الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكراها الأولى، احتجاجات تشرين العراقية التي فاجأت أطرافا كثيرة

فارس عدنان

2020 / 10 / 22
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


بغض النظر عن التعريف الأكاديمي للثورة واختلافه عن الانتفاضة، أعتاد العراقيون على إطلاق تسمية "ثورة" على حالات الاحتجاج ضد الحكومات المتعاقبة سواء كانت هذه الاحتجاجات سلمية أم لا ولم تتأخر الحكومات في الدولة العراقية الحديثة في استخدام بنادق الشرطة ودبابات الجيش والطائرات بأنواعها لإخماد هكذا "ثورات" وتسجيلها في السردية التاريخية الرسمية باعتبارها حالات "عصيان" أو " تمرد" تهدف إلى تقويض الأمن والاستقرار. مظاهرات تشرين/ أكتوبر 2019 لا تختلف عن الثورات التي سبقتها في تاريخ العراق الحديث سوى إنها تحمل صفات كثيرة تجعلها مختلفة جدا وأهمها إنها لم تسقط في خندق الأيدولوجيات الحزبية وأعلنت منذ الأيام الأولى أنها صرخات تطالب بوطن كما أكدت عبورها للخنادق الطائفية/القومية/الحزبية التي ساهمت في صناعة المشهد السياسي في مرحلة ما بعد 2003. بتعبير أخر، إنها احتجاج شبابي على واقع كارثي سيء والسكوت عنه صار أمرا لا يحتمل للأفراد العاديين قبل الجماعات. أيقن هؤلاء الشباب أن القوى الحاكمة تساهم بجدية في تحويل الوطن إلى إقطاعيات محكومة بالمحاصصة وأن ثروات البلاد قد تقاسمتها المافيات السياسية التي تدعي إيمانها بالديمقراطية وهي، في واقع الحال، تحمي وجودها بسلاح المليشيات.
مظاهرات تشرين 2019 تخلصت من مرض النخبوية الذي أصاب احتجاجات سابقة وتحولت هذه المرة إلى تجمعات شعبية أصرت، بعناد واضح، على أيصال صوتها الذي ظل بعيدا عن المشهد العراقي طوال السنوات التي تلت عبور أول دبابة أمريكية على جسر الجمهورية في نيسان 2003. بالرغم من توفر السلاح بأنواعه في معظم البيوت العراقية منذ حرب الخليج الأولى، أصرت الاحتجاجات هذه المرة على سلميتها ومارس المحتجون اعتراضهم بأسلوب حضاري يستحق الإعجاب وتلقوا، بصدور عارية، رصاص القناصين الذين لم تلاحقهم الحكومة وبقوا "مجهولين" في البيانات الرسمية. مارست المليشيات التابعة لإيران استفزازات كثيرة للمتظاهرين والتي بدأت لفظية عبر حملات إعلامية وتحولت، في فترة قصيرة، إلى رصاص من قناصين "مجهولين" ومع هذا لم يتخل المتظاهرون عن سلميتهم حتى أخر لحظة.
بائعة المناديل التي اشتركت بأسلوبها البسيط في الاحتجاج في بغداد في الأيام الأولى، جسدت العمق الشعبي لهذا الحراك الذي تزامن مع هاشتاك #نريد_وطن الذي تداوله العراقيون (في الداخل والخارج) عبر حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي. سائقو "التكتك" و"الستوته" (خريجو جامعة عاطلون عن العمل) دخلوا على الخط وساهموا في صناعة الروح الشعبية التي تحمل مطالب غير حزبية أولها الحلم بالعيش الكريم في وطن يبدو، اللحظة، كسفينة على وشك الغرق وصناعة القرارات التي تهم مواطنيه تتم خارج الحدود. تطور الأمر حين دخل الحراك طلاب الجامعات والثانويات ووصل إلى طلاب المدارس الابتدائية في العاصمة والمحافظات الأخرى حتى توحدت مطلب المتظاهرين في المدن المحتجة رغم غياب قيادة توحدهم وتتحدث باسمهم.
تطورت أساليب الاحتجاج إلى الاعتصام في المطعم التركي في ساحة التحرير في بغداد وفي ساحات المحافظات الأخرى ودخلت الفنون الإبداعية الأخرى كالغناء والرقص والموسيقى كأساليب اعتراض رافقت الهتافات المنددة بالفساد الذي تحول في عراق ما بعد 2003 إلى واقع كارثي يهدد وجود المواطنين والوطن على حد سواء. ابتكر الشباب في الساحات أساليبهم الجديدة في تعبيرهم عن حبهم لوطنهم فقد بدأوا في تنظيف الساحات وطلاء جدرانها وتزيينها بلوحات فنية جميلة كما أنهم بدأوا بتقديم الطعام للمارة ولمن قرر البقاء في الساحات لأيام وليال ووصلت النسوة إلى الساحات من أجل اعداد الخبز الحار للمحتجين وكأن الثورة لا تكتمل، عند العراقيين، إلا بخبز طازج يمثل امتدادا لمفاهيم الحياة والخلود ودلالات زراعة الحبوب في الموروث الثقافي للحضارات الرافدينية القديمة.
الطبقة الحاكمة كانت، بلا شك، أول من فوجئ بصراخ المحتجين في ساحة التحرير في بغداد والناصرية والبصرة وباقي محافظات الوسط والجنوب وأتهمت الطبقة المحتجين بأنهم أطراف في مؤامرة دولية وأسمتهم ب “أبناء السفارات". الشباب في الساحات سخروا، عبر السوشيال ميديا، من هذه الاتهامات وتذكروا التاريخ القرب الذي وصل فيه الحكام الحاليون إلى السلطة على ظهر دبابة أمريكية وتلقوا التعليمات، في أول الأمر، من بول بريمر ومن موظفي سفارة أمريكا لاحقا.
معظم أعضاء مجلس النواب اختاروا الصمت ومنظمات المجتمع المدني الممولة من الحكومة وميلشياتها اختارت موقفا مماثلا أيضا وكأن المظاهرات تحدث في قارة بعيدة إضافة لإعلام الأحزاب الحاكمة الذي أصر على تسويق وهم "كل شيء هادئ في بغداد". في الوقت ذاته، اختارت معظم النقابات المهنية الوقوف مع الحراك الجماهيري وهذا موقف لا بد من الإشادة به كونه دليل على بداية استعادة الهوية الوطنية التي حاولت الطبقة السياسية الحالية إضعافها وإخمادها وحاولت، أيضا، جر الفرد العراقي إلى صراعات طائفية / أثنية لم يحصد منها سوى الجوع والفاقة وغياب شبه كامل للشروط الحقيقية للعيش الكريم.
بالرغم من هويتهم الطائفية (الهوية الفرعية المكتسبة بالولادة)، بدأ شباب تشرين في المطالبة بوطن يليق بالجميع وتجاوزوا الخنادق الطائفية التي حاولت الأحزاب الشيعية والسنية والكردية ترسيخها وحاول قادتها استثمار "الطائفة" أو "القومية" كجسر للمناصب وأرصدة في البنوك ووسيلة لكسب عواطف الناخبين قبيل الانتخابات. انحياز شباب الاحتجاج إلى "الوطن العراقي" بدلا من الانحياز للطائفة، دفع نظام ولاية الفقيه الإيراني إلى الجنون، في أول الأمر، ولاحقا دفعه إلى توظيف أساليب عدة هدفت إلى إخماد أصوات الشباب في الساحات وفي مواقع التواصل الاجتماعي. الماكنة الإعلامية الإيرانية أو الموالية لها لم تتأخر في اتهام المتظاهرين بالعمل مع حزب البعث وأسمتهم بـ "أبناء الرفيقات" وتبعتها بـ "أبناء السفارة" (إشارة لسفارة أمريكا) وأعمارهم الصغيرة وذاكرتهم تثبت العكس فمعظمهم يتذكر ألام الحصار وقسوة أجهزة أمن صدام الذي خرج من المشهد العراقي إلى الأبد.
باستثناء الحراك في لبنان الذي تضامن مع مظاهرات تشرين العراقية، دول عربية كثيرة، خارج الخندق الإيراني، اختارت الصمت وعدم إعلان أي موقف رسمي لأنها سقطت في فخ المفاجأة كون هذه الاحتجاجات قد نسفت الصورة النمطية الجديدة التي عرف بها العراقيون في فترة ما بعد 2003 فهذه الصورة توزعهم على عدة خنادق طائفية وعرقية ومظاهرات تشرين كانت عراقية بامتياز وهذه المظاهرات قد هشمت الصورة التي ترسخت في دول الجوار العربي. إضافة إلى ذلك، لم يكن متوقعا من أي دولة عربية أي موقف مساند لحراك تشرين لأن هذه الدول كانت ومازالت تخشى انتقال حمى المظاهرات إلى بلدانها التي تملك أكثر من سبب يدفع شبانها للتظاهر والاحتجاج. الإدارة الأمريكية الحالية اليمينية (المعروفة بكراهيتها للاحتجاجات في أي مكان وزمان) وقعت في فخ المفاجأة وتصريحاتها كانت خجولة تثير السخرية فقد دعت إدارة ترامب وزارة عبد المهدي إلى العمل على وقف انتهاكات حقوق الإنسان والعمل على تحقيق الاستقرار في لغة تشبه، إلى حد كبير، بيانات منظمة العفو الدولية التي تصدر بين الحين والأخر.
كان أول نتائج مظاهرات تشرين هو الإطاحة بوزارة عبد المهدي لكن الإصلاح الجذري الذي طالب به المتظاهرون لم يتحقق بعد وأسماء القناصين الذين وجهوا رصاصهم لصدور الشباب لم يكشف عنها بعد ومطاليب أخرى رفعت في وقتها صارت اليوم جزءا من ثقافة الاعتراض على الأداء السياسي لحكومة عبد المهدي أو الذي جاء من بعده. بتعبير أخر، لم تنجح مظاهرات تشرين 2019 في الإطاحة بالقوى الحاكمة وأساليبها في صناعة الخراب الوطني لكنها أجادت في الاعتراض على الواقع السيء بطريقة أخافت الساسة وأجبرتهم على الإصغاء لمطاليب الشارع وأجادت في تأسيس ثقافة اعتراض سلمية في بلد امتلأت سرديته التاريخية بقصص تعليق المحتجين في الساحات أو إعدامهم بلا محاكمات من أجل إرضاء زعيم ستكون نهايته، يوما ما، تشبه نهاية ضحاياه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا