمهم بصوت خافت, فيقبض عليها بأنامله فتصرخ, ويثبتها جسماً من معجون نشارة الخضب والغراء على سطح الخشب إلى الأبد.. ووصل إلى مرحلة اتسعت فيها دائرة التعبير لتصبح إنسانية شاملة رابطاً هاجسه النضالي الفلسطيني بالهاجس النضالي العربي والعالمي". (للمزيد انظر: الموسوعة الفلسطينية, القسم الثاني الدراسات الخاصة, المجلد الرابع, دراسات الحضارة, ص 920-921). ولا تختلف شهادة اسماعيل شموط كثيراً حين يجعل عبد الحي يسافر "على متن قلبه وبيديه وعينيه ينقش صور الرحلة الطويلة إلى فلسطين.. لم يدرس الرسم على يد أستاذ من إيطاليا أو فرنسا فبقيت يده فلسطينية فيها الأصالة ببساطة.. وقد أدرك عبد الحي عمق العلاقة بين الإنسان الفلسطيني والأرض فجعل الشجرة التي أصبحت في لوحاته وكأنها توقيعه شجرة مقدسة "(3)
تعج أعمال عبد الحي مسلّم بالأجواء الملحمية والاستحضار المذهل لشخوص البانثيون الكنعاني.. ويمزج مادة عمله المميزة "الغراء و نشارة الخشب" بتقنية فريدة تكاد تكون حكراً له, ولهذه الخلطة حكاية، فأثناء فترة عمله في سلاح الجو الليبي في الفترة ما بين 1971 – 1972 اكتشف عبد الحي نفسه فكان يحاول من خلال اللوحات أن يستعيد العالم السحري لطفولته. أثناء ذلك شاهد وجهاً لعجوز فلسطينية على غلاف إحدى المجلات، وتحته عبارة تقول: "نحن لن نغفر". استفزته الحالة وصار يفكر في صياغة المشهد بطريقة أخرى, فألصق الصورة على قطعة مسطحة من الخشب، ثم صنع عجينة من النشارة والغراء، فوضعها على الصورة وأخذ يجسم بها الوجه. هكذا اكتشف خامته التي راح يشكل بها فيما بعد لوحاته.. وفيما بعد, في الثمانينيات, وأثناء تواجده في يوغوسلافيا طلب من إدارة الفندق الذي يقيم فيه نشارة خشب وغراء وذات يوم أثناء عمله حضرت فنانة يوغوسلافية مع أمها التي كانت ترتدي ثوباً فلسطينياً فقال لها أن هذا الثوب فلسطيني, لكنها أجابت بحزم كلا, بل هو إسرائيلي وقد اشتريته من "تاجر إسرائيلي" في القدس، فحاول إقناعها أن النساء الفلسطينيات يصنعن هذا الثوب بأيديهن منذ آلاف السنين لكن دون جدوى, ومن هنا بدأ يركز على الثوب الفلسطيني والتراث الشعبي وإدخال كلمات الأغاني الشعبية في أعماله "لأن من سرق الأرض لن يترك لنا ذاكرة أو تاريخ"(4)
لا يمكن اختصار "تاريخ" الفنان عبد الحي مسلّم في سطور قليلة, وفي الحقيقة لست متخصصاً في النقد الفني ولا في تاريخ الفن, ولا أمتلك حتى تلك النظرة "الفنية" لذلك لن يكون كلامي هنا أكثر من مجرد ثرثرة لذكرى رحيل قامة وطنية فنية عظيمة ليس إلا وذلك خشية أن أغمط موهبة هذه الشخصية حقها النقدي المطلوب. وأكثر ما أستطيع قوله- على الصعيد الشخصي- أن أعمال عبد الحي مسلّم تشعرني بالحميمية اتجاه صاحبها فأرى دفء العلاقات القروية ودلالتها التراثية وألوانها الزاهية حتى أنه يمكن القول أن مشروع عبد الحي الفني إنما يتأسس على هذه التفاصيل التي تحتفي بما هو شعبي وتراثي وفلكلوري من خلال توظيفه لتقنية "فن الترقين أو المنمنات" كمضمون فني لأعماله النحتية بأسلوب تعبيري كان يتطور مع تطور تجربته الفريدة ونضجها فبات يراعي في مراحله الاحترافية اللاحقة مسائل الشكل واللون والنسب الواقعية للعناصر الطبيعية والتشريحية في تعابير الوجوه وتشكيل أجساد شخصياته (البشرية والحيوانية) التي يتكون منها عمله دون إغفال المنظور وانعكاس الضوء مستنداً في ذلك إلى ذكرياته الشخصية وخياله الخصب عن قريته بطقوسها المتنوعة وأعراسها ونضالاتها وأفراحها ومآسيها.
كل إنسان يولد مرة واحدة ويموت مرة واحدة, إلا الفنان يولد مرتين ولا يموت. يقول عبد الحي مسلّم عن نفسه: "ولادتي الحقيقية كانت عام 1970 عندما بدأت أرسم".
أن تبدأ الرسم وأنت على مشارف الأربعين وبهذا الشكل والأسلوب من الإبداع فلاشك سوف يترك أثراً لدى المتلقي يبقى عالقاً في ثنايا الروح, روح كهل عجوز يدخن أكثر مما يتنفس, لكنه يمتلك قلب طفل مازال يحلم بأن يلعب في الطين تحت رمانة بيته في "الدوايمة" التي هُجر منها وهو لم يزل يافعاً لعله بذلك يعيد ذكرى رائحة تراب الوطن وملمس طينه بين يديه، على حد قوله.
....
هوامش
1- نعت وزارة الثقافة الفلسطينية الفنان, عبد الحي مسلّم, الذي توفي يوم السبت الفاتح من آب- أغسطس 2020 في العاصمة الأردنية عن عمرٍ يناهز (87) عاماً, وقال وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سف في بيان صادر عن الوزارة "إن الفنان المناضل عبد الحي مسلّم يعتبر ملحمة كفاحية من تاريخ كفاح شعبنا الفلسطيني، إذ كرّس فعله وحياته من أجل الحريّة والخلاص والاستقلال، حيث جعل من كافة أعماله سجلاً فنياً للقضية الفلسطينية والتراث الشعبي الفلسطيني، والذي ركّز من خلالها على حياة البسطاء والأرض والمعاناة". ويذكر أن أول مشاركة فنية للفنان عبد الحي مسلّم تعود للعام 1971 في ليبيا في صالة عرض بفندق الشاطئ في العاصمة طرابلس وشارك يومها بـ 37 لوحة. كما عرضت أعماله في أكثر من 36 معرضاً شخصياً وعدداً كبيراً من المشاركات الجماعية عربياً وعالمياً, من بينها بينالي الشارقة للفنون ومعرضاً شخصياً في الشارقة كذلك بعنوان "عبد الحي مسلّم زرارة" (2014) ، ومعارض في المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة ودارة الفنون (2010) ورابطة الفنانين التشكيليين ومعرض "زيتونة محفوظة"، عمان (2010) ومعرض "فن مقاوم" جامعة فيلاديلفيا، عمان (1004) وجاليري زارة وكلها في مدينة عمان، وفي متحف نيو ميوزيوم بمدينة نيويورك في معرض "هنا وهناك" (2014) ومعرض "دليل المتوتر واللامتعمد من حب الأرض" من تنسيق الفنانة آلاء يونس والتي تعمل معه على توثيق أعماله وجمع ورقمنة وثائقه منذ العام 2003. لكن أهم معارضه التي أوصلته للعالمية, كما يقال, كان معرض طوكيو (1982) عن مجزرة صبرا و شاتيلا بمشاركة 33 فناناً يابانياً, و يذكر عبد الحي أن لوحات المعرض الثلاثة عشر التي شارك فيه في معرض طوكيو أنجزها أثناء حصار بيروت. ويقول محمود اللبدي في شهادته عن تلك اللوحات أن عبد الحي: " كان يجلس على كرسيه في مدخل البناية التي أخذها مقراً له لكي يصنع لوحاته دون أن يتحرك له ساكن, ولم يكن يترك موقعه السابق, وعندما تقترب من الشمس من المغيب كان يدخل لوحاته إلى الداخل ويحمل رشاشه ويذهب لتسلم واجبه الليلي في الحراسة .... كانت أهم لوحاته هي التي أطلق عليها اسم "مدينة بيروت" والتي لم يتممها وهي عبارة عن ملحمة فنية مكونة من شباب وفتيات يحملون السلاح زنودهم مفتولة وأجسادهم كانت تعبر عن الكبرياء والصمود في وجه الغزاة.. كان وجود عبد الحي الفنان بجانبنا على أهمية كبيرة وكان وجوده يعبر عن ظاهرة حضارية لشعب قرر الصمود وقرر الحياة كما أثار وجوده إعجاب جميع من مرّوا على شارع الإعلام". للمزيد انظر: محمود اللبدي: بيروت 82 الحصار والصمود, دار الجليل, ص 94-100.
2- انتقل عبد الحي مسلم للعيش في مخيم اليرموك منذ العام 1979 حتى العام 1992 وهي الفترة التي يعتبرها "أفضل فترة من فترات الزخم الفني", ومنذ وصوله إلى دمشق التقى بالفنان التشكيلي الفلسطيني الراحل مصطفى الحلاج وسرعان ما تعمقت العلاقة بينهما عندما دعي لحضور تأسيس اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين, واستمرت العلاقة المميزة بينهما وأسّسا معاً-في دمشق- قاعة ناجي العلي للفنون التشكيلية بعد الخروج من بيروت في العام 1982, وكثيراً ما كان عبد الحي يردد أن الحلاج هو "الوحيد الذي أطل على داخلي وفهمني من حيث تقنيتي في العمل وما الذي أقصده". وقد شكّل موت الحلاج داخل محترفه والطريقة التي مات فيها -وهو يحاول إنقاذ لوحاته- خسارة وصدمة كبيرتين لعبد الحي فضلاً عن كونها تجربة فريدة عن إصرار الفنان الحقيقي على التمسك بأعماله حتى آخر نفس من عمره.
3- إسماعيل شموط، مجلة فلسطين المحتلة، بيروت، عدد 284، 7 نيسان / أبريل 1980
4- وردت هذه الحكاية في شكل مختلف ولكن بذات المضمون في موقع الإمارات اليوم: عبد الحي مسلّم من "الطيران" إلى الفن التشكيلي https://www.emaratalyoum.com/life/culture/2014-10-08-1.716056








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزير الخارجية التركي: يجب على العالم أن يتحرك لمنح الفلسطيني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي عيتا الشعب وكفر كلا جنوبي لبنان




.. بلومبيرغ: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائف


.. التفجير الذي استهدف قاعدة -كالسو- التابعة للحشد تسبب في تدمي




.. رجل يضرم النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترمب في نيويورك