الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكورونا والحياة

سامي قرة

2020 / 10 / 11
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


الكورونا زائر غير مرّحب به، جاء وفرض نفسه علينا رغمًا عنّا. هو ذلك الوحش الخبيث الذي يجب أن نحذر منه، لأنه لن يهدأ حتى يُسقطنا في مخالبه رغم صغر حجمه؛ فهو دائم البحث عن ضحايا يتغذى عليها. وقدوم الكورونا وتغلغله في أصغر جزئيات حياتنا لا بد وأن يفتح أعيننا على حقيقة هامة لطالما غفلناها وما نزال نغفلها ونحن منهمكون في شؤون الحياة الدنيوية اليومية المختلفة. والشعور بالقلق والخوف الذي أصابنا بسبب الكورونا ناتج عن كونه فيروسًا قاتلًا؛ فهو ليس مجرد مرض يصيب الإنسان ويُشفى منه كأي مرض آخر (على الأقل حتى هذه اللحظة).
أمّا الحقيقة الهامة التي لطالما غفلناها فهي أن الإنسان لا يحيا إلى الأبد؛ فهو في النهاية فان. وما خوفنا من الكورونا وسعينا الدؤوب للحصول على دواء له إلا محاولة منا للهروب من الإصابة به أو الشفاء منه وعدم تعرضنا للوفاة. وكذلك الأمر بالنسبة للأمراض الأخرى التي يمكن معالجتها؛ فالعلاج يطيل العمر لكنه لا يمنحنا الخلود. وعلى الرغم من التقدم العلمي في مجال الطب فالإنسان في جميع الأحوال فان؛ وهو في النهاية إلى زوال. لكن تبقى غريزة البقاء قوية فينا؛ فكلما ظهر خطر يهدد حياتنا نحاول بكافة السبل مكافحته والتخلص منه حتى لو اضطررنا إلى تعديل سلوكياتنا وانفعالاتنا. ما يقوله المؤرخ الإيطالي فرانسيسكو كيسيارديني (1483-1540) صديق نيكولو مكيافيلي وأحد أهم المؤرخين عن الإنسان في عصر النهضة في إيطاليا ينسحب أيضًا على الإنسان في القرن الحادي والعشرين: "الحقيقة التي لا جدال فيها أننا حتمًا سنموت، لكننا نعيش وكأننا سنحيا إلى الأبد".
استحوذ الموت والفناء على اهتمام الإنسان منذ القدم. تؤكد لنا "ملحمة جلجامش" السومرية حتمية الموت. بحث جلجامش قبل حوالي أربعة ألاف عامًا عن سر الحياة الأبدية لكن لم يكن لبحثه أي طائل، وادرك أخيرًا أن الموت سيلاقيه لا محالة. وكذلك نرى أن ثيمة الخلود فرضت نفسها في الأدب أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة في أوروبا وكان أحد أسباب ذلك انتشار الطاعون الذي كان يُعرف باسم "الموت الأسود". حصد الطاعون حياة أكثر من 25 مليون إنسانًا في القرن الرابع عشر اي حوالي 30% إلى 60% من سكان القارة الأوروبية في ذلك الوقت. وهذه الأعداد الهائلة من الوفيات أدت إلى ظهور نوع من الوسواس الفكري والانشغال المتزايد بفكرة الموت مقابل الخلود، فنرى الأدباء والفنانين آنذاك كانوا يسعون إلى تخليد أنفسهم وتخليد عشاقهم ورعاتهم من خلال أعمالهم الفنية وكتاباتهم الشعرية والمسرحية. إضافة إلى ذلك كان "الموت الأسود" أحد أهم المؤثرات التي أدت إلى نشوء عصر النهضة والعلمانية وتقدّم العلوم والفلسفة والاكتشافات الجغرافية. وأصبح الإنسان هو مركز الكون، وكان دائمًا يبحث ويبتكر كي يترك إرثًا يخلّد به اسمه. لا شك أن العالم في القرن الحادي والعشرين وصل إلى مرحلة متقدّمة من الازدهار والتقدّم في مختلف المجالات، لكن من ناحية أخرى لم يصل الإنسان إلى تحقيق السعادة التي يصبو إليها؛ فالفقر والحروب والأمراض ما تزال تهدد البشرية. فهل سيحثنا شبح الكورونا على التفكير مجددًا بمعنى الحياة والغاية منها، أم أنه سيجعلنا نرثي أنفسنا ونلعنه لأنه أفسد عالمنا وأعاق سير حياتنا؟
يمنحنا فيروس الكورونا فرصة لمراجعة الذات وفحصها. بعد سماع خبر وفاة زوجته يصف ماكبث الحياة بكلمات شعرية معبّرة: "فلينطفئ إذن ضوء هذه الشمعة الضئيلة! ما الحياة إلا شبح يمر، أو هي مثل الممثل الرديء يخطر ساعة أو بعض ساعة على خشبة المسرح مزهوًا بنفسه، يرغي ويزيد، ثم يختفي إلى الأبد ... ما هي إلا قصّة يرويها أبله، ملؤها الجعجعة والجلبة، دون معنى أو مغزى". من المهم جدًا أن لا ننسى أننا آجلًا أم عاجلًا راحلون عن هذه الدنيا سواء بسبب الكورونا أو لأي سبب آخر، وهذا ينبغي أن يدفعنا إلى استغلال كل لحظة من حياتنا والاستفادة منها. وعلينا دائمًا أن نفكر ونسأل أنفسنا هل نريد أن نصنع تاريخًا مهما كان متواضعًا ونترك إرثًا جميلًا بعد رحيلنا يكون منارة لمن سيأتي بعدنا ويتذكرنا به الآخرون، أم أننا نريد أن نعيش على هامش التاريخ وتكون حياتنا خالية من أي معنى أو هدف. ومنذ نشوء الكون قليلون جدًا هم الأشخاص الذين صنعوا التاريخ فمنهم من برع في مجال العلم والأداب والفنون والسياسة والدين والأعمال والزراعة والتجارة والفلسفة وحتى الحروب، ووضعوا المبادئ والقواعد التي يسير عليها عالم اليوم. لكن جميعهم ماتوا في النهاية. أمّا الغالبية العظمى من الناس فقد عاشوا على هامش التاريخ وكانت حياتهم مثل السحابة ما إن ظهرت في سماء هذه الحياة حتى زالت وكأنها لم تكن. علينا أن نتسأءل مع هاملت "أكون أو لا أكون" لكن أهم من ذلك علينا أن نتساءل أيضًا من نكون وكيف نكون ولماذا نكون.
كان لحملة "خليك بالبيت" في زمن الكورونا فائدة كبرى لأنها أتاحت لي الفرصة للمواظبة على القراءة والكتابة. سبحت في بحور الخيال ودخلت عوالم لم أعهدها، واختبرت معنى الحرية بأحلى معانيها. وعلى الرغم من أن حملة "خليك بالبيت" في زمن الكورونا سلبت مني حرية الحركة والتنقل، إلا أنها منحتني حرية من نوع آخر هي حرية الوحدة والتأمل والشعور بالاكتفاء الذاتي والرضى. فلنتذكر ما يقوله الكاتب البريطاني جون ميلتون في ملحمته الشهيرة "الجنة المفقودة": "إن العقل قادر على ان يصنع من الجحيم نعيمًا، ويصنع من النعيم جحيمًا". وما تحدّي الكثيرين من الناس لحملة "خليك بالبيت" وخروجهم إلى الشوارع والمتاجر سوى سمة من سمات المجتمع الاستهلاكي النرجسي الذي يستعيض عن الاحتياجات بالرغبات ويرتكز على قيم المنفعة والمتعة الزائفة، ويعكس جشعًا وأنانية في الحصول على الأشياء، وهذا مظهر من مظاهر الرأسمالية التي لا تعطي للإنسان أوالإنسانية أي قيمة. وهذا ما نشهده اليوم إذ تحاول الدول الحفاظ على اقتصادها من الانهيار حتى لو وصلت أعداد الضحايا والمصابين بالكورونا إلى عدة ملايين.
من القصص الجميلة التي قرأتها أثناء حملة "خليك بالبيت" في زمن الكورونا قصة قصيرة للمؤلف الروسي ليو تولستوي بعنوان "كم يحتاج الإنسان أن يمتلك من الأرض؟" تقدّم القصة مثالًا جيدًا عن فناء الحياة، وتبيّن أن جشع الإنسان في الكسب المادي هو طموح زائف لأن الإنسان إلى زوال. كما تقدّم القصة مثالًا حيويًا لأحد الحقائق الحياتية الأساسية للإنسان ألا وهي أن الاستسلام إلى الرغبات والشهوات لا يجلب سوى المعاناة والألم.
تتحدّث القصة عن فلاح اسمه باهوم يعيش قي القرية. يسمع باهوم زوجته وأخته تتحدّثان عن حياة الفلاحين في القرية والحياة في المدينة، ويقول في نفسه: "آه، لو أمتلك فقط بضع دونمات من الأرض؛ عندها لن أخاف حتى الشيطان نفسه". يكتشف الشيطان ما يفكر به باهوم ويقول في نفسه: "سأقبل التحدّي وأعطي باهوم ما يريد من الأرض ثم أسلبه كل ما يملك".
بعد وقت قصير يصبح باهوم غنيًا ويبتاع مساحات شاسعة من الأرض ومنزلا فخمًا يسكن فيه. يعيش حياة رغيدة وسرعان ما ينسى أصدقاءه الفلاحين والمكان المتواضع الذي أتى منه. وفي يوم من الأيام يتوصل إلى صفقة يربح بواسطتها المزيد من الأراضي، إذ تقترح عليه عائلة البشكير الغنية شراء ما يريد من الأرض مقابل مبلغ قيمته ألف روبل شرط أن يقوم باهوم بالبحث عن الأرض التي يريد. كان عليه الانطلاق من منزل البشكير عند غروب الشمس والعودة إليه قبل شروق الشمس بعد أن يجد الأرض. وإن لم يعد في الوقت المحدّد يخسر جميع أمواله وكافة الأراضي التي يمتلكها. أثناء رحلة البحث يأخذ باهوم معه مجرفة يضع بها علامات على الطريق كي يتمكن من العودة.
يفرح باهوم كثيرًا ويبدأ بالسير باحثًا عن قطعة الأرض التي يشتهيها، يسير طويلًا ثم يُدرك أنه ابتعد جدًا عن نقطة البداية. يرى أن الشمس بدأت بالشروق ويهمّ راكضًا للعودة إلى المكان الذي بدأ منه رحلته، لأنه كان يعلم أنه سيخسر كل ما يملك إن لم يتمكن من الوصول قبل شروق الشمس. يصل باهوم إلى المكان متعبًا مرهقًا ويقع على الأرض ميتًا. يحفر خادمه حفرة صغيرة في الأرض ويضعه فيها. يضحك الشيطان ويجيب على السؤال في عنوان القصة: هذا ما يحتاجه الإنسان من الأرض.
يعيش فيروس الكورونا في الوقت الراهن بيننا لكنه مثل أي فيروس آخر سينهزم ويزول، وآمل أن يحدث ذلك عن قريب. فالأطباء في عدة دول يعملون على قدم وساق من أجل إيجاد علاج له. وستعود الحياة إلى طبيعتها كما كانت عليه قبل ظهور الفيروس، لكن من المحزن جدًا أن تعود الحياة كما كانت عليه وكأن شيئًا لم يكن. فلا تسأل لمن قرع فيروس الكورونا جرسه؛ فقد قرع فيروس الكورونا جرسه لكل واحد فينا.
11 اكتوبر 2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن