الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما وراء الإستفتاء على الدستور في الجزائر؟

رابح لونيسي
أكاديمي

(Rabah Lounici)

2020 / 10 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


لم يهتم الجزائريون عبر تاريخهم الطويل بالمسألة الدستورية إلا في فترة الحراك، وذلك على عكس المصريين أو التونسيين أو الإيرانييين مثلا، فهذه الشعوب لها علاقة بالثقافة الدستورية منذ فترة طويلة، وكان للدستور أهمية في حياتهم السياسية، فتونس كان إسم حزبها الوطني الذي قاد الكفاح التحرري يسمى ب"الحزب الدستوري"، فهو شعب له ثقافة دستورية تمتد إلى مدرسة الصادقية التي كان وراء تأسيسها خيرالدين التونسي صاحب كتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" في أواخر القرن19، فقد تحدث في كتابه عن النظم السياسية الملائمة متأثرا بالنظام السياسي الفرنسي المنبثق عن الثورة الفرنسية1789، كما طرحت ثورة أحمد عرابي في مصر عام 1881 دستورا بنظام نيابي صاغه المصلح الديني محمد عبده، ثم كان لدستور1923 تأثير كبير على الحركة الوطنية المصرية، ونجد نفس الأمر في إيران بدستور 1906 الذي شارك في صياغته علماء دين، وأخذ صبغة ليبرالية سياسية متقدمة جدا بالنسبة للفكر السائد في العالم الإسلامي آنذاك، كما لا داعي لنا للحديث عن تركيا التي عملت بالدستور لفترة في القرن19 قبل أن يجمد العمل به السلطان عبدالحميد الثاني في1878 قبل أن تقيله ثورة في1908 ضده سميت ب"الثورة الدستورية".
هذه أمثلة فقط حول فكرة الدستور في بلدان يشترك فيها الجزائريون معها في الإنتماء إلى نفس الفضاء الحضاري الإسلامي، لكن لم نجد لدى الجزائريين إهتماما بالوثيقة الدستورية سواء في العهد الإستعماري أو بعد إسترجاع الإستقلال في1962، بالرغم من مشاركة سياسيين منهم في مناقشات صياغة القانون الأساسي للجزائر في 1947 الذي هو عبارة عن وثيقة دستورية وضعتها فرنسا الإستعمارية خصيصا لمستعمرتها، وقد قدم فرحات عباس مشروع دستور كامل للجزائر آنذاك، أما بعد 1962، فقد تم إنتخاب مجلس تأسيسي مهمته صياغة دستور للدولة الجزائرية، لكن تجاوزه بن بلة ومجموعته التي أستولت على السلطة بالقوة، وفضلت فرض دستور على الجزائر صاغته مجموعة من الموالين لها في سينيما الماجستيك (الأطلس اليوم) في 1963، وهو ما دفع رئيس المجلس التأسيسي فرحات عباس إلى الإستقالة بتوجيه رسالة يمكن إعتبارها اليوم مرجعا هاما في الفقه الدستوري، وهي منشورة كاملة في كتابه "الإستقلال المصادر"، فمنذئذ لا يولي الجزائري أهمية لهذه الوثيقة، فرغم أن لكل رئيس دستور، لكن لا نعلم من يصيغ هذه الوثيقة التي تمر دائما بعد عرضها للإستفتاء الشعبي، ولا تعرف نقاشا كبيرا بإستثناء دستور1976 الذي أنبثق عن الميثاق الوطني1976 الذي عرف نقاشا واسعا جدا، لكن لانعتقد أن السلطة قد أخذت بالمطالب الشعبية آنذاك، بل كانت تلك النقاشات مجرد وسيلة لإعطاء شرعية شعبية للميثاق الوطني الذي سينبثق عنه دستور1976، وأكبر دليل على ذلك هو عدم الأخذ بعين الإعتبار مطلب شعبي تكرر كثيرا جدا في تلك النقاشات، وهو تطبيق مبدأ "من أين لك هذا؟"، لكن لم يؤخذ بهذا المبدأ على الإطلاق إلى حد اليوم، وهو المبدأ الكفيل للحد من الفساد الكبير الذي عرفته وتعرفه الجزائر.
عادت فكرة صياغة دستور جديد للجزائر أثناء الحراك الشعبي بقوة بصفته اللبنة الأولى لبناء الجمهورية الجديدة، لكن أختلفت الرؤى حول طريقة صياغة هذا الدستور، فهناك فكرة ثابتة تقول بأنه يجب أن ينبثق عن الشعب وإرادته وعبر ممثليه، وهو ما يطرح فكرة ضرورة مجلس تأسيسي لصياغته، لكن خفي عن هؤلاء أن إنتخاب مجلس تأسيسي يمكن أن يفرز لنا أغلبية أيديولوجية تضع دستورا أيديولوجيا، وليس توافقيا ومعبرا عن الأمة بكل أطيافها، فهذا من عيوب مجلس تأسيسي منتخب في الكثير من دول منطقتنا، ويمكن أن نعطي مثالا بإيران أين أسس مجلسها التأسيسي المنتخب بعد ثورتها في 1978 جمهورية إسلامية بعد سيطرة الإسلاميين الراديكاليين على المجلس، كما يمكن أن يحصل العكس أيضا من تيار أيديولوجي مخالف، أما النجاح النسبي لتجربة تونس، فيعود إلى حكمة حزب النهضة الإسلامي بقيادة الغنوشي الذي تنازل عن مقاعد كي لايسيطر على المجلس كله، وفضل التوافق مع التيارات الأخرى، لكن من سيضمن ذلك في الجزائر سواء للإسلاميين أو نقيضهم، ولتجاوز ذلك طرح البعض فكرة تعيين ممثلين عن كل التيارات لمجلس تأسيسي، وذهب آخرون إلى إشتراط ميثاق أو عقد بين كل هذه التيارت السياسية والأيديولوجية قبل صياغة دستور الجمهورية الجديدة، لكن كلنا نعرف كيف عقدت مشكلة التمثيل الأمور للحراك وفتتته بسبب رفض البعض أي تمثيل للحراك وحدوث أنقسام عند آخرين حول الممثلين لأسباب أيديولوجية وجهوية، مما كان أحد أسباب إضعاف الحراك الشعبي، ويذهب البعض لتجاوز كل ذلك بالدعوة إلى إقامة ندوة وطنية لكل التنظيمات السياسية والمجتمع المدني للتوصل إلى عقد ينبثق عنه دستور جديد، لكن هذا الطرح لا يختلف عن ما وقع في 1994 في أواخر عهد المجلس الأعلى للدولة حيث انتهت الندوة بوثيقة على شكل عقد انثق عنها دستور1996.
فأمام هذا الوضع لم يبق إلا الحل الذي طرحته السلطة، وهو إنتخاب رئيس الذي سيقوم بدوره بعملية التغيير بداية من صياغة دستور الجمهورية الجديدة، وهو ما وقع مع الرئيس تبون الذي فتح نقاشا منظما قاطعته فعاليات الحراك الشعبي بحكم عدم إعترافها بشرعيته، وبناء على ذلك يعارضون هذا الدستور الآن، وهو ما يمكن أن يعتبره البعض بأن هؤلاء أهتموا بالشكل بدل الجوهر، ويمكن تحميلهم مسؤولية النقائص في مشروع الدستور الذي طرحته السلطة.
أثبت النقاش جول مشروع الدستور بأننا مجتمعات عصبيات وما قبل السياسة بسبب المساحة الكبيرة التي أخذتها المسألة الهوياتية، مما أثبت مرة أخرى أن السلطة أكثر تقدما وإرادة في حل نهائي لهذه المشكلة التي سممت الحياة السياسية في الجزائر، وقد كانت توافقية إلى حد كبير في ذلك عندما وضعت كل مكونات الهوية الوطنية خارج مساحة النقاش تماما، وهو ما يدحض نسبيا فكرة أن السلطة تستخدمها في إطار سياسة "فرق تسد"، بل وجدنا العكس، فمن يستخدمها هي فئات واسعة من الشعب، لأنه لم يخرج من عصبياته، وهو ما يطرح أمامنا اليوم مشكلة أعمق تدفعنا إلى ضرورة البحث عن حلول عملية لإخراج مجتمعنا من هذه العصبيات القاتلة، وقد طرحنا في عدة المقالات هذه المسألة، ومعها ايضا مسائل الديمقراطية والمواطنة وغيرها التي ستبقى مجرد شعارات إن لم نقض نهائيا على هذه العصبيات الطائفية واللسانية والقبلية والجهوية وغيرها، ولن يتم ذلك فقط بثورة ثقافية وتعليمية كما يعتقد البعض، بل أيضا بثورة صناعية تدخلنا في رأسمالية وطنية بعد ما ندفع طبقة الكمبرادور (أي إستيراد-إستيراد) إلى الإستثمار في القطاعات الصناعية خاصة دون ان ننسى توجيه الموارد النفطية إلى الإستثمار في الصناعة أيضا بدل توجيهها إلى الإستيراد، فنحدث بذلك تغييرا كبيرا في البنية التحتية المتمثلة في قوى الإنتاج التي ستؤثر بدورها في البنية الفوقية المتمثلة في الثقافة وشكل الدولة والذهنيات وغيرها - حسب النظرية التي يطرحها كارل ماركس حول عملية التغيير-، وبذلك سندخل في رأسمالية وطنية كما وقع في أوروبا القرن19 بعد ثورتها الصناعية، والتي مهدت، ووضعت الأرضية الصلبة للنظام الديمقراطي فيها بتغيير شكل الدولة وذهنيات وثقافات الشعوب الأوروبية، ونعتقد أن هناك رغبة لذلك اليوم في الإنتقال من إقتصاد ريعي إلى إقتصاد منتج، كما يضم مشروع الدستور مادة هامة ينص صراحة على إبعاد المدرسة عن الأدلجة وتحويلها إلى مدرسة تغرس مبدأ المواطنة، وهو مكسب غفل عنه الكثير لأنهم قد غابت عنهم أن الكثير من هذه العصبيات المسممة لمجتمعنا كانت تغرس في المدرسة والجامعة على يد بعض الأساتذة والمعلمين.
لا ننفي ان لمشروع هذا الدستور سلبيات وإيجابيات مثل أي عمل كان، فليس من العدل و لا الموضوعية أن نرى كل شيء إما أسود أو أبيض، لكن للأسف لا حظنا نوع من الشعبوية من سياسويين يدعون إلى رفض هذا الدستور جملة وتفصيلا دون أن يطلعوا عليه، ويلاحظوا بأنه يحمل بعض الإيجابيات مقارنة مع الدستور السابق بداية بحله النهائي للمشكلة الهوياتية وإبعادها من أي نقاش سياسي أو توظيف سياسوي، كما أنه سهل عملية إنشاء الأحزاب والصحف وتنظيم المظاهرات والنشاطات مكتفيا بتصريح فقط لضمان أمنها، كما أعطي للمجلس الأعلى للقضاء سلطة واسعة يضمن إستقلالية نسبية بإنتخاب 15من 24 عضو من القضاة أنفسهم، وإبعاد وزير العدل عن هذا المجلس، فهذا يعد مكسبا للقضاء، إضافة إلى المحكمة الدستورية التي ستفصل ليس فقط في دستورية القوانين، بل في حالة التصادم بين السلطات، وهو أمر لم يكن موجودا من قبل، كما أعطيت للبرلمان سلطات أوسع، ومنها ضرورة موافقته على كل المعاهدات، وهو ما يكبل الرئيس في بعض سياساته الخارجية، إضافة إلى إبعاد المال عن السياسة.
كما أثير نقاش حول ما سموه بالخلط بين رئيس حكومة ووزير أول، فهو في الحقيقة ليس خلط، بل حل لمشكل سياسي عويص، ففي حالة أن الأغلبية رئاسية، فالنظام سيكون شبه رئاسي، أما في حالة لايملك الرئيس الأغلبية، فسنتحول تقريبا إلى نظام شبه برلماني بتعيين رئيس حكومة يسير الشؤون الداخلية وفق برنامج تلك الأغلبية، ويترك للرئيس مهامه في الدفاع والسياسة الخارجية وبعض التعيينات، وبهذا الشكل ستطبق المعارضة سياساتها وبرنامجها في الشؤون الداخلية، فلا نرى في ذلك أي تناقضات، فكلنا نعرف عيوب النظام البرلماني بعدم إستقرار الحكومات، وبالنظام شبه البرلماني في تضارب الرئيس مع أغلبية معارضة تعرقله، ولهذا تم حل ذلك بإعطاء المعارضة حق تسيير الشؤون الداخلية وتطبيق برنامجها في حالة فوزها بالأغلبية في البرلمان.
كما لهذا الدستور أيضا سلبيات تحدث حولها الكثير من المختصين مثل الصلاحيات الواسعة جدا للرئيس، لكن يجب ان نضع في ذهننا أن السياسة هي فن الممكن، ويجب التعامل مع الواقع كما هو، ثم نسعى لتغييره، فهو دستور له سلبياته وإيجابيته، لكن من الممكن تطويره مستقبلا حسب تطورات المجتمع الجزائري، لكن بغض النظر عن كل هذا يجب أن يضع الجميع في ذهنهم ضرورة الحفاظ على معالم الدولة الوطنية التي ضحى من أجلها ملايين الشهداء، والتي هي مهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى.
فليعلم الجميع ان مسألة الهوية قد فصل فيها، وليست معرضة للإنتخاب عليها، فلهذا الإستفتاء يوم01نوفمبر2020 هو على الدستور دون مسألة الهوية التي لا نقاش فيها ومستبعدة من أي إستفتاء، لكن يريد البعض تصوير أن هذا الإستفتاء هو على مسائل الهوية، وهو أمر خطير جدا على وحدة وتماسك الجزائر، ووراء هذه المناورة طرفان يتاجران بمسائل الهوية لأهداف وأجندات مخفية على الكثير من أبناء شعبنا، فهناك طرف يتهجم على البعد الأمازيغي الذي يخص كل الجزائريين، وليس منطقة معينة كما يروج هؤلاء، لكن هذا التهجم يستفيد منه إنفصاليون من جهة وأيضا إسلامويين راديكاليين متطرفين يعتقدون أن دفع منطقة القبائل، وممكن مناطق أخرى إلى الإنفصال، سيسهل عليهم إقامة ما يسمونها ب"الدولة الإسلامية" التي فشلوا في إقامتها في 1992، أو على الأقل يمكنهم ذلك من إدخال الجزائر في فوضى تعطي فرصة للجماعات الإرهابية إعادة هيكلتها وإنتشارها من جديد.
ونختم مقالتنا هذه بالقول أن الشعب الجزائري قادر على تفكيك كل الألغام والأفخاخ التي توضع بإحكام ضد دولته الوطنية ووحدته، ويعرف كيف يضع أولوياته، فلا مكان لديمقراطية ولا لدستور إذا أنهارت الدولة الوطنية، وتفككت الجزائر، فالدستور وآليات النظام السياسي يمكن تطويرها إلى شكل أفضل وأحسن، ويحقق الشعب كل مطامحه عندما تحين الفرص المواتية، وتحصل التطورات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية المواتية لذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هي نعمت شفيق؟ ولماذا اتهمت بتأجيج الأوضاع في الجامعات الأ


.. لماذا تحارب الدول التطبيق الأكثر فرفشة وشبابًا؟ | ببساطة مع




.. سهرات ومعارض ثقافية.. المدينة القديمة في طرابلس الليبية تعود


.. لبنان وإسرائيل.. نقطة اللاعودة؟ | #الظهيرة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف بنى تحتية لحزب الله جنوبي لبنا