الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النمط الأميركي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (1)

عبدالله تركماني

2020 / 10 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لم يكن عدد سكان الولايات المتحدة الأميركية حين أُعلن استقلالها، في 4 يوليو/تموز 1776، سوى ثلاثة ملايين نسمة، موزّعين على ثلاث عشرة ولاية منفصلة ومستعمَرة. وتعود أصول الثورة الأميركية إلى عدة أسباب، اقتصادية وسياسية ودينية وفكرية، وكان من أهمها (1):
(أ)- بدأ النزاع بين المستوطنين الإنكليز في أميركا والبرلمان الإنكليزي، حين قرر البرلمان رفع قيمة الضريبة المفروضة على المستوطنين، أثناء حرب السنوات السبع وبعدها.
(ب)- تواترت بواعث التعارض بين حاكمي الولايات والجمعيات العامة للمستعمرين المستوطنين، فلم يعد المستوطنون يتحملون سلطة حاكمي الولايات.
(ج)- ظلت الحالة الفكرية للمستعمرين المستوطنين أمينة للنزعة الفردية للبيوريتانيين (الطهريين)، الذين شكّلوا جزءاً كبيراً من المهاجرين الأوائل. إذ أقامت بعض المستعمرات، تحت تأثير روجيه وليامز (1604-1683)، نظاماً قائماً على التسامح الديني، مما أدى إلى تزايد عدد الطوائف الدينية. وانضافت إلى هذه التقاليد البيوريتانية الطهرية تقاليد الحرية الشخصية، التي يضمنها " القانون العام "، وكذلك عادة الحكم " الذاتي " على مستوى البلدية، من خلال ممارسة مؤتمرات المدن (الديمقراطية المباشرة)، وعلى مستوى المستعمرة المستوطنة، من خلال دور الجمعيات العامة المنتخبة وديمقراطية الملّاكين.
وهكذا، فإنّ الثوار الأميركيين، الذين تمرّدوا على التاج البريطاني في عام 1776، كانوا إنكليزاً بأصولهم وبلغتهم وبديانتهم وبعقليتهم. ومن ثم، فإنّ تمرّدهم لم يأخذ شكل قطع مع التراث الإنكليزي، بل اتخذ شكل إحياء. فبدلاً من قطيعة " ثورية " في وضعهم، فقد اكتفوا بقطيعة في المكان: فهجرتهم إلى الأرض الجديدة قامت لهم، بذاتها، مقام الثورة. ومن ثم، كما قال ألكسي دو توكفيل، المؤرخ الكبير لـ " الديمقراطية في أمريكا "، فقد توصلوا إلى الديمقراطية من دون أن يضطروا إلى تحمّل تكاليف ثورة ديمقراطية. فإرادتهم تطابقت مع واقع تاريخهم، ومجتمع الأفراد الأحرار والمتساوين، الذي أقاموه في أرض هجرتهم، لم يتطلب منهم الإطاحة بأي سلالة مالكة، وبأي طبقة ارستقراطية سائدة. وباستثناء معركتهم في سبيل الاستقلال عن التاج البريطاني، فإنهم لم يخوضوا كفاحاً ضد أي " نظام قديم ". فالنظام القديم، بالنسبة لهم، هو ذاك الذي فارقوه في هجرتهم من العالم القديم إلى العالم الجديد (2).
لقد تحققت الثورة الأميركية تحت ضغط الأحداث، ولم يسبقها نضج أيديولوجي طويل، كما هو الحال في الثورة الفرنسية. فقد كانت مشكلة الضرائب هي التي تسود النقاشات: هل يمكن أن يُفرَض علينا ضريبة برلمان لا يمثلنا أحد فيه (لا فرض ضريبة بلا تمثيل)؟ وفي الوقت ذاته الاستقلال، إذ كان المستعمرون المستوطنون يتذرعون بالحقوق الطبيعية، وحقوق المواطنين البريطانيين، والحقوق التي تنتج عن امتيازاتهم الخاصة. وقد نجح العصيان، وظهرت أميركا كنموذج، حين أصبحت المستعمرات المستقلة تتفق مع الحق الطبيعي للمستوطنين.
أما بداية النضج الأيديولوجي حول مسألة الدولة القومية الأمريكية، فقد جاءت بعد الحرب ضد انفصال الجنوب، حين ظهر تيار فكري - سياسي اتحادي، في مواجهة التيار الانفصالي. ومما كتبه الاتحاديون، يمكن أن نذكر: " أيهما أقدر على صيانة منافعنا وأكثر أمنا لنا؟ حكومة اتحادية عامة تنظّم الولايات أجمع، تعيش في ظلها أمة واحدة، أم ولايات تتمتع بالسلطان عليها رؤوس عديدة، تتشابه وظائفها وتتماثل؟ حكومة قومية واحدة أم حكومات وطنية عدة؟ "(3).
ومما جاء به الاتحاديون أيضاً: ".. الشعب الأميركي شعب حصيف عارف، استقر منذ تكوّن أمة على أن تكون له حكومة اتحادية تعبّر عن قوميته، لأنه كان يدرك - منذ البدء - أنّ هذا النوع من الحكومة وحده يحقق له مصالحه، ويحقق له غاياته في النمو والتقدم... وقد انتهى، بعد التفكير الراجح، إلى أنّ الأمن الأميركي والسلامة الوطنية لا يمكن لهما أن يكونا إلا تحت حكومة قومية واحدة "(4).
وقد بيّن الاتحاديون مخاطر الانفصال بين الولايات، خاصة ما ينجم عن ذلك من صراعات وإضعاف لكل الولايات. ومن الجدير بالتأمل العميق المقال السادس حول الدول المتجاورة، وقد جاء فيه: " إنّ الذي يتوقع الألفة والانسجام بين دول متجاورة مستقلة، لكل منها سيادتها التي لا تحيد عنها، يغفل حوادث التاريخ، ويتجاهل الخبرة التي كسبها الإنسان على مر العصور". وجاء فيه أيضا: " لقد صار من المعطيات في السياســــة، أنّ التجاور بين الدول لا يقود إلى الوئام قدر ما يقود إلى الخصام "(5).
وفي المقال الحادي عشر لدعاة الاتحاد الأميركي، ورد النص التالي: " تعالوا أيها الأميركيون. لقد مضى الوقت الذي كنتم فيه أدوات تُسَخّرُها أوروبا لعظمتها. تعالوا إلى اتحاد واثق بين الولايات الثلاثة عشرة لا انفصام له، لتبنوا معاً نظاماً أميركياً يقهر العناصر التي تغلبت علينا عبر المحيطات، ويملي عليها بعد اليوم، شروط الاتصال بين العالم القديم والعالم الجديد "(6).
ومن المفيد أن نحيط بصورة أميركا التي سادت في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، حيث تكوّنت صورة أكثر أسطورية من صورة إنكلترا التي كانت قد ألهمت الثورة الأميركية. فمن الضروري أن نذكر الولايات المتحدة الأميركية عند بنيامين فرانكلين ونزعته القومية، وعند لافاييت وشاتوبريان وتوكفيل وجفرسون، وعند العديد من الرحالة الأوروبيين الذين يقارنون بين الجنوب الأميركي، حيث يحلو العيش، والشمال القاسي والفظ.
لقد صدر إعلان الاستقلال، الذي صاغه توماس جفرسون Thomas Jefferson ( 1743-1826)، عن الرغبة في تبرير عصيان المستعمرات المتمردة على الوطن الأم، وهو يفترض الصلاح الأبدي للقانون الطبيعي، ويؤكد أنّ الناس يملكون بعض الحقوق التي لا يمكن التنازل عنها: الحياة، والحرية، والبحث عن السعادة. ويقوم دور السلطة في الحفاظ على هذه الحقوق الطبيعية، فإذا قصّرت في هذه المهمة، فإنّ للمحكومين الحق في أن يثوروا. وقد جاء الدستور الأميركي ثمرة تسوية بين الولايات الكبيرة والولايات الصغيرة، بين أنصار السلطة القوية الشديدة وأنصار الحريات المحلية، بين أولئك الذين يدفعون إلى التصنيع وأولئك الذين يعتمدون على الزراعة.
هكذا، تجابه تصوّران للديمقراطية: الديمقراطية السلطوية التسلطية لـ " الاتحاديين "، والديمقراطية الليبرالية التحررية لجفرسون. ولم يكن هذا التصوّر أو ذاك من أصل شعبي، بل كانت أسسهما الفلسفية والاجتماعية أسساً مختلفة. فقد عبّر ألكسندر هاملتون Alexandre Hamilton (1757-1804) (7) عــن رأي " الاتحاديين " من أنصار الديمقراطية الناجعة، حيث كان متأثرا بفلسفة هوبز حول السلطة، فهو يخشى الفوضى والانقسام أكثر مما يخشى الاستبداد، ويعتبر أنّ مدى قدرة وحرية السلطة التنفيذية هو المعيار الذي يتيح التعرف على الحكم الصالح. لقد كانت نزعة هاملتون القومية تستند إلى أسس اقتصادية، فهو يعوّل على السلطة الاتحادية لبناء تنظيم اقتصادي قوي، من أجل تشجيع الصناعة، ومن أجل خلق الازدهار، ومن أجل إتاحة المجال للاكتفاء الذاتي، فهو من أنصار المركنتيلية والحمائية. إنه مهتم بالإنتاجية والتنمية الاقتصادية، ويعتقد أنّ ما هو صالح للنخبة الاقتصادية المسيطرة هو صالح، في الآن نفسه، للشعب الأمريكي كله، فهو يمجّ الحكم الشعبي.
وفي حين كان هاملتون وجون آدامس John Adams(8) في الأصل نصيرين للدستور الانكليزي، فإنّ جفرسون) (9) يرغب في انتشار الديمقراطية. وبينما ينتمي هاملتون إلى مدرسة هوبز، كما ذكرنا آنفا، ينتمي جفرسون إلى فلسفة جون لوك، وتصدر مواقفه عن نزعة أخلاقية ونزعة نفعية في آن واحد. فهو يعتقد بصلاح الإنسان الفطري، ويعتبر الحكم تهديداً دائما للمحكومين. فهو يحذّر من كل سلطة تتمركز أكثر مما ينبغي، ويعتمد على السلطات المحلية لإحباط الادعاءات المغالية للسلطة المركزية. وهو يرغب في توسيع حق الاقتراع وتنمية التعليم العام، إذ يجب العمل على إفهام الناس أنّ طاعة قوانين الأخلاق تتفق مع مصلحتهم، وأنّ الجهل يعيق تحسين سلوكنا ويمنع الناس من أن يكونوا سعداء. وبينما كان هاملتون يفكر في الصناعة، قبل كل شيء، ويجد في أهل الشمال أنصاره، فان جفرسون اهتم، بصورة أساسية، في الزراعة، واعتمد على أهل الغرب وأهل الجنوب أكبر اعتماد (10).
الهوامش
1 - توشار، جان: تاريخ الأفكار...، المرجع السابق، ص 101-102.
2 - يعتبر المؤرخ الفرنسي فرانسوا فوريه من أعظم المؤرخين الفرنسيين في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد جعل من التأريخ للثورات، وخاصة الثورة الفرنسية، اختصاصه الأول. وقد عقد مقارنة ممتعة بين الثورة الفرنسية والثورتين الإنكليزية والأميركية.
- Francois Furet: La Revolution en Debat.Gallimard Paris 1999
3- هاملتون، ألكسندر وآخرون: الدولة الاتحادية، أسسها ودستورها، ترجمة: جمال محمد أحمد، الطبعة الأولى - بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة -1959، المقال الثاني، ص 40.
4-هاملتون، ألكسندر وآخرون: الدولة الاتحادية...، المرجع السابق، المقال الثالث، ص 41.
5 - هاملتون، ألكسندر وآخرون: الدولة الاتحادية...، المرجع السابق، ص 49.
6-هاملتون، ألكسندر وآخرون: الدولة الاتحادية...، المرجع السابق، ص 93.
7-كان مساعد الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن، ومؤسس الحزب الاتحادي.
8 - الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأميركية، يؤمن بالحكم الشديد الذي يستند على ارستقراطية قوية، ويناصر اللامساواة بصورة عميقة، ونزعته الليبرالية ارستقراطية ومحافظة.
9-الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية (1801-1809)، وهو أحد مؤسسي الحزب الديمقراطي الأميركي.
10- توشار، جان: تاريخ الأفكار...، المرجع السابق، ص ص108-110.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية


.. إسرائيلي يستفز أنصار فلسطين لتسهيل اعتقالهم في أمريكا




.. الشرطة الأمريكية تواصل التحقيق بعد إضرام رجل النار بنفسه أما


.. الرد الإيراني يتصدر اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية




.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن