الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أين جاء المنطق؟

جواد البشيتي

2020 / 10 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"الغباء" عرَّفه آينشتاين بما يؤكِّد أنَّه يفهم "الحقيقة" بما يناقِض "الطوباوية (في التفكير)"؛ فهو قال، في تعريفه له، إنَّه أنْ يُكرِّر المرء التجربة "نفسها"، متوقِّعاً (أيْ معلِّلاً النَّفس بوهم) تمخُّضها عن "نتائج مختلفة"؛ فـ "النتيجة (أيْ النتيجة العملية الواقعية)" تأتي متوافقة مع "التوقُّع" إذا ما كان "التوقُّع" واقعياً موضوعياً، وتذهب به إذا ما كان "ذاتياً (غير موضوعي)".
"الحقيقة"، ومهما كابَد المرء في بحثه عنها حتى كشفها واكتشافها، هي دائماً "بسيطة"، وأبسط مَمَّا نظن لدى بَدْئِنا البحث عنها؛ وبما يؤكِّد ذلك، عرَّف آينشتاين "الأحمق" و"الذكي"، قائلاً إنَّ "الأحمق" هو الذي يجتهد في جَعْل "البسيط" من الأشياء يبدو "معقداً"؛ أمَّا "الذكي" فهو الذي يَعْرِف كيف يُبسِّط ما يبدو معقَّداً.
هل فَهِمْت، واستوعبتَ، وتَمَثَّلْت، نظرية ما، أو فكرة ما؟
آينشتاين يجيب (خير إجابة) قائلاً: "إذا لم تستطعْ شرح فكرتكَ لطفلٍ عمره 6 سنوات، فأنتَ نفسكَ لم تفهمها بعد".
نحن اعتدنا أنْ نَفْهَم "الخيال" على أنَّه ضديد "الحقيقة"، و"المعرفة (مع المنطق)" على أنَّها صنو "الحقيقة"؛ لكنَّ آينشتاين، والذي أنعم الله عليه بـ "عبقرية الخيال"، دعانا إلى الأخذ بطريقة جديدة في التفكير، توصُّلاً إلى "الحقيقة"، إذ قال إنَّ "الخيال" أهم من "المعرفة"، وإذ قال أيضاً إنَّ "المنطق" يُوْصِلكَ، إذا ما سِرْت في دربه، من "الألِف" إلى "الياء"؛ لكنَّ "الخيال" هو العربة التي تُوْصِلكَ إلى أيِّ مكان.
لكنَّنا ما أنْ نتوصَّل بـ "الخيال" إلى "نظرية ما" حتى يتأكَّد لنا أنَّ هذه "النَّظرية" لن تتآخى مع "الحقيقة" إلاَّ إذا أتى "الواقع (الموضوعي)" بما يؤيِّدها؛ فلا مهرب لنا من "المنطق (المنطقي)"، الذي يُلْزِمنا أنْ نفهم "الحقيقة" على أنَّها "كل فكرة تُوافِق (تُطابق) الواقع (الموضوعي)"؛ فليس من ميزان نزن به "الحقيقة" في كل "فكرة"، ولا من مقياس نقيسها به، إلاَّ "الواقع الموضوعي (الممارَسة، والتجربة العملية الواقعية)".
الناس، على وجه العموم، منقسمون مختلِفون في أمر "الحقيقة"، بعضهم لا يعترف إلاَّ بـ "الحقائق النسبية"، وبعضهم لا يعترف بفكرة ما على أنَّها "حقيقة" إلاَّ إذا كانت في منزلة "الحقيقة المُطْلَقَة".
وهناك من المتطرِّفين في إنكارهم لوجود "الحقيقة المُطْلَقَة" من يُعبِّر عن موقفه هذا قائلاً: إنَّ "الحقيقة المُطْلَقَة الوحيدة" هي أنْ "لا وجود للحقيقة المُطْلَقَة؛ فكل الحقائق نسبية".
في شأن إشكالية "الحقيقة"، لا بدَّ من جلاء أهمية التجربة العملية، فمن هذه التجربة ليس إلا تَعلَّم الإنسان أمراً في منتهى الأهمية وهو أنه لا يمكنه فعل أي شيء يرغب في فعله، أي لكونه فحسب يرغب في فعله؛ فثمَّة قوانين موضوعية مادية ينبغي للإنسان موافقة فكره معها إذا ما أراد لفعله النجاح.
الإنسان، في سعيه المعرفي، إنَّما يبتغي الوصول إلى "الحقيقة"، أي إلى فهم الأمور فهما يمْكن، عبر الممارسة والتجربة العملية، إقامة الدليل على صحَّته.
وتوصُّلا إلى "الحقيقة" لا بدَّ من إنشاء وتطوير منهج، يتأكَّد، عبر الممارسة والتجربة العملية، أنَّ أخْذَنا به يُوْصلنا إلى "الحقيقة"، التي ليس من ميزان نزنها به سوى ميزان الممارسة والتجربة العملية.
وهذا المنهج هو ما تواضع الفلاسفة على تسميته "المنطق"، متوفِّرين على إنشاء وتطوير قواعد ومبادئ له.
و"الفكر"، أو "التفكير"، ينبغي له أن يراعي، تلك القواعد والمبادئ، وأن يستمسك بها ويتقيَّد، إذا ما أراد صاحبه الوصول إلى "الحقيقة"؛ فمِنْ أين أتى "المنطق"، بقواعده ومبادئه، إلى رأس الإنسان؟
لم يأتِ إلا من مَصْدَرٍ واحد هو "التجربة العملية (الممارسة)" للإنسان في سياق صراعه مع الطبيعة.
إنَّ "النجاح" و"الفشل" في التجارب العملية للإنسان هما ما فرضا عليه أنْ يكون "منطقيا في تفكيره"؛ و"المنطقية في التفكير" لم تنشأ لدى البشر إلا بصفة كونها "شرط بقاء".
هيجل في حديثه عن "الحقيقة" أوضح أمراً في منتهى الأهمية هو أنَّ كل ما هو "حقيقي (واقعي)" يجب أن يتَّسم بـ "العقلانية (المنطقية)"، أي يجب أن يكون متوافقاً مع "العقل"؛ لكن، هذا "الحقيقي (الواقعي)" لا بدَّ له، في مجرى التطوُّر، من أن يغدو شيئاً "غير عقلاني"، فـ "الواقعي" يبدأ "عقلانياً" وينتهي "لا عقلانياً".
وفي مثال التطوُّر المعرفي للإنسان، نرى أنَّ توسُّع وتعمُّق الإنسان في معرفة موضوع ما يفضيان إلى ولادة أسئلة وتساؤلات جديدة في رأسه، يتعذَّر عليه إجابة كثير منها، فينشأ، من ثمَّ، جهل جديد، هو جهل العالِم، أو الإنسان الذي يملك شيئا يُعْتَدُّ به من المعرفة والعِلم في هذا الموضوع.
"النَّظرية" هي في الأصْل، أيْ في أصلها "الواقعي الموضوعي"، "ظاهرة (طبيعية، مثلاً)"، مُدْرَكَة حِسِّيَّاً؛ لكنْ يَسْتَغْلِق على البشر (مِنْ مُدْركيها حِسِّيَّاً) فهمها وتفسيرها وتعليلها، أو الوقوف على أسبابها، فَتَنْشَط فيهم، وتَتَّقِد، "المُخَيِّلة"، التي بمعونتها "يَفْتَرِضون (أو يتصوَّرون)" تفسيراً، أو يتوصَّلون إلى "تفسير افتراضي"، لا بدَّ من اختباره، وَوَضْع نتائج الاختبار، من ثمَّ، في "ميزان الحقيقة (الموضوعية)"؛ فلا ميزان غيره نَزِن به "الحقيقة الموضوعية" في نظريَّاتنا وأفكارنا.
إنَّ "لماذا (وفي تصاعُدِها على وجه الخصوص)" هي "سؤال العِلْم"؛ لأنَّها تَطْلُب التفسير والتعليل؛ وفي هذا المسعى، لا بدَّ لـ "المُخَيِّلة" من أنْ تكون "نقطة الانطلاق"؛ فـ "المنطق الذي يخالطه كثير من الخيال" هو الذي من رَحْمِه خَرَجَت كبرى النَّظريات العلمية.
ولتبيان أهمية "لماذا التصاعدية"، أُوْرِدْ المَثَل الآتي:
أحد الفلاسفة سأل مريضاً "لماذا تتناول الدواء؟"، فأجابه قائلاً: "حتى أشفى"؛ فسأله "ولماذا تريد الشِّفاء؟"، فأجابه قائلاً: "حتى أسْعَد في حياتي"؛ فسأله "ولماذا تنشد السعادة؟"، فاستعصت عليه الإجابة، هذه المرَّة، واسْتَغْلَقَت.
ولو سُئلْتَ "لماذا الأرض هي التي تدور حول الشمس (وليست الشمس هي التي تدور حول الأرض)؟"، لَشَعَرْتَ بوطأة وثِقَل السؤال.
"المعرفة" الكاملة المكتمِلة (في أيِّ أمْرٍ) إنَّما هي ضَرْبٌ من المستحيل فإنَّ أصغر أمْرٍ لا يُمْكننا أبداً استنفاده معرفياً (أيْ استنفاد معرفته).
لماذا?
لأنَّ كل معرفة جديدة (في أمْرٍ ما) تأتي, حتماً, بجهل جديد (في الأمْر نفسه). وهذا "الجهل الجديد" يمكن تشبيهه بـ "فراغٍ (أو ثُقْبٍ)" تشتمل عليه "المعرفة الجديدة".
إنَّه "الفراغ (أو النَّقْص) المعرفي", الذي حيَّرني أمْره, فتساءلْتُ قائلاً: "هل هو وليد السؤال أم وليد الجواب?" ففَكِّروا معي (مليَّاً) في هذا الأمر, أيْ في إجابة هذا التساؤل.
ولقد توصَّلْتُ إلى الإجابة الآتية: "إنَّ الفراغ (المعرفي) هو دائماً وليد الجواب لا السؤال؛ أمَّا السؤال فهو الذي به نملأ هذا الفراغ".
إنَّكَ ما أنْ تُجيب عن سؤالٍ حتى تَكْتَشِف (أو يَكْتَشِف غيرك) فراغاً (أو ثغرةً, أو نقصاً, أو ثقباً) في إجابتك ولا بدَّ لهذا الفراغ من أنْ يُمْلأ سريعاً لأنَّ "الطبيعة" تَكْرَه "الفراغ", ولو كان في "المعرفة", أو في "إجابات الأسئلة".
وفي مسار المعرفة (الصاعِد أبداً, والذي لا نهاية له) نرى دائماً "السؤال" يقود (ولو بعد حين) إلى "جواب" و"الجواب" يقود إلى "فراغ" و"الفراغ" يقود إلى "سؤالٍ جديدٍ" وهذا "السؤال الجديد" هو الذي به يُمْلأ ذاك "الفراغ".
"النَّظرية"، وبصفة كونها "تفسيراً افتراضياً" يبدو منطقياً أكثر من غيره، تظلُّ في حاجة إلى ما يقيم الدليل (العملي) على صوابها وصدقيتها، أيْ تظلُّ قَيْد الاختبار.
ومع استجماع ما يكفي من الأدلة (العملية والواقعية) على صوابها وصدقيتها، تُتَّخَذ "النَّظرية" أداة تفسير وتعليل لِمَا عداها، فتبدو لنا (أيْ "النَّظرية") صحيحة.
لكن، ما أنْ نتوسَّع في اختبارها واستعمالها حتى نكتشف الثغرات والنواقِص وأوجه العجز فيها؛ فثمَّة ظواهر نعجز عن تفسيرها بهذه النَّظرية، وكان يُفْتَرَض أنْ نتمكَّن؛ فيتأكَّد لنا، عندئذٍ، أنَّ لكل قاعدة استثناء (ولا يُسْتَثْنى من ذلك حتى قاعدة "لكل قاعدة استثناء").
وعندئذٍ، نَجِدُ أنفسنا بإزاء تَحَدِّي "شرح وتفسير هذه الاستثناءات"؛ فيتمخَّض الجهد المبذول في سبيل ذلك عن "نظرية جديدة"، تَصْلُح تفسيراً لهذه "الاستثناءات"؛ وهذه "النَّظرية الجديدة" لن تكون "نفياً خالصاً" لـ "النَّظرية القديمة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تظاهرات في جامعات أميركية على وقع الحرب في غزة | #مراسلو_سكا


.. طلبوا منه ماء فأحضر لهم طعاما.. غزي يقدم الطعام لصحفيين




.. اختتام اليوم الثاني من محاكمة ترمب بشأن قضية تزوير مستندات م


.. مجلس الشيوخ الأميركي يقر مساعدات بـ95 مليار دولار لإسرائيل و




.. شقيقة زعيم كوريا الشمالية: سنبني قوة عسكرية ساحقة