الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبق حيث الغناء 13

آرام كربيت

2020 / 10 / 12
الادب والفن


في اليوم التالي أخذتنا السيارة إلى قلعة عجلون وسط كم هائل من الأشجار والتلال، شعرت بالدفئ والحنان في هذا المكان الصامت، رائحة الناس، صوت أنفاسهم المشتعلة المتداخلة بين ثنائية الموت والحياة، دمائهم المسكوبة في شرخ الزمن، الصخور الكبيرة تتكلم والحجارة تنطق، تأتيني أصوات هؤلاء الذين بنوا وعمروا ثم رحلوا إلى الخلود البارد.
كان النسيم يضرب وجهي في هذه الأيقونة التاريخية، زواية النبال، وجه الرجال بيدهم القوس والنشاب متحفزين قلقين، العدو في الأسفل أو على الأطراف الدائرية للقلعة يتحين الفرصة ليصعد إلى أعلى، ليصل الشرق بالغرب قاطعًا الدهر المكسور والحضارة المهزومة.
كنت برفقة رامي أخو نجيب، أتامل الحياة برفقة الحياة، مذهولًا من قدرة الناس على الرحيل دون وداع، ضربات النسيم في بعضه يأخذني من يدي ويرميني في الزمن المتضارب في بعضه، ويدفعني للسؤال:
ـ لماذا بنى الناس هذا الصمت الجميل قبل ألف سنة، وتركوه لنا ورحلوا، ماذا كانوا يظنون أنهم فاعلون؟
قلعة عجلون في القمة كأنها صرح معلق في الفضاء لوحدها، نقطة في بحر من الأشجار والجمال والأخضرار، وأقول لنفسي، هل هناك منطقة في العالم بهذه الهيبة والوحشة والفراغ والأمتلاء، صوت التاريخ القابع في هذه المنطقة المضطربة المتحركة للحفاظ على بقايا حياة في مكان مملوء بخطوط المواصلات على في مختلف الاتجهات تسير الجمال والبغال والخيول، ليكتمل التداخل بين الشرق والغرب والتنافر والتنابذ أيضًا، طريق يأخذنا ويجيبنا الى أوروبا ويعيدنا إلى الحج والبحر وبلاد الشام والحجاز، بين طبريا ومرقد المسيح وغزوات الصليبيين، وطرق التجارة والحب والقتال.
عجلون صرخة الجمال الخالد، فيها أحببت الحياة، الانتماء والانفصال والأحاسيس المختلطة المتضاربة، وكنت أقول لنفسي:
ـ لمن بنوا ما دموا يعرفون أنهم راحلون، بيد إلى إين ذهبوا؟
نهر الأردن على مرمى حجر، طبريا، صوت الأنبياء المستقر في الذاكرة، التوراة والأنجيل والقرآن، الناس، ومن هنا مر الجلاوزة والعساكر حاملين سيوفهم ورماحهم، وروح السيطرة مسيطرًا عليهم، والأبراج شواهد في زواياها، جدران سميكة والخندق الذي يحيط بالمكان أعادتني هذه القلعة إلى قلعة الرحبة في الميادين، بالمواصفات المتقاربة، حلفات السهام والحاجة إلى الحماية، عندما كنت برفقة الصديق المرحوم تراك العليوي أثناء زيارتي إلى هذه البلدة السورية في فترة الشباب الأول عندما كنّا في الجيش أثناء الخدمة الإلزامية.
يعزمني تراك العليوي إلى بيته، نخرج من الثكنة في المنطقة المحيطة بنادي الفرات والشرطة العسكرية وصف الضباط في مدينة دير الزور، نتبضع المدينة في انتماءنا لها، نسير بفرح الشباب وحيويته على الأقدام إلى أن نصل إلى الكراج، نصعد المكرو باص ونتجه إلى الميادين، المدينة الصغيرة المملوءة بزملائي الذين معي في الجيش، وبمجرد أن يعلموا بوجودي في البيت يتقاطرون إليه للسهر فيه معًا، نتعشى ونتجه نحو الفرات برفقة الصديق وليد مهيدي أو إلى بقرص فوقاني أو تحتاني أو أم حسن لزيارة الصديق موسى موسي، في زمن الفرح ترى الفرح يرقص أمام عينيك، تضحك دون ضحك وتساكن السرور والغبطة لأن داخلك هو الساعي للحب.
قلعة صمدت في وجه الزمن وبقيت شاهدًا على البقاء.
يستطيع المرء أن يرى الدهاليز والممرات والقاعات وأماكن النوم واستطبلات الخيول وآبار المياه الجافة، ووادي الأردن ومرتفعات القدس وجبال، جبل الشيخ وثلوجه، وصحارى دير الزور والسباحة في الفرات في قرية بقرص ورؤية آثارها أو حضارة ماري أول حضارة في المنطقة
بعد ثلاث أشهر من وجودي في الأردن اتصلت بي موظفة في منظمة الأمم المتحدة طالبة مني الذهاب لمقابلة المحقق.
ذهبت إلى المكان المحدد والموعد المحدد، في البهو قابلتني الموظفة، أخذتني إلى مكتبها بعد أن رحبت بي، قالت:
ـ مبروك يا سيد آرام لقد تم قبولك لاجئ في المنظمة، الأن لديك إقامة دائمة وسنبحث عن دولة تستقبلك.
خرجت من غرفتها دون أن تعطيني موعدًا لمقابلتها من أجل إعطائي بطاقة إقامة معترف بها لتكون شاهدًا على أنني تحت إشراف الأمم المتحدة، مثلي مثل بقية اللاجئين المقبولين وحتى لا تتعرض لي الشرطة الأردنية بالسؤال عن سبب وجودي على أرضهم.
خرجت من المبنى وفي أعماقي فرح كبير، وأن أخبر نجيب بالخبر السيد. أسرعت الخطا، أقفز قفزات كبيرة واحيانًا أركض كطفل صغير مقبل على الحياة، وكل شيء في داخلي يحفزني على الابتعاد عن المكان.
وكان الجيش الأردني في ذلك الوقت ما زال مستنفرًا والدولة أيضًا بسبب أحداث 11 أيلول 2001 في نيويورك، وأن أخرج من هذه المحنة الصعبة.
إن العيش في هذا البلد محفوف بالمخاطر، لقربه من سوريا أولًا، ولكثرة المخبرين فيه الذين يعملون لصالحها، وثانيًا الخوف من مراقبتي لكوني سجين سياسي سابق وأن يضعوني تحت المجهر. لهذا إن وضعي تحت الإقامة هذا يعني تسريع ملفي. والسفر بعيدًا عن البلاد العربية.
في الحقيقة لم يكن المكان هو السبب الوحيد للحذر، أنما هناك شح المال الذي كان في حوزتي، وكنت اسأل نفسي، ماذا سأفعل فيما إذا نفذ المال الذي معي، وماذا سأفعل دون مال في مكان غريب، ماذا سيكون مصيري؟
فأنا أملك طبعًا قلقًا إذا كان هناك شيء غير مطمئن، وليس بالسهولة عندي تأجيل أي شيء للأيام القادمة، أنا أحب أن أعمل على المضمون، أن ألمس الأشياء بيدي، أن أعرف مصيري القادم، لهذا أضع الخطط المستقبلية لأي عمل أقوم به بدقة شديدة، أن لا أفوت شيئًا من بالي. ولم أومن في يوم من الأيام بالقدر اطلاقًا.
أومن بنفسي أنني صانع نفسي بنفسي، بالملموس. أثق بعقلي وبالتخطيط المسبق. أضع الكثير من الاحتمالات لحالة واحدة، وأوازن بينهم إلى أن أصل إلى نتيجة نهائية. وإذا وصلت إلى هذه النتيجة تصبح قناعتي كالحديد الصلب لا اتزعزع أمام المخاطر.
المال بالنسبة لي حماية، ودائمًا أقول بوجود الخبز والسقف أنا ملك، وما تبقى هو مجرد كماليات. البيت هو مملكتي هو حريتي، أمارس في هذا المكان علاقاتي بذاتي، اتحرر فيه من ثقل هذا العالم بكل ما فيه من تناقضات أو تعارضات أو تقاطعات.
البيت هو الحرية، تتحرر من الناس، تأكل في داخله وتنام وتستقبل الشمس والقمر، وبه تفرح أو تحزن أو تبكي. وهذا المال وسيلة من أجل البقاء. لهذا كنت أخاف أن لا يبقى معي وأن أجوع أو أبقى مشردًا في الشارع.
مرات كثيرة كنت أمشي في الشوارع باحثًا عن بعض القطع المعدنية لشراء الخبز أو السكر أو الشاي.
محاصر بذات لا تقبل التوكل على الله، أعاني من واقعية عقلانية فظيعة تأسرني وتأخذ بعقلي كشد عصبي.
لا أومن بالاحتمالات مع أن الاحتمالات قانون علمي، بيد أن الاحتمالات تحتاج إلى ركائز وأدوات ومصادر حتى يتكئ عليها المرء في بناء مصيره. لهذا لم أكن أفكر في أي نجاح ملموس أمامي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد