الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن باجه  (1080 م- 1138 م)

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2020 / 10 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



" أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائع– المعروف بابن باجه- فيلسوف عربي اندلسي، ولد في سرقسطة نهاية القرن الخامس الهجري، وتوفى عام 533 ه / 1138 م، وبرغم قصر عمره؛ شغل على مدى عشرين عاماً منصب وزير لدى أبي بكر بن ابرهيم، عامل المرابطين على غرناطه، فسرقسطة، كما شهد عصرين تاريخيين مختلفين اختلافا شديدا؛ إذ عاصر نهايات عصر ملوك الطوائف وبدايات عصر المرابطين، وتقلبت حياته خلالهما ما بين صعود نجمه وأفوله.
تكونت شخصيته الفكرية خلال العصر الأول؛ وهو عصر شهد ازدهار الفكر الإسلامي على الرغم من تمزق وحدة الأندلس وتصارع أمراؤها"([1])، "ثم لما استقر به المطاف في فاس، رماه بالإلحاد أعداؤه، وعلى رأسهم الطبيب أبو العلاء بن زهر، ودسوا له السم، وفي رسالة الوداع يذهب إلى أن الفلسفة وحدها هي التي تستطيع أن تضع الفكر الانساني على تماس بـ"العقل الفعال".
أما ذلك "العقل الفعال" فهو كالشمس ينير الأشياء، ويستوعب تعدد الأفراد، مما يلغي ضرورة الحياة الاجتماعية: وبالفعل، كان ابن باجة يعتقد انه في مستطاع الإنسان ان ينمي ملكاته في الوحدة والعزلة"([2]).
إبن باجه في نظر البعض " فيلسوف عقلاني جعل العقل قادرا على إدراك كافة الحقائق منزلة وأسماها قَدَراً" والبعض الآخر وَصَمَ فلسفته بالتقليد "فَجُلْ ما عَبَّرَ عنه موجود في فلسفة الفارابي"، لذلك اعتبره أشبه بهواة الفلسفة لا بالفلاسفة على الحقيقة"، وبينما جعله أحد الدارسين "فيلسوفا ماديا هرطقيا برع في مجال العلم النظري وكرسه لمواجهة القائلين بالحدس الصوفي" حكم آخر بأن فلسفته "لم تنعتق من إطار التصوف والتأثر بالأفلاطونية المحدثة".
وإذ يرى فيه البعض "أول فيلسوف أنتج خطاباً فلسفياً جديداً، يتحرك داخل دائرة البرهان وحدها، دون انشغال بالبيان، ولا بالعرفان، ولا بتأويلات الأفلاطونية المحدثة، كما هو حال فلاسفة المشرق، وان "فكره مستقل نابع من بيئة المغرب"، يرى البعض الآخر أنه "كان شارحا أكثر منه مبدعاً، وأن جهده جعل من فلسفته حلقة وصل بين المشرق والمغرب"([3])، لكن هذا الرأي لا يلغي دور ابن باجه الطليعي كفيلسوف ومفكر عقلاني متميز، فبالعودة إلى نصوص ابن باجه في شرح رسائل في الإلهيات واللغة، كما استعان في شروحه بمصادر متنوعة، منها ما يعود على فلاسفة اليونان وفلاسفة الإسلام، وشراح أرسطو السابقين من معتنقي الأفلاطونية المحدثة، وقد "انصَبَّ اهتمامه حقيقة على الطبيعيات؛ فشرحها مستعينا بأبقراط وبعض مقالات إقليدس وبالمنهج الأصولي البرهاني، وفي شرحه "للكون والفساد"؛ اعتمد على "ديموقريطس" وغيره وعندما شرح كتاب "النفس" لأرسطو وضعه في سياق من اهتموا بالموضوع من السابقين على أرسطو ومن اللاحقين به.
وإذ انحاز عموما لآراء أرسطو وفَضَّلَهُ على أفلاطون؛ إلا أنه خالفه أحيانا، مثال ذلك ترجيحه رأى بطليموس على رأي أرسطو في مبدأ "الحركة الدائرية"، لذلك نرى أن شروح ابن باجه تنم عن ثقافة عريضة تمثلت الموروث والوافد، ومن خلالهما قرأ النصوص الأرسطية، ولم يكتفى بشرحها إنما أضاف إليها من عندياته، ولم يخطئ د. حسين حنفي حين ذهب إلى أن ابن باجه قصد من شروحه ترسيخ "برهان" أرسطو في البيئة الإسلامية دعما للمنهج الأصولى الإسلامي"([4]).
في رسالة "الغاية الإنسانية"؛ استشهد ابن باجه بأرسطو ونقل رؤيته مدعمة برؤى غيره من الحكماء؛ ليثبت أن الخلاص وتحقيق السعادة لا يتم إلا عن طريق المعرفة، وفي رسالته "قول يتلو رسالة الوداع" ما ينم عن حرصه على إثبات أفكاره هو مدعما إياها بأرسطو أكثر من كونه مجرد شارح له. وفي رسالة "الصورة الأولى والمادة الأولى"؛ يحيل ابن باجه إلى أرسطو فضلا عن معارفه المستقاة من اطلاعاته على فلسفات الكندي والفارابي وابن سينا. وفي السياق ذاته نضع رسالته عن "تراتب العقول وخلودها" ونرجح تأثره يها بأفلاطون ربما أكثر من أرسطو، كذا بالعقيدة الاسلامية"([5]).
بديهي –كما يقول د. محمود إسماعيل- "أن يتطور فكر ابن باجه بعد تجاوزه مرحلة الشرح إلى مرحلة التأليف المبدع الذي يحمل جماع أفكاره، وهو فكر شديد الشبه بفلسفة إخوان الصفا من حيث الجمع بين العقلانية الصادعة والتصوف العرفاني، كذا في تنقية الموروث بالحكمة، وأخيرا في تكريس حصاد ذلك لاغراض عملية حياتية ذات طابع توجيهي إرشادي، صحيح أنه أفاد من نسق الفارابي وغيره في صياغة فلسفته؛ لكنه اختلف في الأهداف والغايات، فغاية الفارابي كمنت في إصلاح المجتمع في ظروف تاريخية مغايرة لمجتمع الغرب الاسلامي الذي عاش فيه ابن باجه، بينما تحددت غاية ابن باجة في كيفية معايشة مجتمع أخفقت فيه الثورات الجتماعية ودعوات الإصلاح، لذلك يعد كتاب "تدبير المتوحد" شاهدا على الإخفاق والفشل في الثورة والاصلاح، كما يعد مرشدا ودليلا يسترشد به الفيلسوف المحبط في اختطاط فلسفةو خاصة به لمواجهة حياة قاسية ضارية.
اخيراً، "برغم تراوح فكر ابن باجه بين العقل والحدس كمصدر وأداة للمعرفة، إلا أن العقل يمثل في منظومته مكانة غلابة، فقد عول على "البرهان" حتى في الأمور المنوطة بالحدس؛ لذلك نراه فيلسوفا أرسطيا أكثر من كونه متصوفا عرفانيا، ولاغرو فقد رفض "التقليد" رفضا تاما، ولم يعول على "التوفيق" أو "التسويغ" أو "التوليف" كما هو الحال بالنسبة لمعاصريه، لذلك؛ لا نتردد في الحكم –كما يؤكد د. محمود اسماعيل- بأن نظرية المعرفة عند ابن باجه أساسها التفكير العقلاني، كانت الطبيعيات في منظومته لها الأسبقية، وقد عول في عرضها على المعرفة النظرية والحس التجريبى؛ ولم تكن مجرد عرض مبتسر ونقل لأقوال الطبيعيين؛ بقدر ما كانت معرفة محققة جرى تجريدها وتحويلها إلى علم فلسفي نظرى"([6]).
خلاصة القول؛ "إن منظومة ابن باجه الفلسفية تميل إلى البرهان أكثر من ميلها إلى "العرفان"؛ فهو فيلسوف منحاز للعقلانية في التحليل الأخير، وليس فيلسوفا إشراقيا كما ذهب بعض الدارسين، كما وأنه ليس فيلسوفا عقلانيا محضا "رفض العرفان الصوفي رفضا مطلقاً"؛ كما ذهب البعض الآخر، ذلك إن حصاد فلسفة ابن باجه تجعل منه فيلسوفا تجاوز معارف عصره؛ لكنها أبعد من أن تكون "مشروعا فلسفيا علميا جديدا تماما"، كما ذهب بعض دارسي فلسفته ؛ ذلك أن واقع مجتمعه والمجتمعات الاسلامية عامة بما تضمنه من محاذير وإكراهات حال دون ميلاد مثل هذا الفيلسوف العقلاني القح"([7]).
 
 


([1])  د. محمود إسماعيل – سوسيولوجيا الفكر الإسلامي .. طور الازدهار (3) – سينا للنشر – بيروت- 2000 – ص 50
([2])  جورج طرابيشي – معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط1 – أيار (مايو) 1987.– ص 18
([3]) د. محمود إسماعيل – مرجع سبق ذكره - سوسيولوجيا الفكر الإسلامي .. طور الازدهار (3)– ص 52
([4]) المرجع نفسه - ص 56                                                                              
([5]) المرجع نفسه– ص 57
([6]) المرجع نفسه - ص 60+61+ 62
([7]) المرجع نفسه – ص62/ 64








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سقوط قتلى وجرحى في غارة إسرائيلية على سيارتين في منطقة الشها


.. نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: الوضع بغزة صعب للغاية




.. وصول وفد أردني إلى غزة


.. قراءة عسكرية.. رشقات صاروخية من غزة باتجاه مستوطنات الغلاف




.. لصحتك.. أعط ظهرك وامش للخلف!