الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حزب الكادحين وعداؤه لليسراوية

وديع السرغيني

2020 / 10 / 13
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


في خضم النقاش الدائر في صفوف حركة اليسار المغربي حول ضرورة بناء الحزب السياسي المؤهل لقيادة تغيير شامل يخدم مصلحة الفقراء وعموم الكادحين المغاربة، تقدم العديد من المناضلين برأيهم في الموضوع، بعضهم منظم في حزب أو تيار أو مجموعة سياسية، والبعض الآخر مستقل برأيه وتصوره في الموضوع.
ولعل أبرز المجموعات التي أدلت بتصورها هي المجموعة المرتبطة بحزب "النهج الديمقراطي"، والتي ما فتئت تدّعي كونها تشكل نوعا من الاستمرارية للحركة الماركسية اللينينية المغربية، وبدرجة خاصة لمنظمة إلى الأمام، وهو ادعاء عار من الصحة قيل فيه الكثير وكتب عنه الكثير، ليصل إلى خلاصة مفادها أن استمرار بعض الأماميين القدماء والمجردين من أية نزعة أمامية ثورية، في حزب ما، لا يعني بتاتا استمرار نفس الخط والرؤية السياسية للمنظمة في القلب من الحزب.. يعني بنفس الطريقة التي حافظت بها بعض الأحزاب على هياكلها التنظيمية المهترئة كما هو الحال بالنسبة لحزبي الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية. وهو موضوع سنتركه، مجبرين، جانبا حتى فرصة لاحقة.
فموضوعنا الآن سببه الحملة التي انخرط فيها حزب "النهج الديمقراطي" وكله حماسة ونشاط من أجل تغيير اسم الحزب، ولا شيء غير الاسم، من "النهج الديمقراطي" إلى "حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين"، وهو حق ديمقراطي يكفله القانون، قانون الحريات العامة بشروطه المجحفة والمذلة، ويضمنه المناخ اللبرالي السائد ببلادنا.!
بعض الرفاق الذين ما زال لديهم الأمل في وحدة الماركسيين المغاربة، ويسعون للمشاركة الجماعية في مسلسل الثورة جنبا إلى جنب جميع الحركات الديمقراطية والتقدمية، رأوا في هذه الخطوة انحرافا وانزلاقا بعيدا عن مهمة البناء بصيغتها الماركسية اللينينية السديدة، والتي لن تتميز في شيء عن مثيلاتها السابقة من التجارب التي حاولت قيادة عملية التغيير، مثل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الحزب الشيوعي المغربي، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي..الخ
ردة الفعل الصادرة من بعض قياديي "النهج الديمقراطي" تميّزت بالانفعال الشديد والذاتية والأستاذية المتعالية التي تبيّن أنها لا تقبل بالحوار والنقاش، ولا تستسيغ الرأي المخالف وتصف كل من يخالفها بالعدواني الرافض واليسراوي..الخ
على هذا الأساس سنحاول الإدلاء برأينا في الموضوع لنقدم وجهة نظرنا حول بعض المصطلحات التي اقتنصتها هذه القيادات بغرض تشويه الآراء المعارضة لهذا المنحى. صحيح أن بعض الآراء الرفضوية التي ما زالت تتوفر على حضور لا بأس به داخل الأوساط الطلابية، ما زالت متمادية في التشويش على مهمة البناء التنظيمي والتي لها رأيها الخاص في مسألة بناء الحزب أو المنظمة السياسية المهتمة بالتغيير، هذا الموقف الذي يتعدى الطعن في تصور حزب "النهج" لعملية البناء، بل إن البعض من أنصار هذا الاتجاه يرفضون فكرة البناء من أساسها، معانقين بذلك التصورات الرفضوية والفوضوية الانتهازية.. الشيء الذي يؤدي لعملية خلط الأوراق وطمس المواقف الشيوعية السديدة في مجال التنظيم.
أما اليسراوية كمصطلح، فهي صفة معروفة أطلقها الماركسيون اللينينيون على بعض الأجنحة العمالية المعارضة للخط البروليتاري اللينيني في قضايا متعددة، وهي أجنحة منظمة وممثلة داخل الحركة الشيوعية العالمية، بعضها أعاد النظر في آرائه ومواقفه بسرعة والبعض الآخر استمر في ممانعته معلنا عن انشقاقه وانتظامه في أحزاب أخرى مستقلة وانتهازية، لهذا نقول أن المعطيات تختلف وتتباين منذ انطلاق النقاش والصراع حول التنظيم الذي نحتاجه كماركسيين مغاربة في هذه اللحظة التاريخية، بمعنى أننا لسنا بصدد صراع بين رأيين متنازعين داخل حركة شيوعية مغربية واضحة ومبدئية. فلا الحزب المعني، أي حزب "النهج" بالحزب الشيوعي، ولا المنتقدين لفكرة بناء الحزب بالشيوعيين الأقحاح..! كل ما في الأمر أن النقاش دائر على قدم وساق بين مكونات الحركة اليسارية المغربية حول الكيفية الناجعة من أجل المساهمة في عملية التغيير الذي ينشده الفقراء والشغيلة الكادحون في المغرب.
فالتاريخ يشهد أن القيادة البلشفية لعبت الدور الكبير في دحض وهزم جميع الأفكار الانتهازية التي غزت في لحظة من اللحظات الجسم العمالي الاشتراكي، بشقيها اليميني واليساري. وسنحاول بقدر الإمكان تسليط الأضواء، على الأساسي من هذه الأفكار والتصورات اليسراوية المعارضة للخط البلشفي اللينيني.
ففي أمور نضالية كثيرة وكبيرة، من حجم مهمة بناء حزب الطبقة العاملة المستقل، لا يستقيم النقاش إلاّ مع ماركسيين حقيقيين جدّيين ومبدئيين بكل ما في الكلمة من نبل ومعنى والتزام. فالمهمة كانت ولا زالت مهمة طبقية صرفة، معارضة ومناهضة لجميع أشكال التفكير الشعبوي البرجوازي الصغير.. لذا وجب على جميع المناضلين الشيوعيين المؤمنين بالثورة البروليتارية رسم خارطة طريق لهذا الغرض، مستفيدة من جميع التجارب العمالية العالمية التي سبق وأن خاضتها الطبقة العاملة في هذا الإطار.
فعودتنا لهذا الموضوع الشائك الذي ما زال يتطلب الجهد الكبير، موضوع بناء الحزب البروليتاري المؤهل لقيادة العمل الثوري بالمغرب بهدف القضاء نهائيا على أصل جميع الشرور في بلدنا وفي هذه المرحلة بالذات، أي الرأسمالية، لن يكون عبثا أو مجرد مزايدة وإطلاق النعوت والتصنيفات على عواهنها من نوع أيهما الأصل في الوجود البيضة أم الدجاجة؟!
لقد كنا نعتقد أن الحوار والنقاش الذي نخوضه حول هذا الموضوع سيكون حوارا ديمقراطيا ملتزما، سننخرط فيه إلى جانب رفاق تقدميين اشتراكيين، يسعون بكل الجهد المطلوب، جنبا إلى جنب عموم مكونات الحركة الماركسية، لبناء حزب الطبقة العاملة المستقل والمضي قدما بخطوات ثابتة تهيئا للثورة الاشتراكية، اعتمادا على عموم الكادحين المالكين وغير المالكين، لبناء صرح المجتمع الاشتراكي المنشود، مجتمع العدالة والحرية والديمقراطية والمساوات، على جميع ألوانها وأشكالها.. لكن صدمتنا كانت كبيرة لأن الحزب المعني، أي "النهج الديمقراطي" يتوفر على تصوره الخاص لبناء الحزب الثوري المنشود، يزايد به على الجميع، ويسميه حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين، حزب يختلف جذريا، في الشكل والمضمون، عمّا سعت له الحركة الشيوعية عبر رسالتها التاريخية من أجل بناء حزب الطبقة العاملة المستقل فكريا وتنظيميا وسياسيا، عن باقي الفئات والطبقات المعنية بالتغيير والمعارضة بوضوح للرأسمالية ولسياساتها التفقيرية والتدميرية والاستبدادية..الخ
فلم تكن المعركة كما تخيلناها نظريا، بل تبين أننا لا نستند في الحقيقة على نفس المرجعية، ولا نتبنى نفس المبادئ والثوابت التي لا مندوحة عنها بالنسبة لنا ولعموم مكونات الحركة الشيوعية. فحين يحتد الصراع بين عموم الحركة التقدمية في المغرب أو في أي مكان كان، لا يجوز للمرء أن يسرق أفكار غيره وينسبها لحسابه الخاص، مسددا الضربات تلو الضربات لخصومه الحقيقيين والمفترضين، سيان.. ويتهمهم باليسراوية والصبيانية، لمجرد إدلائهم برأيهم حول مهمة بناء الحزب الثوري في هذه المرحلة العصبية من معركة التحرر الوطني والاقتصادي التي فشلت خلالها جميع المحاولات لبلوغ هذا الهدف.

 فما معنى اليسراوية بناء على التراث الماركسي اللينيني؟

فهل هي الرفضوية أم الفوضوية أم الانتهازية، أم هي خليط من هذا وذاك، أم ماذا؟ ثم ما هي المجالات التي عمّتها هذه الظواهر أو بعضها، خلال التجربة الشعبوية العالمية؟ فهذه أسئلة ضمن أسئلة أخرى لم يتخلف الرفيق لينين عن الإجابة عنها بالنقد والتقييم والتقويم على العديد من المستويات في صفوف الحركة الاشتراكية.
فاليسراوية كظاهرة تعمقت وانتشرت بشكل كبير لحظة انتصار الثورة الاشتراكية في أكتوبر 1917 بروسيا، حيث برزت كنزعة سياسية متطرفة، معارضة ومنتقدة للتصور اللينيني، الذي كان حينها مطالبا بتسيير وتدبير المرحلة الانتقالية التي كانت تمر منها الثورة الروسية الفتية.
كانت نزعة عمالية معارضة وضعت نفسها على يسار البلاشفة والقيادة اللينينية ورفضت حينها أي شكل من أشكال المساومة أي حتى تلك المواطأة الضرورية والنافعة للطبقة العاملة وحزبها. ظهرت بداية بعد فشل الثورة الروسية الأولى دجنبر 1905، حين طالب البعض من قادتها الاستمرار في مقاطعة البرلمان، بل تمادى البعض منهم في تطرفه لدرجة المطالبة بالانسحاب من الحزب البلشفي وتصفيته نهائيا.
ولنبدأ بهذه النقطة بالذات، والتي يتحاشى ذكرها أو الإشارة لها مزورو المبادئ الماركسية، ومحرفو الخط البروليتاري اللينيني عن جادة الصواب، وهي المرتبطة بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية من عدمها، حسب الشروط والظروف المرتبطة بأي بلد كان وبالحالة السياسية التي يمر منها.
فلم تكن الدعوة لمقاطعة الانتخابات البرلمانية، مبدأ لينينيا خالصا كما يروج له البعض، بل فرضته شروط عينية ملموسة، مرتبطة بشروط النضال خلال تلك اللحظة من تاريخ الثورة الروسية، والتي تميزت حينها بتصاعد موجة الإضرابات العمالية، وبتطور حركة الاحتجاج الشعبي في الشارع لدرجة العصيان المدني وتشكيل المجالس العمالية..الخ لقد كانت المعركة معركة سياسية مفتوحة تستهدف بدرجة أولى سحب البساط من تحت قدمي النظام القيصري الحاكم، والذي بادر بالدعوة للانتخابات البرلمانية قصد قص أجنحة الثورة وإخماد حالة الغليان التي عرفها الشارع الروسي حينها. لقد كانت المقاطعة، مقاطعة لبرلمان بعينه ـ دوما بوليغين ـ وليس لجميع البرلمانات مهما بلغت رجعيتها.. كانت مقاطعة سياسية، لمؤسسة سياسية، في ظرفية سياسية محددة، وهذا هو الموقف..
فمن واجب جميع الشيوعيين، وفي أية لحظة من اللحظات الجمع بين جميع أشكال النضال، الشرعية وغير الشرعية، العلنية والسرية، والبرلمانية وغير البرلمانية "لكنها تصبح خطيئة كبرى في الحقيقة إذا طبقت هذه التجربة بصورة عمياء على بلدان أخرى وفي أوضاع أخرى". فمقاطعة الدوما، الذي هو البرلمان الروسي، سنوات 1906، 1907، 1908، وما بعدها كانت خاطئة على طول الخط حسب الرأي اللينيني، بل أضرت بشكل كبير بمهام الحزب وهددت نواته الصلبة بالانفجار، لو لم ينادي البلاشفة بالعدول عن هذا الرأي، بل بالتشبث بالرأي القائل "إنه من اللازم الجمع بين الأشكال الشرعية وغير الشرعية للنضال، وأنه من اللازم الاشتراك في أكثر البرلمانات رجعية وفي عدد من المؤسسات الأخرى التي تسيرها قوانين رجعية (مثل صناديق التأمين)".
النقطة الثانية وهي المتعلقة بالعمل في النقابات العمالية مهما كان توجهها وسلوكها وتعبيرها عن مصالح العمال إلى هذا الحد أو ذاك، وهو موقف وجبت الإشارة والتذكير به لجميع الرفاق الشيوعيين، الذين يصعب عليهم الاختيار بين المركزيات والاتحادات المهنية فعوض التهافت المحموم والمفضوح عن المقاعد التمثيلية، كان على الرفاق الشيوعيين الالتزام بالخط البروليتاري اعتبارا للطبقة العاملة ولمهمة تنظيمها وتأطيرها وتوعيتها بمهامها الاستراتيجية الاشتراكية والشيوعية. هو عكس ما دعا له اليسراويون المتطرفون الذين لم يقبلوا بالعمل في النقابات الرجعية، وطالبوا بخلق اتحادات عمالية نظيفة وجديدة وشابة..الخ متناسين مهام الرفاق الشيوعيين الأساسية ألا وهي الارتباط بالطبقة العاملة مهما تكون طبيعة الإطار الذي ينظم نضالاتها الاقتصادي، هل هي تقدمية أو رجعية.. فعلى جميع الرفاق أن يعملوا بكل الحزم اللازم من أجل رفع الوعي في صفوف الطبقة العاملة وإبراز أصل شقائها وطبيعة أعدائها..الخ
فالارتباط يجب أن يبقى لصيقا بالطبقة العاملة منتجة فائض القيمة، يعني بالدرجة الأولى الطبقة الكادحة غير المالكة وليس الاكتفاء ببناء اتحادات المعلمين والأساتذة والأطباء والممرضين وأصحاب المقاهي والمطاعم والشاحنات..الخ التي تبقى مهمة ثانوية جدا بالنسبة للشيوعيين المغاربة الطامحين لبناء حزب الطبقة العاملة المستقل والنضال من أجل التغيير الاشتراكي المنشود.
النقطة الثالثة وهي نقطة مرتبطة بالتاكتيك وما يلزمه من مساومات ومواطآة يمكن أن تجوز أو لا تجوز بالنسبة للرفاق الشيوعيين في خضم تدبيرهم لجميع النضالات والاتفاقات والحوارات على صعيد المجتمع وعلى صعيد العلاقات الخارجية بين الدول.
وقد حدث ذلك بشكل ملفت للنظر حين تطلب الأمر من القيادة البلشفية غداة الثورة البروليتارية الروسية، عقد الصلح مع القطب الإمبريالي الألماني بما له من عدوانية استهدفت حينها الثورة الاشتراكية الروسية، في محاولة يائسة لعرقلة مسارها ومسيرتها.
لتبقى هذه المواقف في المجمل أبرز التجليات اليسراوية في سلوك بعض التيارات السياسية المعارضة التي لا تخفي تطرفها ورفضها لجميع الخطوات النضالية الوحدوية والتنظيمية، التي تسعى لتقديم العمل النضالي الشيوعي وتقويته.. فالانعزال والرفض للخوض في معمعان الصراع الطبقي ليس من شيم الرفاق الشيوعيين، ورفض العمل في النقابات العمالية.. تعني ترك جماهير العمال المتخلفة والناقصة التطور، تحت رحمة نفوذ الزعماء الرجعيين وعملاء البرجوازية الأرستقراطيين العماليين"..
وكذلك الشأن بالنسبة لتغيير الانتماء النقابي بدعوى رجعية النقابة وهو سلوك لا يليق بمناضل شيوعي مبدئي.. الشيء الذي لاحظناه في سلوك العديد من المناضلين التقدميين المرتبطين بحزب "النهج الديمقراطي" وبتيارات أخرى، حيث أصبح البعض يغير انتمائه من هذه النقابة لأخرى بدون حرج وكأنه بصدد تغيير جوارب حذائه الوسخة.! متهما اتحاده السابق بالبيروقراطية والتسلط والانتظارية والرجعية.. ومشيدا في نفس الوقت "بديمقراطية وتقدمية" اتحاده الجديد.. مع العلم أن بعضهم احترف الترحال النقابي واستحلى تغيير المعاطف والألوان في أكثر من مرة ومناسبة.
نقطة أخرى لا تقل أهمية عن هذه النقط، وهي المتعلقة بالنشاط الشرعي الذي يناهضه ويرفضه اليسراويون، حين يتطلب الوضع السياسي المزاوجة بين الشرعية العلنية وبين السرية التي يجب المحافظة عليها إلى حين استلام السلطة السياسية من طرف الطبقة العاملة عبر حزبها الثوري. فواجب الشيوعيين هو الانخراط بقوة في جميع منظمات العمال الاجتماعية والتعاونية العلنية، دون تردد أو تحفظ يمكنه أن يؤجل عملية الارتباط والانغراس وسط الطبقة العاملة. فارتباطنا الاستراتيجي بالطبقة العاملة يلزمنا دائما إعطاء الأولوية لهذه العلاقة قبل غيرها، كالتفكير مثلا في بناء المنظمات والهيئات الغير طبقية، أي المدافعة عن عموم الناس الممتعضين من الغلاء وارتفاع الأسعار، ومن الخروقات في مجال "حقوق الإنسان" والعنصرية والتمييز وعدم المساوات..الخ
فالنضال الشيوعي لا يقبل بالرفضوية كسلوك نضالي قريب إلى حدّ ما للفوضوية، حيث يلزم كافة الشيوعيين المبدئيين المساهمة في بناء وتشكيل الأداة الثورية الضرورية لقيادة العملية التحررية الشاملة، وحيث لا يمكن لأي شيوعي رزين أن يشكك في ضرورة وجودها كشرط لا بد منه لخوض الصراع من أجل هزم الرأسمالية والانتصار على نظامها وعلى حكمها المستبد.
وحين نرفض شكل هذه الأداة وطبيعتها الطبقية المشوهة، ورهاناتها الجبهوية المشبوهة، فلا يعني ذلك أننا نرفض الأداة في حد ذاتها، أو نتهاون في المساهمة من أجل بنائها، مهما كانت الذرائع. إذ لا وجود لمناضل شيوعي لذاته، شيوعي مستقل عن الطبقة العاملة، وعن الفقراء الكادحين والمحرومين والمهمشين..الخ فالشيوعي القح هو ذلك المناضل الذي لا يهدأ له بال، إلا إذا ساهم بكل قوته وجهده في تنظيم الطبقة العاملة وتوعيتها بمصالحها وبرسالتها التاريخية من أجل قيادة عموم الكادحين والفقراء نحو الحرية والتحرر.

 عودة لمنظورنا للحزب الثوري

وبصدد هذا الموضوع بالذات اختلفت الرؤى وتباعدت وتطاحنت.. فوجهة نظر الشيوعية تقول بوضوح بضرورة العمل على بناء حزب الطبقة العاملة بشكل مستقل عن جميع الفئات والطبقات الاجتماعية الأخرى التي تعارض الرأسمالية ونظامها القائم. في مقابل وجهة نظر أخرى ذات المنشأ البرجوازي الصغير، أطروحة شعبوية إلى حدّ كبير تراهن على حزب جماهيري عريض يضم في صفوفه عموم الفقراء والكادحين والأطر والشغيلة، إلى جانب العمال والفلاحين الصغار..الخ
ففي ظل هذا الصراع الفكري والسياسي يلزم جميع الفرق بأن تدافع عن وجهة نظرها في الموضوع بكل الدقة اللازمة.. صحيح أن أصحاب وجهة نظر المناصرة "لحزب الكادحين" ماضون في مشروعهم بتشييده "حجرة على حجرة" دون الاكتراث بعموم رفاق الطريق، ودون الالتفات للوراء أو الإنصات للآراء الأخرى المنتقدة، أو عرضها على الأقل بطريقة متواضعة وشفافة، بعيدة عن التجني وعن الأستاذية والافتراء المقيت.. مما لا يتيح الفرصة للنقاش والحوار الجدي ولا يسعف سوى في توزيع الأحكام الجاهزة والتهم الرخيصة التي لا تليق سوى بدعاة العزل والإقصاء.. فحسب "نهج الكادحين"، على اليسار الماركسي أن يقبل بوصفة الحزب الجاهزة هذه، التي تضم في ثناياها عموم الفئات والطبقات الكادحة لهدف مرحلي يطيح "بالمخزن" أولا، يتحالف في هذا السياق مع جميع من يتجند لهذا الغرض، من اليمين ومن اليسار، من الجهة التقدمية ومن الجهة الرجعية، من الاتجاه التنويري الحداثي ومن الاتجاه الظلامي.. لا يهم فالغاية تبرر الوسائل. أما إذا انتقدت وعارضت هذا المشروع المهزوز، فستصبح في نظر الحزب يسراويا متطرفا لم تستوعب معنى أن تكون شيوعيا ماركسيا لينينيا.!
صحيح أن غالبية مكونات الحركة اليسارية الرافضة لمشروع "نهج الكادحين" عجزت على مدى سنوات طويلة عن تقديم مشروع في المستوى، قادر على أن يجيب ويملئ هذا الفارغ التنظيمي الفادح الذي تعاني منه الطبقة العاملة الكادحة والمحرومة.. لكن هذا ليس بالمبرر الكافي. فالعيب في تقديرنا المتواضع، يجد أساسه في ماضي الحركة الثورية المغربية ورصيدها، وهي التي ولدت في الحقيقة رفضوية ويسراوية بامتياز، حيث رفضت المنظمات المشكلة حينها، "إلى الأمام" و"23 مارس" و"لنخدم الشعب"، مساندة بعض التجارب النقابية بسبب من ارتباطها بمركزيات يمينية ورجعية كالاتحاد العام بداية الستينات، والاتحاد المغربي أواسط السبعينات، والكونفدرالية الديمقراطية أواخر السبعينات بسبب من قرارها الانشقاقي.! والحال أن وضع الانشقاق أصبح أمرا واقعا في جسم الحركة النقابية أواخر السبعينات، الشيء الذي كان يلزم الرفاق اليساريين بالدعوة المستمرة لوحدة الطبقة العاملة عبر العمل المضني من أجل توحيد نضالاتها ومعاركها.
فعلى مدى عقود من الزمن، انخرط العديد من المناضلين اليساريين في مختلف النقابات، الرجعية والتقدمية، يسابقون الزمن من أجل الظفر ببعض الكراسي في المكاتب المحلية وفي قيادة المركزيات النقابية التقدمية أساسا الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية دون الالتفات لمركزيات أخرى كالفدرالية الديمقراطية والمنظمة الديمقراطية والاتحاد الوطني.. بدعوى رجعية هذه المنظمات وبسبب ارتباطها الوثيق بأحزاب رجعية.. والحال أن هذه الخلاصة ليست وجيهة، ولا تستقيم بتاتا مع الموقف الماركسي ومع التوجيه اللينيني الواضح، الذي أوصى بالانخراط في جميع منظمات النضال الاقتصادي العمالي كيفما كانت طبيعتها وتوجهها، حيث المهم كان وما زال بالنسبة للرفاق الشيوعيين، وفي أية لحظة من اللحظات هو الارتباط الوثيق بالطبقة العاملة، أينما وجدت.

 في التكتيك الشيوعي السليم

كذلك الشأن بالنسبة للموقف من البرلمان ومن المشاركة في الحملة الانتخابية، حيث اقتصر الموقف اليساري في مجمله على المقاطعة السلبية لهذا المجال البرلماني الذي لم يقاطعه قط الماركسيون سوى في لحظات تاريخية نادرة وفي شروط محددة، ارتبطت بظروف عينية تميزت بالمد الثوري الجارف وتصاعد موجة الإضرابات، مما ألزم البلاشفة الروس على الديمقراطية البرجوازية التي كان الهدف منها هو سحب البساط من تحت أقدام النظام القيصري الاستبدادي وإعلان الجمهورية.
فما من ماركسي تجرء اليوم على خوض النقاش حول أهمية الحملة الانتخابية من منظور ماركسي عمالي، ينشد الرفع من مستوى الوعي السياسي الجماهيري، ويدمر الأساليب الرجعية المنحطـّة التي تعتمدها الأحزاب السياسية جميعها، خلال هذه الحملة وهي تلهث وراء كسب المقاعد بأي ثمن كان ووسيلة.!
فواجب الفضح والتشهير بسياسة النظام الرأسمالي التبعي، القائم بالمغرب، ليس له من شكل محدد أو مجال معين، حيث يجب على جميع المناضلين الثوريين المغاربة استغلال جميع المناسبات والواجهات الجماهيرية لممارسة عملية الفضح هذه، كيفما كانت العواقب ومهما كانت أحجام الضريبة النضالية.
لقد كان الشرف كل الشرف للمجموعة البرلمانية البلشفية وهي تساق للمنفى بمعتقل سيبيريا الرهيب، بسبب من موقفها الرافض للمشاركة في الحرب العالمية الأولى والإعداد عوض ذلك لثورة شعبية تقضي على النظام القيصري من أساسه، وتعلن عن الجمهورية والحرية والسلم والديمقراطية.
وعكس هذا الموقف اللينيني السليم، تقاطع أغلب المجموعات اليسارية الانتخابات بسلبية رهيبة تدّعي مسايرتها لموقف الجماهير الشعبية، التي تقاطع تلقائيا جميع المسلسلات الانتخابية سواء المهنية أو البلدية أو التشريعية، بدعوى أن لا طائل يرجى من هذه الانتخابات بما هو استنتاج منطقي وصحيح مائة بالمائة..
لكنه لا يفي بغرض الشيوعيين ولا يساعدهم في القيام بمهامهم في الفضح والتشهير والرفع من مستوى الوعي الجماهيري والعمالي..الخ فبسبب من هذه المواقف الرفضوية الراديكالية وأسباب موضوعية أخرى مرتبطة بفشل المشروع الاشتراكي في بلدان ومناطق عدة، تقلصت قاعدة الحركة اليسارية المنظمة، وبرزت عوضها حركات جديدة بديلة بكل من منطقة الريف وجرادة وزاكورة وبوعرفة وتالسينت وبني تجيت.. زرعت الأمل في نفوس الطلائع الشبابية الثورية وحفزتهم على المزيد من العطاء والاستمرار في النضال والكفاح.. وهي حركات لا تخيفها قط العلنية ولا القمع ولا الاعتقال.. حركات مطلبية حازمة تمد الفرصة للجميع بما في ذلك القيادات الشابة والنسائية، مسلطة سياط نقدها ضد جميع الاتجاهات المترددة والانتظارية، ولا تتأخر أبدا عن نقد الأوضاع الاجتماعية التي يعاني منها السواد الأعظم من الشعب المغربي، في سياق معارضة مبدئية وجذرية للنظام ولأساليبه اللبرالية في تدبير الشأن العام، دون أن تجد التأطير الثوري اللازم.
فعلى هذا الأساس يجب فتح النقاش والحوار بين مجموع الأطياف اليسارية الراديكالية المتشبثة بالمنهج اللينيني الغير الرفضوي، والطامح لفتح صفحة جديدة في تجربة اليسار العمالي المناضل، تؤهله فعلا وعمليا للشروع في هذا المشروع السياسي والفكري والتنظيمي، الذي سيمثل فعلا الطبقة العاملة، ويؤهلها لقيادة عموم الجماهير الشعبية الكادحة خلال معركتها من أجل التغيير والتحرر الوطني الاشتراكي.
فواجبنا كشيوعيين ماركسيين لينينيين هو النضال الدائم، المنظم والحثيث من أجل تنظيم صفوف الطبقة العاملة في حزب طبقي يعبر عن مصالحها ويحررها كما جميع الفئات الشعبية الفقيرة الأخرى، من الظلم والقمع والجهل والاستبداد..الخ ويساعدها على بناء مشروعها الاشتراكي البديل.
على عكس ما تقدم به حزب "النهج الديمقراطي" وكله أمل في توسيع قاعدة الحزب، وجلب أنصار جدد لتقوية عزيمة الكادحين، باسم الطبقة العاملة، فالمشروع فاشل من أساسه، ولا يمكن أن يفي بغرض التغيير كما يطمح لذلك عموم الكادحين والمقهورين.. فالقضية التحررية بالمغرب وبسائر البلدان التواقة للحرية، لا تقبل بالمزايدة، والتلميع، والتجريبية، فالمشروع نفسه، كما ذكّرنا بذلك، سبق وان خاضت في معمعانه قوى يسارية أخرى في مرحلة المد التحرري الجماهيري أواخر الخمسينات وفشلت الفشل الذريع.. دون أن يأخذ حزب "النهج" وأحزاب أخرى مماثلة له، العبرة من الموضوع ويبادر بالتقييم واستخلاص الدروس، بقصد البحث عن الشكل الجديد والملائم الذي يجب أن تسند له مسؤولية قيادة التغيير والإشراف على تنظيم القوى الاجتماعية المعنية فعلا بالتغيير.. إذ لا مجال للتراجع عن تصور الحركة الماركسية لبناء الحزب الثوري، حزب الطبقة العاملة المستقل، ولا مجال لتعويضه بحزب عموم الكادحين الذي يختلف جوهريا عن الحزب المنشود الذي سيعمل على بنائه الرفاق الماركسيون اللينينيون في القلب من الطبقة العاملة وبمعيتها.

اكتوبر 2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي