الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: مستهل الفصل السادس عشر

دلور ميقري

2020 / 10 / 27
الادب والفن


1
اكتشاف فَدو للبقعة الشبيهة بالجنة، " الدايرة "، بأنها بمثابة جزيرة، جرى إتفاقاً. ذات ظهيرة صيفية، وكان ما زال يعمل معاوناً لشقيقه الكبير، حسينو، الملاحظ للنواطير، خطرَ له أن يتابع سيرَ الجدول، الثر المياه، المنحدر من نهر يزيد في منطقة الجوزة، الواقعة جنوب الحارة. طافَ نظره في الأثناء على عدد كبير من البساتين، المروية من ماء الجدول، وكان قد بدأ يعرف أسماء أصحابها وما لو كانوا من ملّاكين الحارة أو من حي الصالحية، المجاور. بسبب المنحدر الوعر، المتسرب منه الجدول، كان تيار مياهه يندفع بقوة إلى الأسفل، محدثاً هديراً عذباً في الأسماع، يتماهى مع أصوات تغريد الطيور وخوار البقر وصهيل الخيل وطنين الهوام. رائحة حرّيفة، كانت تملأ أنفه طوال سيره بمحاذاة الجدول، وربما لما حفل به من أشنيات فضلاً عن الكائنات المائية؛ مثل الثعابين والسلاحف والسراطين والضفادع والأسماك الدقيقة الحجم. الأشجار، كانت تظلل جانباً كبيراً من الجدول، علاوة على أعواد القصب، المتبدية مع أوراقها الطويلة كالرايات الخضراء. ثمة، من فوق تلة صغيرة، مسكونة بمختلف أنواع الأزهار البرية، أشرفَ على مصب الجدول، المنتهي بالنهر نفسه في جريانه نحو منطقة البدوي في شرق الحي، المفروشة بكروم العنب والزيتون والرمان والتين والصبّار.
ذلك المستكشف، الذي ورثَ وظيفة ملاحظ النواطير، عوّل مرةً على رجال العصابات في الحي على أثر مماحكة بينه وبين الملّاكين الصوالحة. القصّة، استهلت بما رآه هؤلاء من شمول الأمن والاطمئنان في مزارعهم، الواقعة إلى الجنوب من الحارة؛ أي في منطقة الدايرة نفسها. فاستدعوا الملاحظ ذات يوم، ليبلغوه بقرارهم صرفَ النواطير لانتفاء الحاجة إليهم. فهم حالاً، ودونما سؤال، أنهم استغنوا أيضاً عن وظيفته. صلاحو، حفيد شقيقه الأكبر موسي، كان وقتئذٍ قد عاد من عمّان نهائياً، ليتورط في أعمال مخالفة للقانون؛ كتهريب المخدرات والاشراف على المقامر وتنظيم عمل الدعارة. طلبه عمُ أبيه، وأفهمه المهمّة المنوطة به. في مساء اليوم التالي، هرعَ البعضُ من أولئك الملّاكين إلى منزل فَدو، لمناشدته العودة إلى عمله مع مرؤوسيه النواطير: الملاحظ السابق، كان في الليلة السابقة قد أوعز لقريبه أن ياخذ عدداً من أفراد العصابات لغزو البساتين ونهب غلالها وسلب ما تيسّرَ من الماشية والدواب!

***
أحد النواطير، المتولين حراسة بساتين الدايرة، كان معروفاً بلقب " عبد الليل ". كان من أهالي زقاق حج حسين، يعيش في منزل كبير في صدر دخلة " مرعي دقوري "، يتقاسمه مع شقيقه الوحيد. هذا الشقيق، خلّفت له امرأته الراحلة ابنة، وكانت خفيفة العقل، تدعى " فاطو ". الآخر، كان أيضاً أرمل، ولابنه الوحيد عاهة بدَوره؛ ولو أنه ابتليَ بها عندما كان كبيراً نوعاً ما. كان اسمه " رعد "، توفيت أمه في صغره وكان متعلقاً بها بشدّة. كانت بمثابة الدرع، يحتمي بها من ثورات الأب، القاسي والظالم. مثل سائر غلمان الحارة، كان رعد مغرماً بالدايرة، وقد أوحت له سذاجة تفكيره الاعتقاد أنها ملك أبيه؛ وكان يتفاخر بذلك أمام أقرانه. برغم تشديد الوالد، كان يقضي ساعاتٍ من النهار في جولات لا تهدأ في أنحاء جنّته. الوالد كانت مناوباته الليلية، تضطره للنوم كل فترة الصباح، وذلك عقبَ العودة إلى الدار عند الفجر. ذات يوم، أمسك بالابن العاصي للأوامر، فانهال عليه ضرباً بعصا. إحدى الضربات، لسوء الحظ، سقطت على جبين الغلام، فسببت له العمى تدريجياً. منذئذٍ، أضحى رعد في غاية العدوانية تجاه والده، بحيث تُرِكَ يفعلُ ما يحلو له. لم يتعلم أي صنعة، وكان أمله أن يرثَ مهنة حراسة البساتين؛ لولا تلك الحادثة المشئومة.
كان لرعد بصيرة مدهشة، بحيث أن كثيرين شككوا بعماه. كأن يقف في أسفل الزقاق عند الجادة، رافعاً رأسه إلى الأعلى، متخيلاً أسراب الحمام، بينما أصحابها يلوحون لها من على أسطح دورهم مع صفير مميز. على حين فجأة، يصرخ رعد: " إنه الطائر البربريسي، دخل بالخطأ في سرب فلان! ". عندما يدقق بعضُ المتواجدين، العارفون بأصناف الحمام، فإنهم يؤكدون كلام الفتى الضرير بمزيدٍ من الدهشة. إلى ذلك، كان ماهراً باصطياد الثعابين، فيعود للحارة ظهراً وهوَ يجرّ إحداها وعنقها بقبضته فيما ذيلها يتلوى. كون حياته باتت كلها ظلاماً، أعتاد على الخروج ليلاً إلى البقعة المشجّرة، بأسفل الزقاق، المسماة " رَزي آني "، ليجلس على ضفة النهر. ولأنّ المكانَ مسكونٌ، بحسب اعتقاد الناس، كان بعضهم يجزم أن رعد تآخى مع الطيف. في المقابل، لم يتخذ أيّ صديق؛ لكن هذه، كانت شيمة والده وعمّه أيضاً. مع ذلك، كان إنساناً ودوداً ومسالماً، قلّما تدخل فيما لا يعنيه. أكثر ما كان يثيره حد إطلاق الشتائم، أن يصرخ بها فتىً أرعنٌ: " رعد، خطيبتك فاطو تنتظرك ". من هذه الناحية، لم يسمعه أحدٌ قط قد تكلم عن الجنس الآخر، وكما لو كان يجهل وجوده. لعل فقدانه والدته وهوَ أحوج ما يكون إليها، جعله على هذا الجفاء بخصوص سيرة الإناث.

2
ناطور آخر، كان من مرؤوسي فَدو. إنه الرجلُ المدعو " حَرْحَش "، وتميّزَ بالوسامة مع بعض السذاجة. كان لسانه ثقيلاً، كمن يعتني بانتقاء المفردات. لقد دأبَ على الشكوى لرئيسه من معاملة امرأته وقسوتها، وكانت هذه في ريعان الصبا وفائقة الحُسن. لم يرزقا بذريّة، ما ضاعف من التوتر بينهما. لكن سخطها كان مركّزاً على الناحية المعيشية، وكانت تحثّ رجلها على تدبير عمل آخر غير حراسة البساتين. مرات عديدة، ركلت برجلها صناديق الخضار والفاكهة، التي كان الزوج يحصل عليها مجاناً من قبل الملّاكين: " أريدُك أن تأتيني بالمال لا بهذه النفايات! "، كانت تصرخ في كل مرة بغضب وحنق.
أخيراً، اضطر حرحش لترك حراسة البساتين ليعمل بالفاعل مع معلّم من الحارة. لم يمضِ شهرٌ على بدئه العمل إلا ودهمته مصيبة. وقعت على رجله طوبة ثقيلة، وهناك في المستشفى أبلغوه بضرورة قطعها لأن الغنغرينا انتشرت فيها. قبيل موعد العملية، فر من المستشفى بالبيجاما كالممسوس. هُرع إلى البستان ليقابل معلّمه القديم، باكياً كالأطفال، يجر قدمه المعطوبة. فحاول فَدو تهدئته، ثم نصحه بالعودة إلى المستشفى لإجراء العملية كيلا ينتشر المرض إلى باقي أعضاء الجسد. بعد نحو شهر، انتبه ملاحظُ النواطير لقدوم شخصٍ متكئٍ على عكاز، ليتعرّف فيه على مرؤوسه السابق. كان هذا الأخير ما فتأ بالبيجاما، وقد طويت من ناحية القدم المبتورة بوساطة دبّوس. لقد تغيّرَ المسكينُ، فَلاحَ كرجلٍ عجوز، متهدّم، تغلغلَ الشيبُ في رأسه وغطت الغضونُ سحنته. جلسَ بجانب معلّمه القديم عند تلة صغيرة، مشرفة على الجدول، وراحَ يتنهد ويتأوه. قال بحرقة: " أرأيتَ ما فعلته بي، ابنة الحرام؟ ". ربتَ فَدو على كتف الرجل، مُداعباً إياه بالقول: " الآن، لم يعُد لها حجّة كي تطالبك بالعمل. وإذاً فكُلْ واشربْ وضاجع، قمْ واجلسْ وضاجع!! ".

***
في منزل فَدو، كانت هناك أيضاً امرأة شرسة لكن دونَ جمال زوجة حرحش. مزيّن، أصبحت معاشرتها لا تطاق. هيَ المحرومة من ذرية، دأبت على محض كراهيتها لأبناء أخيه جمّو، وكانت كبراهم في السادسة من عُمرها. لكنها كانت تتكلّفُ الشغف بهم، وبالأخص بتلك الكبيرة. ذات مساء، وكانت مزيّن مع رجلها في سهرةٍ لدى أسرة شقيقه، طلبت من ابنته الكبيرة بنبرة ودودة أن تمضي لتبيت معها. عقبَ خروجهم، قالت بيان لزوجها: " أراهنُ على أنّ البنتَ ستعود إلينا بعد قليل، باكيةً؛ ماذا تقول أنتَ؟ ". ضحك جمّو، ولم يُجب بشيء. وقد صدق ما توقعته الأم، لما رجعت الصغيرة إليها وهيَ تنشجُ قائلةً: " ضربتني لأنني دستُ على السجادة بحذائي، ثم قام عمي بضربها! ".
بيان، كانت قد وضعت في ذلك العام البنتَ الرابعة، وما أسرعَ أن انتفخَ بطنها بحملٍ جديد. صادف ميلادُ الابنة الرابعة احتفالَ نادي الحي، ( عاد للنشاط تحت اسم آخر )، بالذكرى العاشرة لتأسيس جمهورية مهاباد. لذلك أعطيت المولودة اسمَ الجمهورية الكردية، الموؤودة بسبب تضارب مصالح الدول الكبرى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. في هذا العام، خشيَ الناس في أرجاء المعمورة من تفجر الحرب العالمية مجدداً، وذلك على خلفية حرب السويس. تأميم القنال، وما أعقبه من عدوان ثلاثيّ، أجج حماسة السوريين تضامناً مع أشقائهم المصريين. على الأثر، طالب الكثيرُ من المنتسبين للمقاومة الشعبية بالذهاب إلى جبهة السويس، كما وعمت المظاهرات العاصمة ومعظم المدن الكبيرة. صارَ اسمُ " ناصر " على كل لسان في البلد، مع أنه قبل عامين كان يُشبَّه من لدُن السياسيين السوريين بالديكتاتور المدحور، الشيشكلي.

***
غبَّ حل أزمة السويس، بتدخل من الروس والأمريكان، تعززت العلاقات بين سورية ومصر. إلى هذه الأخيرة، بدأت الوفود تتقاطر من الأولى، كما وأرسل العسكريون إليها لتبادل الخبرات. العقيد محمد زلفو، صديق عُمر جمّو، كان ضمن بعثة في دورة قيادة وأركان في القاهرة. الدورة ومكان الإقامة، كانت في ضاحية مصر الجديدة ( هليوبوليس )، التي تبعد عن العاصمة بنحو عشر كيلومترات. بعد فترة، حضرَ وفد برلمانيّ سوريّ وكان على رأسه الزعيم الشيوعيّ، خالد بكداش. ثمة، شاء هذا رؤيةَ محمد زلفو، الذي كان من أبرز ضباط المجموعة التقدمية في الجيش. أبلغوه بعدم وجود مواصلات إلى تلك الضاحية، غير تلك العسكرية، وأن عليه انتظار سيارة مخصصة للوفد. لما تأخرت السيارة، ما كان من الزعيم إلا الذهاب مشياً تحت شمس الصيف الحارقة، ليلتقي مع مريده المخلص.
ثلاثة أعوام على الأثر، لما عارض الشيوعيون الوحدة، اتفقَ أن الزعيمَ ومريده كانا في المنفى التشيكيّ بنفس الفندق بمدينة براغ. لكن خالد بكداش، المعروف بعدم وفائه حتى لأقرب الأصدقاء، لم يجد وقتاً لمجرد القدوم لتحية ذلك الضابط المخلص.

* الرواية الأخيرة من خماسية " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق


.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع




.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر