الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مفهوم التربية

عز الدين بنموسى

2020 / 10 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تمهيد:
تعد التربية من المواضيع التي حظيت باهتمام الكثير من الكتاب والباحثين منذ العصر اليوناني القديم إلى اليوم، نظرا لأهمية هذا الموضوع ودوره الفعال في تنشئة الأجيال الجديدة، ويقصد بالتربية Education في اللغة العربية كما جاء في معجم المعاني الجامع فمصدر التربية ربى. سهر على تربية ابنه تربية سليمة: أي تهذيبه وتعليمه ووتنشئته. وهو سيئ التربية أخلاق سيئة. يهتم بتربية الحيوانات والنباتات: أي برعايتها ومساعدتها على النمو والانتشار. أما في الاصطلاح فقد جاء في المعجم الفلسفي لجميل صليبا بأن التربية هي تبليغ الشيء إلى كماله، أو هي كما يقول المحدثون تنمية الوظائف النفسية بالتمرين حتى تبلغ كمالها شيئا فشيئا، تقول: ربيت الولد إذا قويت ملكاته، ونميت قدرته، وهذبت سلوكه، حتى يصبح صالحا للحياة في بيئة معينة. وتقول تربى الرجل إذا أحكمته التجارب، ونشأ نفسه بنفسه. ومن شروط التربية الصحية أن تنمي شخصية الطفل من الناحية الجسمية والعقلية والخلقية، حتى يصبح قادرا على مؤالفة الطبيعة، يجاوز ذاته، ويعمل على إسعاد نفسه، وإسعاد الناس.
وقد تمثل اهتمام الكتاب بموضوع التربية من خلال تقديم هؤلاء الفلاسفة لنظرياتهم حول الموضوع بدءا من أفلاطون Platon (428 ق.م_348 ق.م)، مرورا بجون جاك روسوا jean jack Russo (1778_1712)عبر كتابه الشهير الموسوم ب "إميل" أو في "التربية"، وصولا إلا الفلاسفة المعاصرين أمثال جون ديوي وبيرس رائدا الفلسفة البراغماتية، ونحن عبر هذه الورقة سنحاول أن نسلط الضوء على النظرية الأفلاطونية في التربية ونرصد أهم ما جاء بها. إذن، ما هو المؤلف الذي خصصه أفلاطون للحديث عن هذه القضية ؟ وكيف تمثل أفلاطون التربية ؟ وما هي غايته من الحديث عن هذه القضية ؟ وما هي أهم النقاط التي جاءت في النظرية الأفلاطونية حول التربية ؟
المؤلف الذي وردت فيه قضية التربية:
تعتبر الجمهورية الكتاب الذي ورد فيه نظرية أفلاطون بخصوص التربية، وقد كتب الجمهورية على شكل محاورات والمحاورة هي صنف أدبي كما يتضمن شخوصا وأحداث وأزمنة وأماكن، وقد أخبرنا ألكسندر كويري في كتابه "مدخل لقراءة أفلاطون" بأن المحاورات الأفلاطونية كانت تمثل في العصر الروماني.
أما بخصوص الموضوع الرئيسي للجمهورية هو نظرية العدالة، حيث حاول سقراط باعتباره المحاور الرئيسي في الجمهورية، كما في مجموعة من المحاورات الأفلاطونية الأخرى، أن يبحث عن تعريف ماهوي للعدالة يمكن الأفراد من أن يكونوا فضلاء من الناحية الأخلاقية والسياسية، بمعنى تحقيق جو عام سياسي يسوده السلم والهدوء.
وأثناء بحث أفلاطون للعدالة تطرق إلى مجموعة من المواضيع التي تلامس هذا الموضوع، ومن بينها الموضوع الذي سنلقي عليه الضوء في بحثنا هذا أي التربية، ومن بين تلك المواضيع نجد: الفن، والشعر الهوميري...
ويتضمن كتاب الجمهورية عشر مقالات أو كما كان يسميه العرب القدامى عشر كتب، إلى جانب سقراط يحضر كل من جلوكون بن أرستون أخو أفلاطون والعجوز كيفاليوس وابنه أديمانتوس، كما يحضر أحد السفسطائيين المشاهير وهو ثراسيماخوس الذي يعد الخصم الأهم لسقراط في هذه المحاورة، ونلاحظ حضور كل من بوليمارخوس وكلاتيوفون.
نظرية أفلاطون في التربية:
في غمرة بحث أفلاطون عن الدولة العادلة باعتبارها المؤسسة القادرة على احتضان مواطنين عادلين، يدرج أفلاطون نظريته حول التربية، وهكذا، فمنذ الكتاب الثاني من الجمهورية يبدأ فيلسوفنا على لسان سقراط في بلورة نظريته، حينما يتحدث عن تعليم الحراس، مسألة لا يمكنها أن تتم إلا من خلال إبعادهم عن الأساطير التي تجعل تربيتهم فاسدة.
ويرى أفلاطون أن للتربية دور كبير في الدولة، فلا شك أن بحث هذه المسألة يلقي ضوءا على المشكلة الكبرى [...] أعني كيف تنشأ العدالة والظلم في الدولة.
ومنه فإن أفلاطون يصرح بكل وضوح أن للتربية دور أساسي في بناء الدولة العادلة، فكيف تكون هذه التربية يا ترى ؟ وما هي أهم معالمها؟
يأتي الجواب سريعا على لسان سقراط، المحاور الرئيسي في الكتاب، فيبين أن البداية ينبغي أن ترتبط بالتعليم الموروث الذي جرت عليه عادة العصور الغابرة، وهو الرياضة للبدن والموسيقى للنفوس.
نلاحظ هنا أن التربية لا ترتبط فقط بالفكر وإنما أيضا بالجسد، وكما يقول القول المأثور: العقل السليم في الجسم السليم، بل الأكثر من ذلك فقد فطن أفلاطون بمسألة أن ذوي الأجساد العليلة يكون كل همهم هو التفكير في علتهم الجسمية، هم عند هذا الفيلسوف يشكلون عالة على الدولة، كونهم غير قادرين على إفادتها بأي شيء ما داموا سيضيعون جهدهم في التفكير في مشاكل جسدية قد لا يكون لها حل، والحل هو في تجنب تلك العلل من الأساس أمر لا يمكنه أن يتم، حسب فيلسوفنا، إلا عبر التربية البدنية، التي فائدتها تتعدى ذلك ما دام أفلاطون يربي في دولته حراسا للعدالة وهم جنود الدولة وعلى الجنود أن يتمتعوا بلياقة بدنية وشجاعة.
أما المقصود بالموسيقى عند اليونان القدامى هو تثقيف الرجل وإكسابه قواعد تجعله شخصا متحضرا وعدم تركه فريسة للهمجية والطبيعة المحضة، وهذا ما يخبرنا به أحد الفلاسفة الأفلاطونيين ألا وهو ألكسندر كويريه.
وقفد كان أفلاطون سباقا لمسألة سيقول بها علماء النفس أمثال فرويد الذي صرح قائلا بأن الطفل أبو الرجل، بمعنى أن التربية التي تلقاها الإنسان في نعومة أظافره تؤثر على تكوين شخصيته، ورصد السبق الأفلاطوني من خلال عبارته الآتية: وأنت تعلم أن البداية هي أهم جانب في كل عمل، ولسيما إذا تعلق الأمر بكائن صغير رقيق، إذ أن ذلك هو العهد الذي تتكون فيه الشخصية وينطبع ما نريد إحداثه فيه من التراث.
ثم يشدد أفلاطون على مسألة استبعاد القصص الخيالية المفسدة للشباب عبر فرض رقابة الدولة على الفن، لأن هذا الأخير ينبغي أن يكون في خدمة الدولة، وقد حظيت هذه الدعوى الأفلاطونية بصدى عند مجموعة من الدول الديكتاتورية حينما فرضت رقابة على الفنون ورسمت للفنانين خطوط وجب عدم تجاوزها وكأن للإبداع حدود !
لكن كي لا نفهم أفلاطون بشكل مغلوط، فإن هدفه كان نبيلا حتى لو أدى إلى نوع من الرقابة الدكتاتورية، لأنه كان يطمح إلى استئصال تلك الأفكار الخطيرة التي تحكي عنها الأشعار الهوميرية من أن الآلهة تتقاتل فيما بينها وتتناحر فقد ورد في الإلياذة ما يلي:
جميع الأبناء الذين ولدوا
من الأرض والسماء،
أبناء مخيفون،
يضمرون حقدا كبيرا
على أبيهم. هو الذي
عمد فور ولادتهم
إلى إخفائهم
ـ سادّا عليهم كل طريق إلى النور ـ
وإذا كان الأمر كذلك فيحق لأفلاطون أن يستبعد هذا الأساطير التي تدعو الشباب إلى عقوق آبائهم، مادامت الآلهة نفسها تقوم بذلك، وهذه في رأي العقلاء تربية فاسدة، لأن الإله وجب أن يكون مثالا للخير والبشر وجب أن يقتضوا به.
ومن الأمور التي حرمها أيضا أفلاطون على مواطني دولته، إضافة إلى ما ذكرنا من تداول لأساطير تقاتل الآلهة، الكذب وعده جريمة كبرى، لكنه استثنى الدولة من هذا الاستبعاد إذ اعتبر بأنها هي وحدها التي يحق لها الكذب على المواطنين إن بدى لها في كذبها مصلحة عامة، وإهم كذبة ينبغي أن تشيعها الدولة بين الشباب أثناء تلقيهم للتربية هي أنهم إخوة وجدهم المشترك هو الأرض، حتى إن مر الزمن ترسخت هذه الفكرة في أفئدة المواطنين وعدة حقيقة، سيكون لها منافع شتى ليس أقلها تعاضد أفراد المجتمع وحب الخير للكل.
ولم يتطرق أفلاطون للشعر وفقط بل ارتأى أن هناك إيقاعات جيدة أخرى مفسدة للتربية، فإما الأولى فهي تلك التي تستخدم لرفع الهمم أثناء الحروب والاحتفالات، وأما الثانية التي بها حزن ومآسي فتؤثر على المشاعر وتجعل الفرد أسير انفعالات إذ أنها تضعف رقابة العقل، لذا فإن الحل هو الإبقاء على الأولى واستبعاد الثانية.
ونلاحظ أن أفلاطون يحتفظ بالنسبية في الحكم على نجاح التربية من عدمها إذ أنه يدرك جيدا أننا نتحدث عن البشر وليس عن حديد يسقل أو خشب ينشر، لذلك يصرح سقراط في رده على سؤال جلوكون بخصوص مدى صلابة التعاليم التي سيتلاقاها حراس المدينة الفاضلة، بأنه ليس لدينا من الأسابا ما يكفي لتأكيد ذلك يا عزيزي جلوكون، وغاية ما نستطيع ان نؤكده هو، كما قلت منذ برهة، أن التعليم السليم، أيا كان، هو أفضل سبيل لجعلهم يعاملون بعضهم بعضا، ويعاملون من يتولن رعايتهم، بالحسنى.
بعد التربية المبنية على الرياضة والموسيقى، تنتقل نظرية أفلاطون إلى الحديث عن مستوى آخر من التربية مبنية على تعليم الحراس العلوم كمرحلة تحضيرية لتلقينهم الفلسفة باعتبارها حسب هذا الفيلسوف آخر ما يمكن أن يلق للتلاميذ، كون الدياليكتيك هو قمة التجريد ويتطلب مرانا عقليا يبدأ من المشخص إلى المجرد.
وتتخلل هذه العملية في التربية والتعليم اختبارات تحتم على الراسبين الالتحاق بالعوام، وعلى الناجحين إتمام مشوار التكوين، حتى إن هم استوفوا جميع المجالات تأتي مرحة أخيرة وهي جعلهم يخالطون الشعب كي يكونوا قريبين من نبض المجتمع على أن يبدؤوا في تقلد مناصب الحكم بالتناوب حينما يصيرون شيوخا ويراكموا من التجربة الشيء الكثير.
ما يمكن استفادته من الدرس الأفلاطوني في التربية:
إن أهم ما يمكن رصده والاستفادة منه عبر الدرس الأفلاطوني في التربية والتعليم هو مراعاته لعملية التدرج فهو لم يقدم كل دروسه للنشء دفعة واحدة بل راعى أن التلقين ينبغي أن يتماشى والنمو العقلي للتلاميذ وهذه مسألة جد مهمة يؤكدها علم النفس النمائي في زماننا هذا.
أيضا يحسب لأفلاطون أنه حثنا على عدم تقديم دروس الفلسفة للتلاميذ إلا خلال مرحة عمرية معينة يكون التلميذ قد نضج فكل مجازفة بتقديم ذلك الدرس في مرحلة مبكرة من شأنه أن يؤدي بالنفوس إلى النفر من الحكمة.
مسألة أخرى لها أهمية كبيرة أشار إليها فيلسوفنا وهم تعدد الذكاءات حينما صنف البشر إلى ذهب وفضة ونحاس، إذ أنه بين أنه ليس هناك مساواة في الطبائع والعقول بين الناس، لذا وجب على كل بيداغوجي أن يضع نصب عينيه هذه القضية أثناء كل عملية تربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. زراعة الحبوب القديمة للتكيف مع الجفاف والتغير المناخي


.. احتجاجات متزايدة مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية




.. المسافرون يتنقسون الصعداء.. عدول المراقبين الجويين في فرنسا


.. اجتياح رفح يقترب.. والعمليات العسكرية تعود إلى شمالي قطاع غز




.. الأردن يتعهد بالتصدي لأي محاولات تسعى إلى النيل من أمنه واست