الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدنٌ عصرية بلا مدنية (1) (تأمُلات نفسية/اجتماعية في بعض وقائعها الإجرامية)

جميل النجار
كاتب وباحث وشاعر

(Gamil Alnaggar)

2020 / 10 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مع كامل احترامي لكل القرى والعِزَب والنجوع والبوادي؛ فقد قضيتُ بعضاً من فترات حياتي، ككثيرٍ من المثقفين المتعطشين للمعرفة، في القرية الحالمة التي كان يُقدِر أغلب أهلها الطيبين العِلْمَ والتنوير والتطور والارتقاء، رغم افتقارها لأبسط المظاهر الحضرية بالمدينة، التي كانت دائماً ما تُناديني هي الأخرى منذ نعومة أظافري.
حيث قضيتُ أوقاتا طوال من عمري بالمدن التي كانت ساحرة في الماضي. لكن تظل العزبة عزبة والمدينة مدينة، لكل منهما معطياتها وقدراتها ومقدراتها الحضرية والحضارية، وبأن المدن أرقى من الريف، خاصة في النواحي الخدمية والتنويرية؛ أو هكذا يُفترض بها أن تكون.
لكن وللأسف الشديد؛ انتشر الجهل فيهما واستفحل على السواء. حتى من حيث مظهر سكانها الذين يتمايلون في جلابيبهم و"شباشبهم" واعتياد البعض منهم على التبول في الأماكن العامة، وتفشي العشوائيات، وانتشار عربات "الكارو" التي تجرها الخيول والحمير، وقطعان الأغنام والماعز التي ترعى على تخومها أو في ضواحيها التي تعبت حكوماتها ورؤساء بلدياتها في تخضيرها بالنباتات والحشائش النجيلية.
والأدهى من كل ذلك تلال "الزبالة" والفضلات والمخلفات الصلبة التي تُرصع شوارعنا؛ وما يرتبط بها من أسراب الذباب والبعوض والفئران وابن عِرْس... الخ. وكل تلك المظاهر المتخلفة؛ لا تُذكرني سوى بما كانت عليه مدن العصور الوسطى بتخلفها وظلامها وظلامية سكانها الشعبيين.
حتى القضايا الخلافية والمشكلات الإجرامية؛ تُحل، في أغلبها، بالمجالس العرفية القبلية، التي ورثناها من النظم القبلية بعد أن كنا أمة متحضرة قبل القرنين السادس والسابع الميلاديين؛ ما يعني: بأن ما يقال عن "دولة القانون" في بلادنا هو محض حبر على ورق.

مشكلة الدراسة:
لقد شاهد الجميع -تقريبا- واقعة التحرُش الجماعي بفتاة أثناء الاحتفال بليلة رأس السنة (2019) في المنصورة، التي يعتبرونها كمثيلاتها بمنطقة الشرق الأدنى والأدنأ "مدينة"، وهي إحدى المدن التاريخية الكبيرة الرابضة على الضفة الشرقية لفرع دمياط، وقد أمدت البلد بأعلام وعلامات في الفن والرياضة كمحمود الخطيب والسيدة أم كلثوم والفنانة الفاتنة فاتن حمامة، وكان أغلب سكانها أناس في منتهى الرقي والرقة.
أما اليوم لا تمدنا –كمثيلاتها في المنطقة- سوى بكمٍ هائل من "الوساخات" التي تتأفف منها أنوف وأذان وأبصار ذوي البصيرة والحِس الراقي. هذا المنظر الهمجي البشع تكرر في أكثر من محافظة، بل وفي أكثر من منطقة بالمدينة الواحدة، ففي العاصمة، على سبيل المثال، نسمع عن فتاة التجمع، وفتاة وسط البلد، وفتاة التحرير... الخ.
وقد وَسَمْتُ مثل تلك المدينة في المقال بــ "العِزبة" لأنها باتت وأصبحت – ككثير من المدن العربية- كالتجمعات الريفية/البدوية بكل ما فيها من مظاهر التحضر المُتَدني، على الأقل من الناحية البشرية، وأقصد نوعية السكان.
فقد عششَ في تلك المدن الجهلة المتخلفون والأغبياء، هذه السُلة من الدهماء والغوغاء الهمج تتزاوج وتتناكح – كما أمرها تراثها الصحراوي- وتُمطرنا بكائنات الشوارع المسعورة، من مُتنطعين ولصوص ومتسولين تنابلة وبلطجية... الخ.
وانقسَم – كما هي العادة- هذا المجتمع المريض إلى فريقين: الأول، وهم قِلة، يُدافع عن هذه الفتاة عن استحياء، والفريق الثاني يمثل الأكثرية؛ وراح يُلقي باللوم على هذه الفتاة المِسكينة وكل مثيلاتها، وللأسف الشديد منهم أساتذة في علم النفس ورجال دين، ونساءٌ كثيرات، خاصة المُتدينات منهن، وراحوا يُعَرِضُونَ بها وبمظهرها غير اللائق من وجهة نظر هذا المجتمع المتخلف الساقط.
وأغلب تلك الفِئات التي ذكرتُ هي من المُزايدين المُنافقين، بل ومن الملاعين الذين يأتون ويأتين الفاحشة صباح مساء، ونعتي إياهم بالملاعين لا لأنهم مارسوا "السِكس"؛ لا بل لأنهم ارتدوا ثوب العفة والفضيلة، وشحذوا سكاكينهم لكل ذبيحة يتربصون بها، كتربص المُفترسات بفرائسها.
فهل يُنكر أحدٌ منا بأن الكثيرات من المُنتقبات يَسْرَحْنَّ لممارسة البغاء سراً؟ وأنا شخصياً أعرف الكثيرات، كما أعرف الكثير والكثير من الشيوخ والمُقرئين والمُتَدينين الذين يمتطون نزواتهم وللبعض منهم" شرائط سيكس" متداولة في نواحيهم، وقد رأيتُ ذلك بأُم عيني وأعرف الكثير من الأسماء والأشخاص.
فقلت يا قَوْم -بلغة القبيلة- يا من تنتسبون إلى جنس البشر زِيفاً وبُهتانا، يا أمة المظهر لا الجوهر: وأنا طالب جامعي كانت زميلاتي في أغلبهن من مُرتديات "الميني جيب" و"الميكروجيب" وكُن غاية في الاحترام والاتزان النفسي، ثم أمَّا بعد؛ فما أكثر شباب اليوم الذين يرتدون الشورتات فوق وتحت الرُكبة و"تيشرتات" النُص كُم؛ فإذا كانت زراعيّ وساقيّ المرأة تُثير الغرائز عند الرجل، فهي نفس الأعضاء الذكورية التي لو ظهرت لثارت غرائز المرأة.
هذا كلام العلم، وليس بكلامي أنا، أم لأننا مجتمعات ذكورية قميئة، يصبح الأمر حلالاً "لمولانا الدكر" وحرام على المرأة التي لا تعدوا في أمخاخنا "المِدَوِدة" مجرد أَمَة يَحرُم عليها حتى أن تتعطر؛ لتمشي تفوح منها الروائح الصحراوية الكريهة؟
يا قوم، هذه الفتاة المسكينة، لم تقترف فاحشة مُبينة، هي مجرد "تينة"، أي فتاة مراهقة teen girl، اشترت فستانا أو جيبة وبلوزة على الموضة؛ وظنَّتْ، وهي بالقرن الواحد والعشرين، مع قِلة خبراتها، بأنها تعيش في مدينة – كأي مدينة في العالم الثالث حتى- يُفترض فيها التحضر من كافة النواحي.
كما أنها من حقها أن تفرح بمظهرها الأكثر شِياكة وأناقة؛ كفرحتها - في طفولتها- بفستان العيد؛ ولكنها وللأسف لا تعلم بأنها تحيا في مجتمعات قد فاحت منها روائح الجهل، حتى بمجرد الإلمام بسِمات مرحلة المراهقة النفسية والجسدية التي تعاني فيها الكثيرات من الفتيات ضغوطاً نفسية وانفعالية هائلة، تنوء بها أعتى الجبال، كنتيجة حتمية للتغيرات الجسدية البيولوجية؛ وما يُصاحبها من صراعات نفسية تُربِك أرزن العاقلات، وتقلبات مزاجية وعاطفية حادة تتفاوت بحدة بين الفرح، والحزن، الرفض والقبول، الحب والكراهية... الخ.
يُضاف إليها ضغوط نظرة المجتمع (خاصة إذا كان مُتخلفاً) وعدم تفهمه الواعي لمخاطر المرحلة، وربما أقرب الناس لهن لا يقبلهن في هذه الفترة الحرجة من حياتهن، خاصة من أُسَرِ عامة الناس البسطاء ذوي التعليم المُتدني، والبعض من ذوي التعليم العالي وما فوق العالي ممن هم على الأفكار الدينية المحافظة أو المُتزَمِتَة.
وتخرج هذه المراهقة المسكينة لتحتفل بأعياد رأس السنة، التي يُحَرِمها المتدينون، فإذا بها مُحاطة بمجموعات غفيرة من الكائنات البَريَّة المسجورة المسعورة، تحاول أن تنهش لحمها، وراح البعض يعظها والآخر يسبها بأقذع الألفاظ والآخر يمزق ملابسها في مظهرٍ متوحش - ما أبشعه- من الناحية الإنسانية.
إذ لا يمكن نعته بأي نعوت، فكل النعوت القذرة تأنف وتتأفف من كل هؤلاء المنعوتين الموتورين المعتوهين، هذا المنظر لا يجعلك تشك، ولو للحظة، بأننا جميعا بتنا نعيش في مستشفى – بلا أسوار- للأمراض العقلية، مع العلم، وأنا على بيِّنة من كلامي، أن كل هذه الكائنات البغيضة لا يوجد منهم " دكر" حقيقي يستطع أن يحتوي هذه المسكينة في فراشها، لو قُدِّرَ، له الاقتران بها، حتى مع استعانته بكل العوامل المساعدة من "فياجرات" وخِلافه.
وليس أدل على صحة هذا الكلام من بعض الحكايات والشواهد والإحصاءات التي تؤشر لحالات الطلاق ونسب الخيانات الزوجية في مثل هذه المجتمعات المُتعفِنة من الداخل قبل الخارج؛ بسبب أفكارها الغبية المتخلفة.
والقصة ليست قصة زِيّ ومَظهر، إنما القصة قصة العقول المريضة، فكم من شاب وعامل متزوج يعمل في الكافيه مثلا؛ تجده يقف على الباب أو ينزل الشارع، ويعاكِس الآتية والذاهبة "الرايحة والجاية" مهما كان احتشامها، فلا سيدة أو فتاة تسلم من ألسنتهم المقيتة بألفاظها القبيحة، وليتهم يُغازلون بشياكة ولُطف واحترام، انما بمنتهى قلة الأدب والإجرام.
ويُقر العقلاء – إن وجدوا- بأن هذه المسكينة فاتها – لعُمرها الصغير وقلة خبرتها تبعا لذلك- أنها تحيا في مجتمعاتٍ متخلفة وستظل متخلفة؛ طالما أن المثقفين المستنيرين تاركين الساحة المجتمعية لغربان البوادي تنعق في أرجائها، فلا العادات الأصولية ولا الأديان بقيمها نجحت في تقويم مثل هذه المجتمعات البربرية والغبية.
أما الواقعة الثانية؛ فقد حدثت منذ بضعة أيام مع أحد أبنائي الراقيين من ذوي التربية الراقية الخلوقة. إذ تقاطر عليه أكثر من ثلاثين كائناً من تلك الكائنات البشرية المعتوهة؛ لمجرد أنهم اشتبهوا في أنه على خلاف مع أحد أبنائهم المشردين، بدون حتى سابق معرفة، في أحد شوارع نفس البلد "المنصورة" وانهالوا عليه بالضرب الهمجي المتوحش.
ولأننا من العائلات الضخمة في هذا البلد الذي أصبح قبلياً بامتياز؛ نحن في طريقنا لأخذ كامل حقوقنا بالطرق التي تناسبنا وتتناسب مع أحجامنا وكرامتنا، بالإضافة لحقوقنا القانونية، التي بتنا لا نرجوا منها أي رجاء يمكن أن يخفف مما يعتمل في صدورنا من نيران الكراهية لهذه المنطقة الموبوءة بشعوبها.

وللحديث بقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توقيف مساعد نائب ألماني بالبرلمان الأوروبي بشبهة التجسس لصال


.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تهز عددا متزايدا من الجامعات




.. مسلحون يستهدفون قواعد أميركية من داخل العراق وبغداد تصفهم با


.. الجيش الإسرائيلي يعلن حشد لواءين احتياطيين -للقيام بمهام دفا




.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال