الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة22

محمود شقير

2020 / 10 / 13
الادب والفن


ثمة حكايات كثيرة عن مآسٍ وأحزان، وعن لاجئين مشرّدين في الخيام.
ولم نعد قادرين على الذهاب إلى القدس من جهة قصر المندوب السامي. أصبحت مساحات من أرض عشيرتنا التي تسمى (ذيل الدامس) واقعة في "المنطقة الحرام"، لا يستطيع أحد الدخول إليها لفلاحتها. وصرت أنظر بفضول كلما صعدت قمة الجبل، نحو الجزء الغربي من المدينة، فأرى في البعيد، المنطقة المحاذية للكلية العربية، حيث تتكاثف أشجار حرجية، تطلّ من بعض الفجوات فيها بنايات، وفي الجهة الجنوبية، المحاذية لقرية صورباهر، كنت أرى في ساعات ما بعد الظهر، تحت انعكاس أشعة الشمس، المياه المتدفقة من حنفيات الري، وهي تنطلق في خطوط طويلة مائلة، لتسقي نباتات خضراء، وأشجاراً ظلت تكبر عاما بعد عام.
ولم يكن وعيي الغض آنذاك يلتقط إلا القليل مما أسمعه. يخرج بعض المدرّسين في مدرسة القرية، عن السياق المألوف للحصة المدرسية، ليتحدثوا في قضايا غير مألوفة. كان محمد جوهر، ابن قريتنا، هو أول المتحدثين، عما وقع وعما آلت إليه حالنا. حدّثنا عن الثورة التي وقعت في مصر، وقضت على النظام الملكي فيها، وأفهمنا أن ذلك مهم لاستعادة فلسطين السليبة، كان هذا الوصف مثيراً للأسى، لكننا أصبحنا كلما جاء ذكر مصر، نشعر نحوها بالعطف والتأييد.
وذات مساء، جاءت إلى القرية سيارة تابعة للسفارة البريطانية، في داخلها آلة عرض سينمائية. تجمّع عدد كبير من الرجال والأطفال في ساحة المدرسة، لمشاهدة شريط سينمائي، عن تنصيب إليزابيث ملكة على العرش، وعن الدور الذي تلعبه بريطانيا في نشر العصرنة والتمدن لدى الشعوب الأخرى (وذلك لتبرير استعمارها لها). أثناء عرض الفيلم، جاء أولاد أكبر منّا سناً، حرّضونا على الهتاف: تسقط بريطانيا.. تعيش مصر. وقد فعلنا ذلك مرّات عدة، لكن الفيلم استمر حتى النهاية، وكنا راغبين في مشاهدته. ثم عرفنا أن المدرس داود عطية عبده (أحد أبناء قريتنا) كان المحرّض غير المباشر لنا على الهتاف.
بدأ ذهني يتفتّح على أشياء جديدة لم تكن في الحسبان، غير أن الاهتمام بالسياسة لم يأت إلا في ما بعد. كانت لي مكابدات صغيرة مع أبي وأمّي، مثلاً: بعد أن أُغلق الشارع المارّ من جهة باب الخليل متجهاُ إلى بيت لحم إثر وقوع النكبة، تحولت حركة المواصلات في اتجاه القدس- أبو ديس- وادي النار- بيت ساحور- بيت لحم وبالعكس (وهي الطريق التي يضطر مواطنو الضفة الغربية إلى سلوكها اليوم، بعد أن أقفلت طريق المكبر وطرق أخرى، في وجوههم منذ ابتدأت موجات إغلاق القدس عام 1993). وتصادف أن أبي كان يعمل في منطقة بيت لحم، ما يضطرني إلى أن أقطع عصر كل خميس مسافة غير قليلة لملاقاته على ظهر حمارنا الأبيض، وانتظاره حتى الغروب على رصيف الشارع بالقرب من قرية أبو ديس، حتى ينزل من أحد باصات بيت لحم المتجهة نحو القدس، فيركب هو الحمار، وأمشي أنا خلفه عائدين إلى البيت.
ومثلاً: كانت النقود شحيحة في السنوات التي أعقبت النكبة، ولا تتوفر فرص العمل إلا لماماً. وثمة سنوات قحط، تجعل بعض السلع غير متوفرة في الأسواق بانتظام، ما يؤدي إلى رفع أسعارها، وبالذات مادة السكّر التي كانت تسبّب لنا العناء. مرة جاء خالي إلى بيتنا، وحينما همّ بالخروج، اقترحت عليه أمي أن يبقى ليشرب كأساً من الشاي. التقطت هذا الاقتراح بحماسة، وتشبثت بثياب خالي كي يبقى، لكنه تردد، ثم قالت أمي بدماثة عرفت فيما بعد أنها مصطنعة: دعْ خالك يمضِ.
فمضى دون أن يعرف ما حلّ بي بعد ذلك. بدت أمي غاضبة لأنني كدت أوقعها في حرج، فبيتنا كان خالياً من السكر، وهو أمر لم أكن على بينة منه، أو لعل اقتراح أمي المفاجئ أنساني حقيقة الحال.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة