الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: بقية الفصل الثالث عشر

دلور ميقري

2020 / 10 / 20
الادب والفن


4
أنجبت بيان طفلها الثالث، وكان صبياً، وهيَ ما تزال في ربيع العُمر. إتفاقاً، أنها وضعت طفلها عقبَ انزياح شتاءٍ ثقيل عن كاهل المدينة، غطت الثلوج في أثنائه السلسلة الجبلية، لتبدو عن بعد أشبه بسحب بيضاء. الجو السياسيّ، لم يكن أفل تجهّماً؛ وذلك بسبب إعتقال زعماء المعارضة، الذين وجهوا للديكتاتور العسكريّ في بداية العام إنذاراً بإعادة الحريات العامة وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ووقف حملة القمع في السويداء. ردة فعل الشارع، كانت عنيفة للغاية، شملت العاصمة والمدن الكبرى. التظاهرات الطلابية أضحت يومية، مترافقة مع الإضرابات العمالية. لكن الديكتاتور كان رده أعنف، بإنزاله قوى الأمن للتصدي للمتظاهرين، مستخدمة الغاز المسيل للدموع. كذلك حاول كسر الإضرابات العمالية، عن طريق توقيف النشطاء النقابيين. إلى هذه الفئة الأخيرة، كان يُحسَب رجلُ بيان؛ فما لبث أن وجد نفسه في السجن مع عدد من رفاقه.
أطلق سراح جمّو بعد شهرٍ من الاعتقال، وكان الوقتُ قد أضحى على مشارف الربيع. لما ذهب إلى المصنع في صبيحة اليوم التالي، كان اسمه بين المفصولين من العمل. عادةً، في مثل هذه الأحوال، كان يُلجأ لبعض المعارف من ذوي النفوذ؛ كعلي بك بوظو، الذي قام جمّو بتدريسه قواعد اللغة الأم في نادي الحي. لكن الرجل أذيع اسمه سلفاً في نشرات الأخبار، كأحد الزعماء المعتقلين على أثر ذلك الانذار المعلوم، الموجّه للديكتاتور. هذا الأخير، أحاط نفسه بعدد من أبناء جلدته الضباط والسياسيين، وكان من أبرزهم قريبه؛ حسني برازي. في حقيقة الحال، أنهم أشقاء جمّو مَن كانوا يضغطون عليه كي يستعين بالوساطة مع هذا المسئول الحزبيّ أو ذاك الموظف الحكوميّ. موسي، تعهّد هذه المرة إعادة شقيقه الأصغر لعمله من خلال علاقته القديمة بحسين بك الإيبش. البك، كان صديقاً مقرباً لحسني البرازي. فلم يمضِ شهرٌ آخر، إلا وجمّو يُستقبل شخصياً من لدُن صاحب المصنع لإبلاغه بالموافقة على عودته للعمل.

***
بغيَة إبعاد رجلها عن العراك المحتدم في الشارع، ألحّت بيان عليه لقضاء جانبٍ من الصيف في بلدة والدته الراحلة. بالطبع بحثت عن ذريعة مناسبة، لجذبه إلى فكرتها. قالت له ذات يوم من مبتدأ الصيف: " أردتَ أن تولم للأقارب بمناسبة مولد الصبيّ، لكن الظروف لم تسمح بذلك. وها هوَ الطقسُ أصبح رائعاً، يُمَكّننا من إيفاء النذر ". ذكّرها عندئذٍ بضيق ذات يده، كونه بقيَ موقوفاً عن العمل قرابة الشهرين. وكان هذا بالضبط ما أرادت سماعه منه، فبادرت للقول: " إذاً نقيم النذر في الزبداني، ويحضره من يريد من أشقائك علاوة على أولاد خالك؟ ". قبل أن تسمع منه اعتراضاً، أضافت للفور: " يكفي التضحية بخروف واحد، وسيجلبه شقيقك فَدو كالعادة من البستان ".
بديع نورا هلّو، كان يملك فيلا كبيرة في الزبداني، ورثها عن أبيه. الفيلا كانت تقع بجوار مسكن أسرة المرحومة سارة، وكانت في حياتها قد وطدت صداقتها مع نورا هلّو من خلال هذا الباب. في ذلك الصيف، تعهّد بديعُ إيصالَ صديقه جمّو وعائلته إلى البلدة. في اليوم التالي، قدم فَدو مع امرأته وشقيقته رابعة، مستخدمين سيارة أجرة. في المقابل، لم يدعُ أحداً سلو وأسرته. أما موسي، الذي أضحى شبيهاً بالمستحاثة، فاعتذر عن المجيء لعجزه عن تحمل مشاق السفر. ثم انتظروا يوماً آخر، قبل الشروع في إحياء وليمة النذر. المضيفون من أبناء الخال، ضحّوا بدَورهم خروفاً في المناسبة، كذلك أحضروا عازفَ ناي وقارعَ طبلٍ كي يرقّصا المدعوين؛ على عادة أهل الريف. كانت هذه سانحة سعيدة، للقاء جمّو مع معلّمه السابق، الزعيم بكري بك. امرأته، وكانت صديقة حميمة لهَدي، سألت بيان عن سبب عدم حضورها. فأجابت بيان بنبرة دعابة: " زوجها لا يستطيع ترك عمله في النول، وهيَ لا تطيق الفراق عنه ولو نهاراً واحداً! ".

***
بقيَ جمّو مع أسرته أسبوعين في البلدة، هما فترة الإجازة المقدمة له من قبل المصنع. في الأثناء، كان يلتقي يومياً بالبك، وبالطبع مع امرأته بديعة وكانت كما علمنا أخته بالرضاع. هذه الأخيرة، برغم فارق العُمر بينها وبين امرأته، فإنها اعتادت على فتح قلبها لها من خلال أحاديث تتناول شئون العائلة وشجونها. أكثر من مرة، تطرّقت إلى إدمان زوجها على المقامرة وخشيتها أن يُضحي بأملاكهما في حمأة اللعب. من جانبها، كانت المرأة الصغيرة تتحدث عن إدمان آخر، ابتليَ به رجلها؛ أي السياسة. لكنهما، في المقابل، لم تكونا تضيعان كثيراً من الوقت في الأحاديث.
كانت بديعة تقود ضيفتها من المنزل إلى السوق، المزدهر بسلال الفواكه، المقطوفة للتو من الأشجار المثمرة، المغطية مساحات شاسعة من سفوح البلدة الجبلية. لم تكونا تشتريان شيئاً؛ بما أن الغلال تأتيهما من جني المزرعتين المتجاورتين، اللتين تخصّان آليهما. فتكتفيان بالتجول عبرَ السوق، فيما أنظارهما تستجليان المنحدرات الصخرية، المنتهية بالوادي الساحر، أو ترتفعان نحو القمم الحالقة، المكسوة بعد بالثلوج في هذا الوقت من الصيف المبكر.

5
بعد أسبوعين من الاقامة في الزبداني، حانَ وقتُ عودةِ أسرة جمّو إلى دمشق. كانت بيان تجهّز حقيبةَ السفر الكبيرة، التي ذخرت بالثياب والأشياء الضرورية الأخرى، لما جدَّت مفاجأة سعيدة في تلك الظهيرة. إذ ظهرت أختها بيروزا مع أولادها الثلاثة، يتبعهم ديبو ببزته الرسمية، الأنيقة. خاطبَ الدركيُّ عمَّهُ الصغير، راسماً ابتسامة عريضة من تحت الشاربين المعقوفين بعَظمة: " أخبروني في الشام أنكم هنا، فجئت مع العائلة بسيارة الخدمة ". ثم أضافَ: " أساساً، كانت الفكرة أن أعود معكم إلى الغزلانية، لنستضيفكم لدينا شطراً من الصيف ". بادله العمُ ابتسامةً مُجامِلة، فيما كان ينظر إلى بيان بطرف عينه. لكن هذه الأخيرة بقيت صامتة.
بادرت عندئذٍ ابنةُ خال جمّو للقول، مخاطبةً إياه: " إذاً تبقى عائلتك عندنا لفترة أخرى، ومن ثم يعودون جميعاً مع ديبو ". ابنةُ الخال، كانت قد ألحّت قبلاً على بقاء بيان مع الأولاد. هكذا قبل جمّو الفكرةَ على مضض. وما لبثَ أن اتجه إلى مدخل المزرعة، أين جلسَ صديقه بديع وراء مقود سيارته. ركبَ إلى جانبه، قائلاً: " سأرجعُ لوحدي، لأن عائلتي ستمكث أسبوعاً آخر ". تهلل وجه صديقه، الذي كان يشعر بالضجر في الريف: " إذاً، تقضي بقية الأيام لديّ في منزلي ". وهكذا كان، حيث انضم إليهما في مساء اليوم نفسه باقي الأصدقاء.

***
عدا عن بهجتها بالبقاء في بلدة الاصطياف لأسبوع آخر على الأقل، كانت بيان ستزيح عن كاهلها مهمةَ مراقبةِ طفلتيها، اللتين كانتا لا تستشعران الخطر أثناء لعبهما على حافة منحدر الوادي أو على شرفة الدور الثاني من المنزل. أولاد أختها، وكانوا ثلاثتهم قد أضحوا في سنّ المراهقة، اندفعوا تلقائياً نحوَ الطفلتين، فأخذوا يتبادلون حملهما وقذفهما في الهواء. بينما أمهم تناولت الصبيَّ الرضيع، وكانت تراه لأول مرة: " يخزي العين ما أجمله! "، قالتها وهيَ ترنو إليه بحب وحنو. عند الغداء، واحتفاءً بمقدم الضيوف الجدد، حضرَ بقيةُ أولاد الخال للترحيب وتناول الطعام سويةً. كانوا يستظرفون شخصيةَ قريبهم ديبو، ويقهقهون لدى قصّه إحدى الطرف المستمدة غالباً من أوان خدمته في سلاح الدرك. لحُسن الحظ، أنه كان صاحٍ عندئذٍ. وإلا لو كان ثملاً، لكان نسيَ نفسه، فتكلم باحتقار واستخفاف عن الفلاحين وكيف ينكّل بهم دونَ رحمة، واصفاً إياهم كالعادة بأنهم " مجرد بهائم! ".
هكذا مرَّ الغداءُ بسلام، وما عتمَ الدركيّ أن أخليت له حجرة في الدور الثاني كي ينال قسطاً من القيلولة. لما حلّت ساعة الأصيل، مضت ييان لوحدها إلى الفيلا المجاورة. فكّرت أنه من المستحسن، إبلاغُ بديعة ببقائها لفترة أخرى في البلدة. هذه الأخيرة، قالت لها عندما التقتها: " لِمَ لم تصطحبي أختكِ معك؟ ". ثم عادت واستدركت: " في الغد، أنتم مدعوون لدينا على الغداء ". بيروزا، مع أنها زارت البلدة مرات مع رجلها، إلا أنّ طبعها الحيي كان يمنعها من زيارة أولئك الجيران. في المقابل، كان ديبو منفتحاً عليهم؛ بالأخص، أنّ الزعيم بكري بك قد تواسط له أكثر من مرةٍ مع رؤسائه، وذلك بطلب من جمّو.

***
غبَّ قضاء أسبوع آخر في البلدة، أصرّ ديبو وبيروزا على بيان أن ترافقهما إلى الغزلانية. كان قد استعملَ الهاتفَ، لمخابرة مخفره كي يرسلوا إليه سيارةَ الخدمة. على الأثر، قال لامرأة عمه: " سأتصلُ مع الشام أيضاً، لابلاغ رجلك بأنك ضيفة لدينا مع الأولاد ". السيارة، التي حضرت لاحقاً، كانت من نوع " جيب " ذات الصندوق الخلفيّ، الذي يتسع لستة ركاب. هكذا جلس ديبو بجانب السائق، فيما الآخرون حُشروا بالصندوق بين صيحات ابتهاج الطفلتين. قرية الغزلانية، التي وصلوا إليها بعد نحو ساعتين، تقوم إلى الجنوب الشرقيّ من العاصمة وعلى مبعدة عشرين كيلو متراً تقريباً. كانت قرية مزدهرة، كأغلب أخواتها في الريف، تنبسط على سهل خصيب. كانت تقع على طريق البيطارية، أينَ خدم والد ديبو لعدة عقود ـ كوكيل أعمال الملّاك حسين بك الإيبش.
لما آبت بيان مع أولادها إلى الشام، بعد نحو شهر من الاصطياف في الزبداني والغزلانية، استقبلتها أخبارُ الاضطرابات الخطيرة، التي شلّت معظمَ مرافق الحياة. ففي الشهر الثاني من الصيف، تحدّى الشيشكلي خصومَهُ بطرح نفسه على البرلمان الصوريّ، مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية. استبقَ ذلك بحملةٍ جديدة من الاعتقالات، لمحاولة شلّ فاعلية المعارضة. تجنّباً من احتمال اعتقاله، كان جمّو في تلك الأيام يقضي معظم وقته في منزل صديقه بديع وينام هناك. على ذلك، توقّعت امرأته ذات ليلة أن رجال الأمنَ هم مَن يطرقون بابَ الدار. لكن تبيّن أنه والدها، العائد إلى دمشق بعد غيابه عنها لمدةٍ تناهزُ الثلاثة أعوام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الموسيقي طارق عبدالله ضيف مراسي - الخميس 18 نيسان/ أبريل 202


.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024




.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3