الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبق حيث الغناء 14

آرام كربيت

2020 / 10 / 14
الادب والفن


انتظرت أن يتصلوا بي في منظمة الأمم المتحدة في الأردن، وروح الفرح يسبقني إلى السماء، أن أقبر تجربة سجن تدمر في ذاكرتي، والفرار من السجن العربي القاسي جدًا، أن ابتعد عن النظام القابض على الدولة والمجتمع.
إن أعيش حرًا في علاقتي بنفسي والعالم، أن أعود إلى نفسي أبنيها من جديد بعد التداعي النفسي والجسدي الخطير الذي عشته في وطني.
بيد أنهم لم يتصلوا.
انتظرت أشهر ولكنهم لم يتصلوا شعرت بالخيبة والحزن لما آلت إليه الأمور، والسؤال يدفعني إلى سؤال أخر:
كيف سأبقى مدة أخرى في هذا البلد الصعب دون مال، كل المواد الغذائية غالية الثمن، من أين ابدأ وإلى أين سأذهب؟
إن العودة إلى سوريا يعني العودة للسجن والبدء بتأكل الذات من الداخل، والبقاء في الأردن محفوف بالمخاطر، ليس من الدولة الأردنية وأنما من مراقبة المخبرين المحسوبين على النظام السوري.
بعد خمسة أشهر تم استدعائي إلى المنظمة مرة ثانية، استقبلتني المحققة، وفتحت التحقيق مرة ثانية، قلت لها:
ـ لقد تم تبليغي أنني أصبحت مقيمًا على المنظمة وانتظر ترحيلي إلى دولة ما بعيدًا عن هنا.
ـ هناك أحد الموظفين، نائب رئيس المفوضية شك بأقوالك لهذا طووا ملفك، وسأبدأ بالتحقيق معك مرة ثانية. لنقل إنه استكمال لملفك، نريد التأكد من أقوالك؟
ـ أين كنت مسجونًا، من كان معك من السجناء؟
قلت لنفسي مرة ثانية:
تعرى يا آرام، تعرى. العري ليس عيبًا، أنه فضيلة وقوة. قل ما لديك من معلومات عقيمة ولا قيمة لها. وهل لدى السجين أسرار. فأنت في زمن الانكشاف الفارغ، من أجل التحكم بهذا العالم، يبدأوا بالفرد البسيط ويصعدون السلم إلى الأعلى فالأعلى، لتطمر هذه المعلومات في قلب المؤسسة العالمية لاستخلاص العبر من أجل السيطرة على كل إنسان، ان لا يبقى أي واحد بمعزل عن الاستمناء.
إنه زمن الاستمناء الكبير، كل الرجال والنساء يستمنون أمام أنظار بعضهم وظنون أنفسهم أنهم لا يرون، لأنهم يخافون من بعضهم وأن يأكل أحدهم لحم نفسه أو غيره.
وأضافت الموظفة، وكان في عينها ملامح الإعجاب والدهشة وتعاطف كبير، قلت لنفسي:
ـ إنه تعاطف وظيفي. شغل. مجرد عمل. وتقارير تذهب وتقارير تعود، والورق يدور في الأروقة ليتحول الإنسان إلى مجرد ورقة في ملف.
ـ هل كنت شيوعيًا؟ ما هو برنامجكم السياسي؟ هل هناك دعوة لحمل السلاح؟ هل هناك شخصيات معروفة في حزبكم؟
ـ كنت شيوعيًا، طرحنا برنامجًا وطنيًا للتغيير الديمقراطي، حزبنا يطرح برنامجًا لتداول السلطة سلميًا، وأن يعود الجيش إلى ثكناته ويتحول إلى جيش وطني كبديل عن الجيش العقائدي، أن تصبح الدولة دولة وطن ومؤسسات. أن تلغى الأحكام العرفية وقانون الطوارى، وأن يتحول الإنسان في وطني إلى مواطن وليس مجرد إنسان هامشي يصفق ويغني للقائد الذي نصب نفسه قائدًا للدولة والمجتمع.
إن طرحنا السياسي هو أكبر من حجمنا وأوسع. حكمة رميناها في الفضاء كواجب ومسؤولية، ولا قيمة عملية لهذا البرنامج الفضفاض في بلد غارق في الجهل والأيمان الأعمى.
كنت أنظر إلى المرأة الجميلة، السعادة في عينها، وكان ذهني يذهب بعيدًا، أنها قريبة من فكري وعقلي، معقول أنها شيوعية أردنية أو من دولة عربية أخرى؟
تصرفت معي كصديق وليس كطالب لجوء، وهذا فهمته لأحقًا، قلت لها:
ـ وضعي لا يسمح بالبقاء هناك مدة طويلة، أنا معتقل سابق وهربت من وطني من أجل الحماية لهذا اتمنى أن أخرج من هذا المغطس السري العربي. لم أعد أحس بالانتماء إلى هذه الأرض، إلى هؤلاء الناس في وطني، الغربة الذاتي أكلتني وحولت ذاتي إلى ذات منفصلة عن ذاتي. لقد مات المكان في ذاتي، ماتت سوريا كلها وأنا وحيد هش وضعيف أمام الانتماء. الأن لا اعرف ما هو الانتماء القائم في داخلي.
وهل يبقى انتماء لكائن ما انفصل عن عالمه لمدة ثلاثة عشرة سنة وعاش في مدانه ضيق للغاية وبعيد عن حركة الزمن السريع؟
لقد شوهني السجن وشوه كل الشباب الصغار الذين كانوا معي في ظل غياب المجتمع عنّا.
يا سيدة سوزان، مفهوم المجتمع كلمة عاهرة، شيء قابل للبيع والشراء بسهولة، متحرك رجراج متنقل من مكان إلى أخر، وهناك الإنسان الرائع وهناك المجرم، وهناك القاتل النصاب والكذاب والواطي، وهناك من يريد أن يأكل لحمك نيئ
المجتمع مجرد خراء، يلفظ نفسه عن نفسه عن ما تبقى منه دون أن يلتفت إلى الوراء.
لم تعلق سوزان، كانت في ذروة الاهتمام والتعجب من هذه اللغة الصريحة القذرة والقاسية لإنسان يبدو لها إنه كائن أقل من عادي، بيد أن الكلمات تصدر عنه كالسهام الضاربة في القلب. ثم رأيت في عينها خضوع كامل لهذا القادم من المجهول.
ربما كانت تخاف أن تضيف المزيد من الاسئلة فيكون الجواب فيه من الغرابة أكثر من الغرابة التي تلقتها. قالت:
ـ أنا مقتنعة بكل كلمة قلتها، يبدو أن السجن حررك من الكلمات المنمقة كالتي نتداولها، أنت كائن حر، بيد أن الواقع هو القيد.
يسعدني أن تكون صديقي يا آرام، لكن العمل يحرمني من التواصل مع الأصدقاء إذا كانوا بصفة لاجئ. أحب ان أعرفك على زوجي وأولادي، أنه أستاذ جامعة وتكلمت له عنك مرات كثيرة، وهو شاب مهذب ورقيق ولديه رغبة شديدة في التعرف عليك. الأن لن نقدم على هذا لكن في المستقبل سيكون لنا هذا، وسأدعوك لزيارة بيتي
ـ والإقامة، متى سأخرج من هنا.
ـ الأمر ليس بيدي نتمنى بأقرب فرصة.
ودعتني كما يودع المرء حشرة نافقة مرمية على قارعة الطرق، صحيح أنها كانت سيدة لطفة ومتعاطفة، بيد أنها مرتبطة بالورق النائم في الأدراج.
خرجت إلى الشارع عاريًا من ورق التوت. أندثرت نظراتي إلى الشوارع والأبنية والناس، تحولوا إلى أشباح تجري في مسمات الزمن. حزينًا متعبًا.
وكان نجيب ينتظرني على أحر من الجمر. وكنت طوال الطريق أردد، ماذا سأقول له، أنه ينتظر خبرًا مفرحًا ليفرح لي.
نجيب وأهله كانوا أجمل قدر منحه لي القدر والزمن والحياة. أجمل فرصة ودهشة.
مرات كثيرة كنت أذهب إلى عجلون، إلى محل الحدادة الذي يعمل فيه العم سالم أبو نجيب وأخيه رامي وطارق الطالب الجامعي في جامعة أربد في شمال الأردن القريبة من الحدود السورية، أن أغير أو أبدل الشحنة السلبية في داخلي بشحنة إيجابية في ظل نظراتهم الجميلة وعيونهم اللطيفة.
كان المحل باردًا، والعم سالم وولديه، طارق ورامي كانوا يرتدون الثياب الزرقاء في محل فقر وصغير، وفي مدينة صغيرة تعتبر أقل من قرية في سوريا، كنت أتساءل كيف يعيش المرء في هذا المكان، وكيف يتدبرون قوتهم اليومي. بيد أن البسمة الحنونة والطيبة نحوي لم تغادرهم دقيقة واحدة، وهذا كان كنزًا ثمينًا لي يمنحني قدرة على مواصلة الحياة، أن نسهر ونلعب ورق التركس، ويلتموا حولنا الأهل والأقرباء في مكان جميل للغاية، نتكلم وننسى همومنا والدنيا.
نجيب لم يكن يذهب معي، لم يكن يحب عجلون، بيته في عمان وعمله، وعمليًا لقد وضع هذه المدينة في جيبه الخلفي، حيث الرتابة وقلة الموارد والعمل في دولة صغيرة فقيرة اسمها الأردن.
وعجلون محافظة، واحيانًا اسخر من كونها محافظة لصغر حجمها وقلة عدد سكانها.
ثم كنّا نتبضع القرى والبلدات الصغيرة المحيطة بعجلون، واحيانًا نزور أقرباء لآل حداد في مدينة أربد.
لم ألتق بأي سوريا في الأردن، بل تجنبت السوريين، أغلبهم هرب من سوريا في العام 1980، عندما تحول هذا البلد إلى ساحة صراع بين نظام حافظ الأسد والأخوان المسلمين. والقسم الكبير منهم مراقب، ولديهم اعمالهم الخاصة ومعروفين في السوق كنشطاء في شغلهم وسمعة السوري كانت محبوبة جدًا في الأردن. وأغلبهم حذر من السوريين المجهولين لهم خاصة من منبت مسيحي مثلي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية


.. -صباح العربية- يلتقي نجوم الفيلم السعودي -شباب البومب- في عر




.. فنان يرسم صورة مذيعة -صباح العربية- بالفراولة