الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نوستالجيا: الرّباط، بدءا بالإعفاء من الخِدمَة العَسكرية وانتهاء بالمُطالبة بتغيير الإطار والترقية...!!

ادريس الواغيش

2020 / 10 / 11
الادب والفن


لم أكن أعمى حتى أخطئ في اختيار بعض المسارات الموجعة، لكنني لم أجد يومها ما هو أفضل منها أمامي، أغلب المسارات اختارتني في الأصل وليس العكس، وإن حصل ذلك، فقد كان عن غير قصد، لم يكن الرجوع بعد الخطوة الأولى أمرًا مُمكنا، ولم أعرف في أيّ مُنعَطف أضعت الطريق من قدميّ، هكذا بقيت أراهن دائما على ربح ما تبقى من مسافات، لذلك قد تصبح بعض الأشياء في حياتنا تافهة وبلا معنى، إذا لم نرها نحن كما يجب أن تكون، لا كما يريدها لنا غيرنا.
وأنا في طريقي إلى الرباط، كغيري من حاملي الشهادات العليا في التنسيقة الوطنية لموظفي وزارة التربية الوطنية، للمطالبة بالترقية وتغيير الإطار، غمرتني أجواء مشحونة بالتصورات لما حصل في الماضي وبالتمثلات لما قد يحصل لاحقا في المستقبل، شرد تفكيري بين ذكريات الأمس وتوترات الحاضر وسط مقصورات قطار صباحي تتمايل. وسط هذه الأجواء المشحونة، وصلتني رسالة تهنئة مع باقة ورد في الصباح الباكر من شاعرة صديقة في بلد عربي عبر تطبيق الواتساب بمناسبة اليوم العالمي للمدرس، يوم يصادف الخامس من أكتوبر، أكيد أن الصباح هناك لم يكن باكرا كما هو عندنا على ضفة المحيط الأطلسي. استحضرت شريطا من ذكريات يتبعني كظلي منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت أول زيارة لي إلى العاصمة سنة 1882م، قصدتها آنذاك مثل الآلاف من الطلاب والطالبات الحاصلين على الباكالوريا للحصول على شهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية، لأتمكن من التسجيل في الجامعة.
كنت لا أزال شابا يافعا ينتشي بالحصول على شهادة الباكالوريا، وكانت يومها مفتاحا لكثير من الأبواب الموصدة، يملؤني طموح مرتبك وجموح غامض للمزيد من المعرفة، معرفة كل شيء: الارتماء في مهنة أختارها للمستقبل، الاستمرار في طلب العلم بالجامعة، قراءة رموز رايات سفارات الدول وقنصلياتها المنتشرة في أحياء الرباط، زيارة المآثر الثقافية والعمرانية الشهيرة: مسرح محمد الخامس، صومعة حسان والإطلالة على مدينة سلا ونهر ابي رقراق، موقع شالة، التجوال في أسواق "باب الأحد" الشعبية...إلخ.
كل هذه الأماكن كنت أتعرف عليها لأول مرة في حياتي، وقد كنت أكتفي سابقا بالسماع بها على أثير الإذاعة الوطنية أو رؤيتها على شاشة التلفزة المغربية بالأبيض والأسود، كنت ألهث ماشيا على قدمي دون توقف مثل غجري يقطع الحدود دون حاجة إلى بطاقة تعريف أو جواز سفر، أطوف في شوارع الرباط لأشبع فضولي قدر المستطاع، ولما تكن مدينة الرباط قد تمددت كما هي عليها اليوم.
كنت استعير مقولة الشاعر محمود درويش، كلما سنحت لي فرصة لزيارة الرباط قصد مداعبة أجنحة الحمام، الذي كان وديعا ولم يعد اليوم كذلك:" فكر بغيرك، لا تنس قوت الحمام"، لذلك كنت أطعمه حتى يشبع. ثم زرتها بعد ذلك مرارا وتكرارا من دون مناسبة، كثيرا ما تصادفت مع مظاهرات واحتجاجات أمام البرلمان لمختلف شرائح المجتمع، تطاردها هراوات رجال الأمن المغربي دون هوادة: مجازون، دكاترة، معطلون، مكفوفون، جنود الصحراء المعطوبون أو أراملهم، موظفون حاملو شهادات عليا...إلخ. شاركت في احتجاجات ومسيرات شعبية ضخمة تضامنا مع الشعب الفلسطيني وانتصرًا لحق فلسطين في دولة مستقلة وفي يوم الأرض، انتفضت مع الآلاف من المغاربة ضد الغزو الأمريكي - البريطاني للعراق، كتبت مقالات ودونت قصصا قصيرة ضمّنت بعضا منها مجموعتي القصصية: "أبواب السراب"، لكن نسيت أن أمرّن ساقيّ مثلهم على الجري وركوب بساط الريح، وحين احتجت إلى ذلك بعد حصولي على شهادة جامعية عليا، كان قد فاتني الميعاد مع الإقلاع السريع مثل طائرة نفاثة، كما كنت أفعل من ذي قبل، لأنني بكل بساطة كنت قد كبرت، تجاوزت الخمسين من عمري.
كم أبهرتني أضواء العاصمة على اليوتيوب في أحياء الرياض وأكدال الراقية، وأعطيت الفرصة لمقاطع فيديو عن المدينة كي تخدعني، لكن الرباط مدينة غامضة وسريالية في حقيقتها، مدينة ألوانها غامقة ورمادية مبهمة، وطلاسمها يصعب فكها حتى على دهاة السياسيين وذوي الكلام المُعقد من السوسيولوجيين المُحنكين، فما بالك بأساتذة كل رأسمالهم الرمزي كلمات واضحات ومفهومة مع شعارات ترفعها حناجر تخونهم كلما همّ المساء.
قد تسبقك عظمة "برج محمد السادس" عند مدخل المدينة وهو في طور البناء، وعلى بعد نظرة أخرى غير بعيدة منه يتراءى مسرح الرباط الكبير بهيبته المعمارية ونصاعة بياضه الرّخامي جاثما جنب زرقة "أبي رقراق" مثل سُلَحْفاة الغالاباغوس، وبمجرد أن تتجاوز نفق القطار المفضي إلى محطة القطار المدينة، تبهرك من الداخل معالم محطة القطار الجديدة ويختلط ضجيج تحدثه آليات الأشغال في الورش مع صوت أنثوي رخيم يصدر من مكبرات الصوت معلنا قدوم قطار للمحطة أو آخر مغادرا لها في الاتجاهين، وبمجرد أن تجلس في أقرب مقهى على الشارع، تبهرك معالم محطة القطار المستقبلية من الخارج وتظهر عظمة ملامحها العملاقة، وحين تسأل الموظفة الشابة من باب الفضول عن مصير البناية القديمة للمحطة التي كانت تشكل إلى عهد قريب إحدى المعالم المعمارية في المدينة بسلاليمها الكهربائية، تخبرك في انتشاء وزهو أنها ستكون عبارة عن "متحف للسكك الحديدية" في المستقبل مع ما يلزمه من تأثيث وصور، مثلها في ذلك مثل البنايات الكولونيالية على طول شارع محمد الخامس: البرلمان، بنك المغرب، مركز البريد وصولا إلى "باب الأحد"، حيث يظهر نفقه الجديد ومن حوله أسوار الرباط ذات اللون النحاسي.
لكن، لا البرج العملاق ولا المسرح الكبير ولا المحطات الحديثة في الرباط، واحدة للحافلات واثنتان للقطار في المدينة وأكدال قادرة على تحسين علاقة المواطن مع عاصمة بلاده، ولا باستطاعتها أن تنقل شكاواه بصدق إلى المسؤولين أو ترفعها إلى مصاف العواصم الكبرى في العالم، هنالك حضور دائم لما يفسد هذا الود الذي بينهما: جري شبه دائم في شارع محمد الخامس منذ بداية برنامج التقويم الهيكلي اللعين سنة 1983م، خوف دائم وأنين وتعالي صراخ أمام البرلمان، كر وفر بين المواطن ورجال الأمن على طول الشارع الكبير والشوارع الخلفية، هراوات تنتصب في سماء المدينة وقوانين تزداد سوءا في ردهات الوزارات وأكثرها قتامة تلك التي تقبع في مكاتب وزارة التربية الوطنية في السنوات الأخيرة، هناك مظالم كثيرة غالبا ما تحول بين الرباط العاصمة وبين العواصم الحديثة في العالم، بما فيها تلك الأصغر منها أو الأقل منها شأنا وجمالا وأضواء وسكانا.
وأنت ذاهب إلى الرباط، لم يعد السؤال القديم مطروحا، كيف ستحقق مطالبك؟، هل بالاحتجاج ورفع الشعارات أمام الوزارة أم بالصمت والإشارة؟، إنما يغلب على تفكيرك هاجس واحد: هل ستعود أضلاعك وجمجمتك سالمة من حيث أتيت؟، وأحيانا تتساءل في جنون، وأنت في حيرة من أمرك:
- لماذا اللجوء في كل مرة إلى القمع والتنكيل، بعد قراءة مستعجلة من ورقة بيضاء في أقل من ثواني لا يستمع إليها أحد؟
ويعاودك سؤال أكثر غرابة من الأسئلة الأولى، من قبيل:
- هل نحن فعلا على أبواب مغرب جديد؟، أم دخلنا إليه فعلا، لكن بمواصفات جديدة، دون وعي منا ونحن عن ذلك غافلون؟
لم يعد هناك فرق بين التلميذ وأستاذه في المطالب، يا لتفاهتنا وتفاهة منظومتنا التعليمية برمتها، يدرسك أستاذك، ثم يلتحق بك أو تلتحق به من أجل أن تحتجّا معا... "وشوف تشوف".
في شارع محمد الخامس، ومن أمام بناية قاتمة اللون اسمها "البرلمان" يمرّون كلهم بسرعة تباعا: هارب لإنقاذ جلده وأضلعه ولاحق من أجل تنفيذ أوامر سيده، كل ذلك في مشهد سريالي مبكي- مضحك، ألم أقل لكم بداية أن الرباط مدينة سوريالية: جري وصراخ، ضجيج تحدثه أحذية شبه عسكرية وهراوات ترفع في السماء، سياح يصورون من حافلاتهم، يضحكون وفي اعتقادهم أن الأمر يتعلق بمارقين خارجين عن القانون، لكن ما أن يعلموا أن الأمر يتعلق بأساتذة حاملي شهادات عليا حتى تتغير سحناتهم ويدخلون مصوراتهم في أغمادها، أما المواطنون العاديون وعابرو السبيل فتسودُّ وجوههم وهم يردّدون على استحياء:" لا حول ولا قوة إلا بالله، عاود تاني الأساسيد مساكين...!!"
في المساء، تركت ماضيّ وبعضًا من حاضري هناك في العاصمة، ورجعت منكسرا مخذولا تتبعني أجراس الندامة، لأنني مشيت كرها في مسارات رُسمت لي ولم أخترها طوعا، احترقت أيامي وتلاشت أحلامي على أرصفة الرباط مثل ضباب صيفي، عكس ذهابي وإيابي الأولين مع بداية ثمانينيات القرن الفائت، اكتفيت بالصمت أمام الوجوه الغاضبة لحاملي الشهادات العليا ورجال الأمن المدجّجين بكل وسائل القمع، فمن يكون منا على حق، الهاربون أم اللاحقون...؟ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى