الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شعرية الكتابة عن الآخرين - تأريخ الحداثة العربية فى كتابات محمد دكروب

صلاح السروى

2020 / 10 / 14
الادب والفن


شعرية الكتابة عن الآخرين
تأريخ الحداثة العربية فى كتابات محمد دكروب

نستطيع أن نلمس نزعة تأريخية واضحة فى معظم آثار وكتابات محمد دكروب. حيث دأب على طرح وتقديم النماذج والشخصيات المبدعة الفاعلة التى ساهمت فى تشكيل المشهد الثقافى – الفكرى والأدبى على الساحة العربية الحديثة والمعاصرة. مصحوبا – هذا الطرح وذاك التقديم - على الدوام بدراسة مستفيضة للأبنية الزمانية والمكانية الحاكمة لتشكل وصيرورة المنجز الثقافى العربى. وذلك عبر قراءة متواصلة, على مدار عمره فى مجال الكتابة, لأعلام الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة. بدءا من بواكير القرن التاسع عشر وحتى وقتنا الراهن. سواء أكانوا مفكرين من أمثال رفاعة الطهطاوى وسلامة موسى وطه حسين ولويس عوض وقسطنطين زريق ومهدى عامل, أو أدباء مبدعين, شعراء مثل الجواهرى والياس أبى شبكة وجبران خليل جبران ونجيب سرور, أو روائيين مثل أمين الريحانى ومارون عبود ومحمد عيتانى ويوسف ادريس واميل حبيبى, أو مسرحيين مثل سعدالله ونوس .. الى آخر القائمة الطويلة من الكتاب والمفكرين المبدعين الذين أفرد لهم خمسة من كتبه, حتى ليخال المرء أنه قد نذر، لهذه المهمة، حياته بالكامل.
وفى تقديمه المتواصل لهذه القراءات عن حياة وأعمال هؤلاء الرواد حاول دكروب دائما الربط بين ملامح وسمات الفكر النهضوى والابداع التقدمى العربى, فى كتاباتهم, وحركة التحرر الوطنى والاجتماعى العربى الحديث. معتبرا أن النهضة الحقيقية لا يمكنها أن تتم الا فى اطار من التحرر الوطنى والاستقلال السياسى, فى ارتباط لاينفصم بالتحرر الاجتماعى والعدالة الاجتماعية والاشتراكية. معولا على الدوام على قوة العمال والفلاحين ومن أسماهم بالفئات الشعبية والقوى الثورية التقدمية والمثقفين الثوريين.(1) فالبرجوازية العربية لايمكن التعويل عليها فى انجاز المهام التاريخية الموكلة اليها, فهى عنده ليست متماثلة مع البرجوازية الأوربية فى نزوعها القومى التقدمى التنويرى المعروف. وهى (أى البرجوازيات العربية) أعجز من حيث الارادة, وأضعف من حيث قوة الانتماء الوطنى، من أن تنهض بعبء قيادة التقدم والنهضة، على غرار ما حدث فى أوربا. فهذه البرجوازيات العربية .. (يقول) "منذ البديات, وفى اطار من الهيمنة الامبريالية قد تكونت كبرجوازيات تابعة خانعة, اقتصادها مرتبط, تبعيا, باقتصاديات المراكز الامبريالية. أما مشروعها "التحررى" فأقصى طموحاته، اقامة أنظمة رأسمالية (مستقلة.. فى اطار من التبعية). أنها برجوازية هجينة, من طبيعتها أن تظل برجوازية رخوة متخاذلة أمام المستعمرين, ضعيفة أمام البنى القديمة, بل هى تعمل للحفاظ على هذه البنى كجزء مكمل وداعم لنظامها نفسه". (2)
فعجز البرجوازيات العربية مرتهن بنشأتها التابعة المرتبطة بالاقتصاد الرأسمالى العالمى. وهى لا تقوى الا على أن تكون عنصرا مساعدا لأهداف الامبريالية، فى الهيمنة على مقدرات البلاد والعباد. ومن ثم, فقدت هذه البرجوازية وطنيتها وقدرتها على قيادة حركة التحرر، كما فقدت بهجنتها وتشوهها البنيوى أية امكانية لقيادة حركة تنوير حقيقية، من أى نوع. وذلك نتيجة لتكونها المشوه من بقايا الاقطاع التقليدى المحافظ، الأصيل فى تقليديته ومحافظته، والحداثة الرأسمالية الشكلية فى مظهرها، معا.
ولذا فان دكروب يعتبر أن الفعل الثقافى (الفكرى – الأدبى) التقدمى النهضوى انما هو فعل نضالى ثورى بامتياز. ولا يقل أهمية عن أى لون من ألوان الممارسة الثورية المختلفة. ومن ثم فلقد أضحى البحث والكشف عن رموز هذه الثقافة الوطنية الديمقراطية التنويرية، جزءا لا يتجزأ من المهمات النضالية الكبرى، الضرورية لعملية التغيير الثورى، بمعناه الحقيقى والشامل. وقد قدر على هذه القوى الشعبية الكادحة، وقواها الثورية، أن تقوم بكل الأدوار وحدها. فعليها أن تناضل من أجل تحقيق الاستقلال الوطنى التام والناجز, والانتصار لقيم العقلانية والديمقراطية والعلم, و.."بناء المجتمع المدنى, واقرار حرية العقل والرأى"(3), وهى مهام كان من المفترض أن تنهض بها وتحققها البرجوازيات العربية، شأنها فى ذلك شأن مثيلاتها الأوربية. بيد أنها نكصت عنها للأسباب المذكورة، جنبا الى جنب، مع النضال من أجل "العدالة الاجتماعية" وحقوق الكادحين والعناة.
ومن هنا كان لزاما على القوى الثورية التقدمية فى بلداننا, تبعا لرؤية دكروب, أن تضع نفسها فى وضع التعبئة العامة استعدادا لخوض المواجهة الثورية الشاملة مع كافة القوى الرجعية والقمعية, على السواء. وضرورة شن الحرب على جميع الجبهات: الثقافية والسياسية والاجتماعية.
ولذا يمكننا أن نلمح طرفا من غلالة شفيفة تغلف نزعة "تبشيرية" تحريضية منحازة فى أعمال هذا الكاتب المناضل, بما يجعله يبتعد, بدرجة, عن روح المعالجات الأكاديمية المحايدة. وان لم يفتقر الى موضوعية الطرح ونزاهة المقاربات ودقة الاجراءات وصواب النتائج.
ان القارىء الواعى لكتابة محمد دكروب لا يمكنه أن يخطىء فى التعرف على شخصية وروح ووعى المناضل الثورى الماركسى المبثوثة فى ثنايا أعماله بجلاء. وهو الأمر الذى يجعل من المنطقى والطبيعى قيامه بعدة أدوار مترابطة, شكلت لديه ما يمكن تسميته بمنظومة الفعل الثقافى المتواصل، على طول مشواره الكتابى المديد:
فهو كاتب السيرة المنقب عن تفاصيل حياة أبطاله والتأريخ لمراحلهم الابداعية وأطوارهم الفكرية وقراءة ملامح هذه الأطوار وعوامل تكونها الحياتية الخاصة والاجتماعية - السياسية العامة, شارحا ومبلورا ومبرزا لعناصر القوة الرؤيوية الفكرية الكامنة فى أعمالهم. وهو كذلك الناقد الأدبى القادر على التقاط عناصر الدلالة الفنية واجراء التحليل الجمالى الدقيق, موضحا قوة الدفع الروحى الانسانى المبثوثة فى ثنايا الأعمال المدروسة. وهو أيضا مؤرخ الفكر والسياسة, معا, صاحب اللمحات الفكرية النافذة, بما يضعه جنبا الى جنب، فى الأهمية، مع من يقوم بدراسة آثارهم، من المفكرين. وهو الى جانب ذلك كله, أديب وفنان مبدع يمتلك قلما بالغ الرشاقة و القوة والمضاء, ورؤية فنية بالغة النفاذ والأخاذية, وملكة ابداعية، لاتخفى.
ولا تطمح هذه الورقة بالطبع الى استجلاء كل جوانب وخصائص الفعل الثقافى فى آثار محمد دكروب. فهذا أمر يضيق عنه المجال والوقت والمساحة, ولكن حسبها أن تقف على مكونات النزعة التأريخية لدى محمد دكروب, والتى أسميتها ب"شعرية الكتابة عن الآخرين".
وأقصد "بالشعرية": المكونات الجمالية التشكيلية التى تحدد الأطر الفنية للكتابة لديه، بما يمكن أن يجعل من هذه الكتابة عملا يتجاوز مجرد التأريخ العلمى – الأدبى, ليصل الى مستوى الطرح الجمالى الفنى, وبما يجعل من كتابته نوعا من الابداع وتنويعا على الأنواع الفنية الأدبية المعروفة.
فلقد اتخذت تلك النزعة التأريخية, عنده, طابعا حكائيا سرديا فى غالب الأحيان, مطعما بالخواطر والاقتباسات والمناقشات والتأويلات والاستخلاصات. معتمدا فى ذلك على عناصر عدة, منها:
تقديم الذات المسرودة من الناحية البيوجرافية والفكرية, واستدعاء الذكريات والمواقف المرتبطة بالموقف المسرود, والتفتيش فى الأوراق المعلومة والمجهولة على السواء.
ومن هنا فان هذه الورقة تطرح سؤالها البحثى, على النحو التالى :
ما الملامح الفنية والموضوعية لكتابة السيرة التاريخية عند محمد دكروب ؟ وما أثر هذا النشاط التأريخى على طرحه الفكرى والسياسى؟؟؟
وسأعتمد فى الاجابة على هذا السؤال على أربعة من كتب محمد دكروب هى كل ما استطعت التحصل عليه. وهى : خمسة رواد يحاورون العصر (1992), وجوه لاتموت (1999) وقد اعتمدت على الطبعة الثانية (2010), رؤى مستقبلية (2002), جذور السنديانة الحمراء (1974) وقد اعتمدت على الطبعة الثالثة (2007).
وذلك من خلال ثلاثة محاور بحثية رئيسية, هى كالتالى :
• ثنائية الذات الكاتبة والذات المسرودة وأسئلة الهوية الفكرية
• بنية السرد – بنية الذكرى.
• لغة المكتوب - لغة الكتابة
وسأقتصر فيما سيلى على النقطة الأولى فقط , على أمل أن أكمل النقطتين الأخريين فى المستقبل القريب. نظرا لضيق الوقت والمجال.




ثنائية الذات الكاتبة والذات المسرودة وأسئلة الهوية الفكرية.
اتخذت الكتابة عن الآخرين عند محمد دكروب منحى الاستقصاء والتنقيب والمعايشة النفسية والفكرية الكاملة, بغية تقديم صورة تفصيلية لمختلف جوانب الشخصية سواء أكان الأمر متعلقا بحياتها ونشأتها وظروفها الاجتماعية والأسرية والمعاشية الخاصة, أو المحيط الاجتماعى - التاريخى العام الذى عاشت فى كنفه. وهو الأمر الذى نلمسه بوضوح فى العديد من أعماله. ولعل أبرزها كتابته عن أمين الريحانى ورئيف خورى ورفاعة الطهطاوى ومارون عبود وطه حسين .. وغيرهم كثيرون. ولقد تحدث دكروب نفسه عن كتابة السيرة باعتبارها ..
" فنا شبه روائي يتخذ من حياة الكاتب موضوعا له"..
ويرصد أن هذا اللون من الكتابة مزدهر فى بلدان عديدة , وكثير منه يدخل فى عداد الأدب الابداعى ..
"خصوصا عندما ينفذ الكاتب الى ما هو متميز وخاص ونموذجى فى أعمال هؤلاء الأدباء, فاذا السيرة ليست مجرد تحقيق فى وقائع حياة الأديب , بل هى اعادة تكوين للشخصية فى عمل فنى مميز"(4).
ودكروب, بذلك, يقدم ما يشبه التفسير لنشاطه، ذاك. محددا العلاقة المشتركة بين الكاتب والمكتوب عنه باعتبارهما عنصرى تفاعل يقوم أحدهما بدور المادة المصوغة الملهمة، بينما يقوم الآخر بدور اعادة الصياغة والتركيب والتأويل, مستخرجا ومستنتجا لجوانب الرؤية وعناصر الوعى المبثوث فى ثنايا الأعمال، التى كادت أن تصير نسيا منسيا, طامحا الى تقليبهما (الرؤية والوعى) واعادة انتاجهما، فى صورة قابلة للتناول النسقى المنضبط من وجهة نظره، والمتسق مع ما يمكن أن يمثل رؤية جديدة أو خاصة به، حولهما. انه بذلك يمنح حياة جديدة لهذه الأعمال، وحضورا فياضا لهؤلاء الكتاب، انه يبعثهم من تحت الرماد ويجعلهم معاصرين لنا وفاعلين فى حياتنا بعد أن كادوا أن يسقطوا من ذاكرتنا، وكدنا نجهل ما قدموه من أعمال, وكاد تراكم الزمن والأحداث أن يطوى وجودهم وجهودهم. ان دكروب، بذلك، يمنح ذاكرتنا أبعادا جديدة، ويمنح وعينا آفاقا بعيدة, ويمنح التاريخ فرصة أخرى للاحتفاء بمن شغلوا الدنيا فى وقت ليس بالبعيد.
يبدأ محمد دكروب كتابته, عادة, بسرد تاريخى معلوماتى عن الذات المسرودة. فاذا اتخذنا من أمين الريحانى نموذجا فاننا نجده يقول :
"أمين الريحانى (1876 – 1940) , أديب , باحث, مؤرخ, كاتب رحلات, روائى, قصاص, ناقد, خطيب , داعية الى الاصلاح والتغيير الاجتماعى ... الخ"(5).
ومن ثم يورد مكان ميلاده ونشأته وأماكن تلقى تعليمه الأولى ورحلته الى نيو يورك وعودته وميله الى المطالعة رغم ظروفه المعاشية الصعبة .. الى آخر ذلك, وصولا الى ايراد ثبت بمؤلفاته العربية والانجليزية.
وتتجلى أهمية هذا التقديم المعلوماتى الاستقصائى فى طرح جوانب الشخصية فى مجاليها المتعددة على المستوى "الصفرى" المحايد الذى ينطق بذاته ولا يحتاج الى من ينطق بلسانه أو يقوم أحد بتأويله. وكأن الكاتب بذلك يقول هاهو الرجل فافهموا من سيرته ما تشاؤن من فهم . ولأنها سيرة خصبة وطويلة ومتشعبة فان الكاتب يبدو مطمئنا للانطباع الذى سيأخذه القارىء، من أول وهلة فى القراءة, بما سيساعده فى مهمته القادمة بعد ذلك. فالهدف ليس بالطبع مجرد تقديم قائمة معلوماتية عن شخص بعينه, على أهمية ذلك من حيث التمهيد لدخول القارىء الى الموضوع بقدر من التبصر, بقدر ما هو القصد الى تقديم نموذج على قدر كبير من الاحترام والقوة والكمال, بما يجعله قابلا للاحتذاء و الدعاية الصامتة لانتمائه ونضاله من أجل قضيته. فضلا عن اعادة تقديم فكره واسهامه الابداعى بما يثرى تراث الجماعة التقدمية والشعبية ويرفد وعيها بروافد تأسيسية تسهم فى تعميقه وتوسيع مداركه.
يورد دكروب بعد ذلك ما يسميه ب" تقديم أول" بما يمكن أن يمثل "البرولوج" المسرحى الذى يشرح القضية ويجهز نفوس المشاهدين للتفاعل معها, وبما يوحى بتقديم آخر أو عدة تقديمات سوف تلى. فى محاولة للايحاء بأن الأمر ليس بسيطا وأن بطلنا يحتوى عالمه واسهامه على الكثير.
وفى هذا التقديم وصف لشخص الريحانى وملكاته الفكرية والأدبية : "فهو موسوعى الثقافة ومتعدد التجارب والاهتمامات وما يتميز به أدبه من نظرة شمولية .." الخ.
ثم يأتى التقديم الثانى وهو عبارة عن "نظرة فى مجلدات الأعمال الكاملة للريحانى". وفيه وصف لما تحتويه هذه المجلدات، بدءا بالمقدمة التى كتبها أمين ألبرت, ومن ثم يدلف الى قراءة مطولة فى محتوى هذه المجلدات. بدءا من كتاباته الأولى وصولا الى رواية "كتاب خالد", التى يفرد لها حيزا واسعا فى التحليل والتأويل والمناقشة.
ولا شك أن دكروب هنا يقدم أمين الريحانى بحب وحماسة واضحين فيقوم بتقديم ما وصل اليه من مجلدات بتفصيل بالغ ولا يبخل بايراد المعلومات وتقديم الشروح والافاضة فى الاستشهاد والتحليل. حتى ان الفصل الخاص بالريحانى يستغرق وحده خمسين صفحة من بداية الكتاب. بما يوحى أن الكاتب يبدو وكأنه يكتب عن شىء حميم قريب الى النفس والعقل. ان لم يكن قد توحد مع موضوعه بالفعل, فأضحى كما لو كان يكتب ضمنا عن ذاته هو .. ولم لا ؟؟ وعناصر التوازى والتماهى بين الطرفين قوية وكبيرة فكلاهما نشأ نشأة بسيطة وانحدر من عائلة فقيرة, وكلاهما عرك الدنيا وعركته وصارعها وصارعته, فخبرها أفضل خبرة، مما جعل انحيازهما، معا، للوجهة التقدمية، ذاتها، فى الكتابة. والانتماء الى الاشتراكية، فى السياسة، أمرا مفهوما ومنطقيا الى أقصى درجة. ومن هنا أضحت كتابة دكروب عن الريحانى تكاد أن تقترب من كتابته حول ذاته هو الخاصة. يقول:
"وفى مختلف هذه الأنواع من الكتابة ظل الريحانى هو نفسه: ذلك المفكر النهضوى الطليعى, المتحرر والمتمرد, المناضل من أجل الحرية والتقدم واللبنانى العربى المنادى لبناء الدولة العربية الموحدة والمستقلة .. والمعادى حتى النهاية للطائفية وللتعصب الطائفى.. والداعى – دائما وباصرار- الى الانفتاح العقلى والتقدم الاجتماعى, والأخذ بأفكار الاشتراكية (ولو بشكل غائم وأخلاقى) والدخول فى العصر الجديد."(6)
واذا استثنينا عبارة (غائم وأخلاقى) لحصلنا على تطابق، شبه تام، من حيث الموقف والرؤية بين الكاتبين على مختلف الصعد.
ان دكروب هنا يسجل حضورا كتابيا واضحا مع الريحانى, جنبا الى جنب. مؤكدا على ابراز الهوية الفكرية والسياسية. ويتحقق حضور دكروب، أيضا، من خلال استنطاق أعمال الريحانى واعادة نسج عناصرها وتركيب مكوناتها. وسيتضح تواجده أكثر عندما يطرح قراءته التحليلية، التأويلية، لرواية "كتاب خالد". حيث ستتجلى ملكاته النقدية وأمارات وعيه الجمالى فى تحليل شخصيات الرواية وأحداثها. الى أن يفصل فى مسأله علاقة البطل (خالد) بشخصية الريحانى، نفسه. وهل هى سيرة ذاتية للكاتب؟؟ أم تخييل خالص؟؟. وذلك من حيث تشابه بعض مواقع الأحداث مع واقع حياة الريحانى، نفسه، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، وقسوة العيش التى لاقياها (أى البطل والكاتب) فيها. موضحا تفوق رواية "كتاب خالد" على كتابات الريحانى السابقة والتى كانت، شأنها شأن كتابات ذلك الزمان، "تعج بالخطابة حتى لتكاد تصبح مقالة اجتماعية". أما رواية كتاب خالد فهى "عمل متميز وغنى على صعيد الفن والفكر معا".
لاشك أن "الكتابة عن الآخرين" تتغاير بدرجة كبيرة عن "الكتابة عن الذات". من حيث أن الكتابة عن الذات تتخذ من الذات، نفسها، بخبراتها ومعارفها ومخزوناتها النفسية والروحية، مصدرا للكتابة ومنبعا للطرح. أما الكتابة عن الآخرين فانها تجعل "التبئير" الكتابى معكوسا، لتحل الذات المسرودة المكتوب عنها، محل الذات الساردة. وهو الأمر الذى يستوجب من السارد التماهى مع تلك الذات الأخرى وتقمص أدوارها وأنماط تفكيرها وطرائقها فى التحليل والاستنتاج. مما يلقى بعبء استثنائى على الكاتب فى عملية الاستيعاب والاستبطان للعوالم الحياتية والفكرية للشخصية موضع الكتابة. بما يكاد يجعل الكاتب ناطقا بلسانها متحدثا بلغتها.
بيد أن الكاتب, على الرغم من ذلك, مضطر للاعتماد على خبرته الذاتية بهذا الآخر من خلال الفهم والتذكر والمقارنة والتحليل واعمال أدواته البحثية والمعرفية. ومن هنا فان الكاتب عندما يكتب عن غيره فهو يطرح نفسه بدرجة معينة, وان لم يكن ذلك منصوصا عليه ولا مشارا اليه، على نحو قصدى.
واذا كنا قد لاحظنا ذلك الاقتراب وتلك الحميمية التى جمعت بين الكاتب والمكتوب عنه فى الفصل الخاص بأمين الريحانى, وسوف نلحظه بذات الدرجة والقوة فى كتابته عن معظم الشخصيات التى كتبها محمد دكروب, فاننا سنجد، دائما، ذلك التعاطف الشديد والقرب النفسى الحميم, فى الوقت نفسه، مع من يكتب عنهم. حيث يجرى السعى الحثيث نحو ابراز المشترك الفكرى والسياسى بين الكاتب والمكتوب عنه. حتى وان كانت الذات المسرودة تبدو بعيدة، الى حد ما، عن الكاتب, فان عمل الكاتب المباشر يتمثل فى محاولة تقريبها الى خطوطه المعرفية الهوياتية.
وهو الأمر الذى نستطيع تلمسه فى الكتابة عن جبران على سبيل المثال: حيث يقوم دكروب بانتقاد المؤسسات العلمية والأدبية التى لم تقم بابراز "المسكوت عنه" فى كتابة جبران، واستنامت الى ماهو شائع من تعميم فكرة "الرومانتيكية الصوفية"، عنده، على كل أدبه. وحشر كل أبعاده الابداعية فى اطار هذه الفكرة. بينما، صمتت عن الجوانب الأخرى من ابداع جبران. تلك الجوانب التى يمكن تسميتها بالجوانب اليسارية النضالية المساندة لحركة التحرر من الاقطاع والهيمنة التركية، على السواء، فيما يرى ويوضح دكروب. ومن ثم فانه يتجه بكليته لتحقيق وابراز تلك "الجوانب الأخرى" فى أعمال جبران. ويجد بغيته فى ايجاد كثير من الايحاءات والاحالات والنصوص الصريحة التى توحى بصحة نظرته .. يقول دكروب:
" نزعم أن جبران , ومنذ البداية – منذ "عرائس المروج" 1906 و"الأرواح المتمردة" 1908 .. مرورا بمختلف أعماله الفنية والفكرية، وصولا الى "النبى" 1923 – اختار موقعه وموقفه مع الشعب العامل، مع الحرية والديمقراطية، مع التقدم .. ومن هذا الموقع كان يمزق الأقنعة عن وجوه أعداء هذا الشعب، وأعداء الحرية والتقدم فى المجتمع والفن على السواء" (7).
ويلمح دكروب الى حقيقة أخرى مهمة فى فعل جبران "الطليعى"، هذا. من خلال ايمانه (أقصد دكروب) بأن الاقطاع لم يكن مسيطرا على الأرض والاقتصاد، فقط، وانما كانت أساليبه ونظرته للعالم مسيطرة على الأدب أيضا. وذلك من خلال النزعة التقليدية الجامدة والألفاظ والأساليب البلاغية المتحجرة. وبالقدر ذاته، فى موضوعاته البعيدة عن نبض الحياة ومعاناة وأشواق الانسان الحقيقية. ونزوعه نحو نفاق السلطة وتمجيدها والخضوع المطلق لها. من هنا يرى دكروب أن فعل المقاومة للا قطاع ما كان له أن يقتصر عند جبران على مجرد الكفاح على مستوى المضامين الشعرية أو الروائية، فقط. بل كان لزاما عليه أن يتجاوز ذلك للنضال فى مجال "تثوير" الصيغ والقوالب الأدبية أيضا. فليس من المنطقى أن يحارب التحجر بالتحجر ولا التقليد بالتقليد ..
"فاللهب الثورى ليس من شأنه الجمود ولا التطفل على موائد الماضى, ولا التسكع والأخذ للاشياء والصياغات الجاهزة .. هنا فى مجال الفن, رأينا نقمة جبران وثورته, تتبلور فى الانتقال, الثورى أيضا, الى اشكال جديدة فى الأدب لمحتويات جديدة فى الحياة, اشكال ليس من طبعها أن تقبع فى سجون اللفظ العتيق البالى, وقوالب النمط التقليدى المسجوع .. فهى تثور على المقامات الجامدة والكتابة التقريرية, والدوران على اللفظ المقعر الغريب الصعب للمعنى الفارغ المبتذل." (8).
ليسجل ولولج جبران الى فتوحات جمالية جديدة وغير مسبوقة. سواء، أفى مجال الشعر، أم فى مجال الكتابة النثرية، بألوانها جميعا. تلك التى كان لجبران الاسهام الأكبر فى تطويرها والارتفاع بها الى آفاق بالغة الدهشة والأخاذية، بالنسبة الى ما كان سائدا فى زمنه. فكتب المقطوعة النثرية والحوارية والنثر الشعرى واستخدم الرمز الدال غير المنفصل عن واقع الحياة .. الخ
الى أن يصل دكروب الى اقتراح اطلاق مصطلح "الرومانطيقية المكافحة" على أدب جبران. وعلى الرغم من أنه يقر بكون تلك التسمية قد "تبدو متناقضة"(9), الا اننى أكاد ألمح استدعاء من نوع ما من لدن دكروب لمصطلح "الرومانسية الثورية", ذلك الذى أشبعه جورج لوكاتش نقدا واذدراء, بعد نهاية الحقبة الستالينية والقضاء المبرم على السياسة الثقافية الجدانوفية Zsdanovism، فى أعقاب المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفيتى.(10). حتى أن دكروب سيسعى بعد ذلك لاثبات علاقة من نوع معين لجبران بالاشتراكية والبلشفية والمادية. وذلك من خلال ايراد وتحليل قول جبران فى احدى رسائله لصديقته مارى هاسكل, عندما يقول :
"كان ليسوع نظريتان رئيسيتان : ملكوت السماء، ووعى نقاد نافذ وبناء. لو عاش فى أيامنا هذه لوجب أن ندعوه "بولشفيكيا" أو"اشتراكيا". فقد قتله الكهان لأنه انتقدهم. وأول ما أدركه هو، هو أن "ملكوت السماء" فى قلب الانسان ذاته, وهو عالم جمال وصلاح, وواقعية وحق"(من مجموعة "نبيى الحبيب" الجزء الثالث. ص 53)
ويعقب دكروب على ذلك بقوله:
".. ذلك الأدب الطليعى, حيث المضمون الأساسى هو مضمون ديمقراطى, تحررى, تقدمى .. وفى بعض الحالات مادى – وسوف نلمس هذا واضحا فى الفصل التالى." (11)
وهو فصل مكتوب عن جبران أيضا, حيث سيثبت دكروب مقولة وردت فى مقالة لجبران بعنوان "الجبابرة", مؤداها:
"أنا من القائلين بسنة النشوء والارتقاء, وفى عرفى أن هذه السنة تتناول بمفاعيلها الكيانات المعنوية بتناولها الكائنات المحسوسة ( ... ) فلا رجوع الوراء الا فى الظاهر ولا انحطاط الا فى السطحى".
وهو ما يعنى عند جبران أن عملية الانتقاء الطبيعى تدور على قدم وساق. وأن العالم متطور، بالحتم. تبعا لهذا القانون العلمى الذى شغل الدنيا فى بواكير القرن العشرين، وأشار اليه جبران، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وقت أن كان العالم يتجرع النتائج الكارثية لتلك الحرب. ونحن نعرف، بالطبع، علاقة جبران بشبلى شميل، المفكر اللبنانى، وأحد المبشرين بهذا الفكر المادى فى مصر, بما يسمح باحتمال أن يكون جبران قد تأثر به.
ويعلق دكروب على هذا الاقرار من قبل جبران قائلا:
"نرى هنا أن تفتيش جبران عن الاتجاه العام لحركة النشوء والارتقاء على الصعيد الكونى, من خلال الصراع العالمى العام, لم يفض الى استنتاج ما (خيالى), بل الى ما هو واقعى , وعلمى, بل ومادى, اذا أزلنا عنه القشور والتعابير المثالية." (12) محققا بذلك كلمة "مادى" سالفة الذكر، باعتبارها (صفة) جديدة تم اكتشافها لدى جبران.
ولا أظن أن جبران كان مؤيدا للبولشفية. أو، حتى، أنه كان ماديا، بالمعنى الاصطلاحى الدقيق، الذى قد يفهم مما أشار هو نفسه اليه. بقدر ما يمكننا القول بأنه كان مؤيدا أو متفاعلا بشكل ايجابى مع هذه الاتجاهات. خاصة أن جبران يتحدث طوال الوقت, من قبل ذلك ومن بعده، عن "الشياطين" و"البلاد المحجوبة" و"الطفل يسوع والحب الطفل" و "النبى" .. الخ. بما يعنى استغراقه الشديد فى العوالم الرومانتيكية المعهودة. بيد أنه، الى جانب ذلك، لابد من رؤية قدر الجرأة الأخلاقية والدينية الميتافيزيقية، التى شاعت فى أعماله، سواء، الشعرية أو النثرية. وهو ما أعتبره يقع تحت عنوان "التمرد الرومانتيكى" الذى شاع أيضا فى اعمال باقى الشعراء الرومانتيكيين, بالقدر الذى جعل العقاد يكتب "ترجمة شيطان" وايليا أبو ماضى يكتب "التساؤلات" المشبعة باللا أدرية .. الخ.
والحق أن محمد دكروب لم يتعسف ولم يلو عنق النصوص. بل ان كل ما ذهب اليه، كان موثقا بعبارات واضحة ولا تحتاج الى كبير تأويل. بيد أن التركيز على عملية اثبات القرابة الفكرية بين الكاتب والمكتوب عنه, أكثر من أى شىء آخر, كان جليا بصورة لافتة. وهو الملمح الذى نلحظ وجوده فى كل ماكتب دكروب, وهو أمر مفهوم، على كل حال.
ان الكتابة عن الآخرين بهذه الطريقة انما تحتوى على نوع من زعزعة الذات المسرودة ونزعها من اهابها القديم واعادة تقديمها فى اهاب جديد. كما تحتوى، فى الآن ذاته، على نوع من الزحزحة، عن ما كان سائدا وشائعا، عن هذه الذات فى أطرها المعهودة. وهو ما يحقق نوعا من صدمة الاكتشاف ودهشة المباغتة المعرفية. وبما يحقق حالة "درامية"، لا ينقصها "التشويق" والاثارة. وهو ما يؤكده محمد دكروب فى الاقتباس رقم 4 السابق ايراده فى صدر هذه الورقة.
وما يهدف اليه دكروب، هنا، هو السعى الى اسباغ هوية أخرى, غير مدرجة فى الوعى الجاهز السابق، لدى المتلقى، على الذات المسرودة. وهو الأمر الذى يحيل الى أن هذه الكتابة (السيروية)، نسبة الى (السيرة)، انما تنطوى على الاعتقاد بأن الهوية انما هى حالة متحولة ومتفاعلة مع المتغير المعاشى اليومى, من ناحية, والمتغير الاجتماعى التاريخى, من ناحية أخرى, على حد سواء. فتحفر الهوية بذلك وجودها فى اطار انحيازاتها الكلية التى تتفرع عن انحيازات أكثر خصوصية وذاتية وأكثر تحددا حسب ما يمليه التحول الأشمل فى الواقع المعاش. وكذلك فى اطار امكانية تقليب أوجهها المتعددة واعادة تأويل مخرجاتها المكتوبة والمعاشة على السواء. يقول صبرى حافظ: ان الهوية انما هى ..
" صيرورة اجتماعية ثقافية وليست معطى بيلوجيا. وثانيها أنها كصيرورة تتحول وتتبدل وتخضع للعديد من المؤثرات التى تساهم فى تبديل تصورها لذاتها ووعيها بالآخر."(13)
وهو الأمر الذى يجعل أوجه جبران المتعددة معللة بالتحول التاريخى الاجتماعى الذى قضى على الثبات الأحادى للصورة التى قد يثبتها البعض، ويعممون دلالتها على كل المشهد الابداعى لدى جبران. وهذه الأوجه المتعددة هى معللة فى الآن نفسه بالمكون النفسى والفكرى القار فى وجدان جبران ووعيه، والذى يشكل جوانب ملامحه الشخصية.
فلا شك أن جبران كان, كشأن أبناء زمنه, رومانتيكيا قحا. وهو ما يتضح بجلاء فى تبجيله لشأن الحرية والانفتاح والمروق والاختلاف, فى اطار وجدانى عاطفى، يغلب عليه الانفعال، بأكثر من طرحه للرؤى واعادة اكتشاف كنه الأشياء. ولكن كل ذلك يتم ايراده فى اطار من التصور البرجوازى عن الحرية الفردية. وقد يتعدى الأمر هذه الحدود للتعاطف الشعورى مع الفقراء والفلاحين. ولكن ذلك كان يتم من باب الانفعال الوجدانى، لا التعقل المعرفى المبنى على وعى طبقى علمى محدد الملامح. وهو الأمر الذى يجعل من جبران محلقا "بأجنحته المتكسرة" حالما باليوتوبيا المفقودة والمنتظرة لحضور أنبيائه "المحبوبين" "بحدائقهم" الظليلة ذات الأفياء.
أما أن يصبح جبران مناضلا طليعيا فان ذلك، بالحتم، لايمكنه أن يتم الا فى اطار رؤيته الرومانتيكية الحالمة الأسيانة، وبفعل متغير تاريخى بالغ الوطأة، مثل ثورة الفلاحين بقيادة طانيوس شاهين. ويصبح "خليل الكافر" هو ذاته المتمرد الرومانتيكى المتهم، زورا، بالهرطقة. بينما هو، فى الحقيقة، أكثرهم تقوى وقربا من روح الأديان وجوهرها الانسانى. وهو ما يجعل من تحول الذات أمرا مرهونا بتحول الواقع، كما أشرت آنفا. بيد أن هذا التحول، بحد ذاته، لايمكنه الا أن يكون داخل الحدود العامة للذات نفسها, وتحت تأثير الشروط التى حددت معطيات وجودها المعرفى والرؤيوى الأول. ومن ثم يصبح تحولها أمرا محسوبا ومعللا بالشروط المعرفية والرؤيوية القارة فى أعماق الوجود الفردى، والحاكمة للامكانيات الحركية للذات, حتى وان جاء تحولها عاصفا، أو بدا جذريا.
وهو الأمر الذى ينطبق على رفاعة الطهطاوى وطه حسين ونجيب محفوظ, كل حسب ظرفه المعاشى وانتمائه الطبقى ودرجة وعيه وامكاناته المعرفية التى شكلت مواقفه وانتماءاته السياسية, فى اطار من تفاعله "الشخصى" مع "عمومية" وكلية الحركة التاريخية المعاصرة له والمؤثرة فى مجريات الأمور من حوله.
دور الفرد – دور الواقع
وتطرح قضية معالجة السيرة الذاتية للأفراد، وعملية استنباط أدوار ممكنة ومستجدة لابداعهم وتجاربهم النضالية والفكرية, على ضوء المعطيات التى تم تحديدها، سابقا, العديد من الأسئلة الكبرى التى تتعلق بمفهوم "الانسان"، بمعناه النوعى العام، وبمعناه الفردى الخاص , وعلاقته بالتطور التاريخى وأثره فيه.
فلا شك ان معالجات دكروب تطرح تصورا علميا انسانيا للهوية الشخصية للأفراد, مؤداه أن "الهوية" انما هى معطى "اجتماعى - تاريخى", وتخضع لصيرورة اجتماعية ونفسية وثقافية متعددة الأبعاد, وليست مجرد معطى "بيولوجى" أو بيئى محدود. وكونها تخضع للصيرورة المشار اليها، فان هذا يعنى أنها دائمة التحول والتبدل. وذلك، من خلال تأثرها الحتمى بالتحولات التى لاتتوقف، سواء على الصعيد الفردى أو التاريخى العام. حتى فى اطار الثبات (النسبى) للموقف السياسى أو الفكرى المعلن. وهو الأمر الذى يسهم فى تغيير, ان لم نقل تطوير, وعيها وتصورها عن ذاتها وعالمها.
ان معالجة دكروب لشخصية رفاعة الطهطاوى، على التحديد، انما تثبت وعيه الحاد بهذه الرؤية الجدلية فى علاقة الذات بالعالم. فلقد أسهمت رحلة الطهطاوى، ليس فقط، فى اكتشاف جوانب من الوجود الانسانى الحضارى، لم تكن مدرجة، من قبل، فى وعيه وتصوره عن العالم، على الرغم من وضوح أهداف الرحلة لديه، وانما أيضا فى تصوره عن ذاته ووعيه بها. ومن ثم ايكال مهام جديدة على هذه الذات لم تكن مدرجة، من قبل. فلقد تجاوز دوره المبتعث من أجله, ألا وهو امامة البعثة العلمية التى أرسلها محمد على الى باريس, الى أدوار أخرى. تمثلت فى الحاجة الى الاسهام فى التحديث والتطوير الوطنى العام .. يقول دكروب :
"فكانت الأهداف فى التحديث تتكشف لوعى الطهطاوى وتتوضح وتتنامى وتتعدد مع حركة تعرفه المتعددة المجالات على الحياة فى المجتمع الفرنسى, فاذا هو يرى الى مختلف جوانب هذا المجتمع الجديد من منظور هذه الأهداف نفسها, بحيث جاءت صياغته كتابه الجميل (تخليص الابريز فى تلخيص باريز) 1834 وفق هذا المنظور, سواء فى المشاهد التى يرسمها, والجديد الذى ينجذب اليه والمواقف التى يعبر عنها, والرؤى التى كانت تنتقل به من راهن ما يرى فى فرنسا, الى مستقبل ما يتخيله متحققا فى مصر, أيام يُتاح لمصر أن تأخذ من اسس التمدن والمعارف ما يناسب تقدمها وتطورها."(14)
ثم اذا حدثت الثورة الشعبية فى باريس عام 1830, أثناء فترة وجود الطهطاوى بها, اذا بأسلوبه يختلف, كما لاحظ محمد دكروب, وقام بابراز تعاطف الطهطاوى (الأزهرى المحافظ) مع الثورة، بما جعله يسرد أحداثها يوما بيوم و"كيف تصاعدت حتى تم استيلاء الشعب على مؤسسات المملكة" .. يقول دكروب:
" وواضح جدا تعاطف الطهطاوى مع قوى الثورة والرعية وحرصه على ايراد الحديث القائل : "من سل سيف الجور سُل عليه سيف الغلبة وركبه الهم" وتفضيله جانب الحرية والحكم الجمهورى أو حكم الملكية الدستورية المقيدة بالقوانين بحيث لايكون الملك ولا الحاكم مطلق اليدين يتصرف بالمملكة والرعية كما يشاء"(15)
ومن ثم يورد دكروب مقتطفات من كتابات الطهطاوى التى تؤكد هذه المعانى وتدور حولها بصيغ متعددة.
ان عملية ابراز التحول الذى انتاب الوعى بالذات واكتشاف ممكناتها ومهامها المستجدة التى أناطت نفسها بها عند رفاعة رافع الطهطاوى, ذلك التحول المبنى على مستجدات ومكتسبات التجربة المعاشة ازاء العالم, بما أدى الى تفجر امكانات الذات عبر تحول هويتها الفردية, هنا, لهى أمر لا يختلف كثيرا عن طريقة ابراز التحولات التى تمت لعمر فاخورى, أو طه حسين, أو نجيب سرور, أو محمد عيتانى, أو الشيخ العلايلى, أو غيرهم من أبطال محمد دكروب. وهو ما يدل بجلاء على الرفض الواعى، من لدن محمد دكروب، لتصور الذات الانسانية، باعتبارها ذاتا مركزية ثابتة، الذى قامت عليها النهضة الأوربية وظلت سائدة, ربما حتى وقتنا الراهن لدى أصحاب الوعى البرجوازى التقليدى الميتافيزيقى. بل ان دكروب يمارس عمليا نوعا من القطيعة الكلية معها.
لقد بُنيت أفكار النهضة والاستنارة الأوربية على أساس عقلانى – دينى, معا. منطلقة من الفكر اللاهوتى المسيحى، الذى يرتكز على عقيدة: أن الله قد خلق الانسان على صورته, وبالتالى فان ثمة شيئا الهيا نورانيا يكمن فى هذا الانسان. وهذا التصور يعد أحد مسلمات النزعة الانسانية humanism التى تعود بداياتها الى نص كنسى كتبه جيوفانى بيكو ديللا ميراندولا بعنوان "دفاع عن عن كرامة الانسان"عام 1486. وعلى أساس هذا التصور، كتب البارون كوندورسيه فيما بعد "مقال عن تقدم الروح البشرية", فى عام 1794. والذى صاغ فيه خلاصة فكر الثورة الفرنسية عن الانسان والنزعة الانسانية .. "بعدما تخلص هذا الفكر من عصر الرعب الذى دمر فيه كل من الجيروند واليعاقبة بعضهم البعض." (16)
يقاطع دكروب بطريقته فى المعالجة السيروية هذا الفكر (اللاهوتى، من حيث الجوهر، وان أعلن تسلحه بالعقلانية). ليعانق الفكر الماركسى العلمى, القائل بالدور الجوهرى للعوامل الاجتماعية والاقتصادية فى تحقيق الصياغة الجدلية للذات الفردية فى تفاعلها الحتمى مع محيطها الاجتماعى. فاذا كان البشر هم الذين يصنعون التاريخ فانهم يصنعونه كما يقول كارل ماركس – "وفق قاعدة من الظروف التى ليست من صنعهم", بل التى صنعها السياق الاجتماعى التاريخى، بتراكماته الكمية والكيفية، المرتبطة بالزمان والمكان المحددين. ووفق علاقته الجدلية بأطراف القوى المشكلة لخريطة الأقطاب الفاعلة فى العالم الأوسع. وبذلك فقد وضع ماركس بذرة تعدد وحركية الهوية (الفردية أو الجماعية), فى الآن ذاته. وذلك من خلال تحويل الوعى بها، من معطى الهى ثابت، الى بنية متحولة تخضع للتغير الجدلى متعدد الأطراف والمآلات.
وهى الآلية ذاتها، التى حاول من خلالها محمد دكروب صياغة رؤيته فى اعادة بناء عوالم الذوات المسرودة فى كتاباته. انها آلية التغير والتحول الدائمين, الناتجة عن علاقات الوحدة والصراع, علاقات الجدل المنتج, بين الشخصية وعالمها.
ومن هنا أمكن، لدكروب، رؤية عناصر التحول، الكامنة على هيئة خفية أو غائمة، قد تشبه الأجنة الصغيرة الكامنة فى أرحام كتابات الشخصيات التى كتب عنها, تلك العناصر الفاعلة فى عملية انتاج المعنى المتجدد لديهم. ولأن المؤسسات الثقافية والأكاديمية العربية تستنيم فى الغالب الى التناول الظاهرى السهل، لأعمال هؤلاء الكتاب, فقد تعين على محمد دكروب أن يقوم هو بهذه المهمة الشاقة, ليغوص فى أعماق مؤلفاتهم وحيواتهم الخاصة ليخرج لنا بلآلىء جديدة تثرى المعنى الانسانى لديهم وتكسبه أبعادا تقدمية وانسانية لم تكن مدرجة فى المنظور الثقافى المكرس.

خلاصة:
• لقد اتخذت نزعة التأريخ للحداثة الفكرية والأدبية عند محمد دكروب طابع بناء السيرة على نحو ملموس.
• أن هذا الطابع (السيروى) قد اتخذ منحى المزاوجة بين الذات الساردة والذات المسرودة، بغية اكتشاف وابراز الهوية المشتركة بين الكاتبين , السارد والمسرود.
• ان الكتابة عن الآخرين بهذه الطريقة انما تحتوى على نوع من زعزعة الذات المسرودة, ونزعها من اهابها القديم واعادة تقديمها فى اهاب جديد, وزحزحة المفاهيم السائدة والشائعة عنها. وهو ما يحقق نوعا من صدمة الاكتشاف ودهشة المباغتة المعرفية.
• أن محمد دكروب قد اتجه نحو المفهوم الجدلى المرتكز على التحولات الاجتماعية – التاريخية، فى علاقتها بالوضعية الخاصة للفرد. فى محاولة لتعليل التحولات الفكرية والسلوكية لدى نماذجه.


الهوامش:
1- محمد دكروب , رؤى مستقبلية فى فكر النهضة والتقدم والعدالة الاجتماعية , دار الفارابى, بيروت, ط1, 2002 , ص 39.
2- نفسه, ص35.
3- نفسه, ص36.
4- خمسة رواد يحاورون العصر , مؤسسة عيبال للدراسات والنشر, نيقوسيا, ط1, 1992, ص180.
5- نفسه, ص 12.
6- نفسه, ص 15.
7- نفسه, ص 66, 67.
8- نفسه, ص55.
9- نفسه, ص56.
10- جورج لوكاتش, معنى الواقعية المعاصرة, ترجمة أمين العيوطى, دار المعارف, القاهرة. 1973.
11- دكروب, خمسة رواد يحاورون العصر, مصدر سابق, ص 92 - 93
12- نفسه, ص 99.
13- صبرى حافظ, رقش الذات لا كتابتها: تحولات الاستراتيجية النصية فى السيرة الذاتية, ألف,الجامعة الأمريكية بالقاهرة, 2002, ص12.
14- دكروب, رؤى مستقبلية, مرجع سابق, ص 14 – 15
15- نفسه, ص21.
16- أنظر: صبرى حافظ, السابق, ص 12.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و