الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دوامة الأوراق

حامد تركي هيكل

2020 / 10 / 28
الادب والفن


قال له صديقه "مهم جدا أن تكون بحوزتك شهاداتك كلها، حاول أن تحصل عليها، تترجمها، تصدّقها حسب الأصول قبل أن تخرج من البلاد". هو ينوي الهجرة من هذه البلاد التي ما عاد يحتمل وجوده فيها. عليه أن يراجع الكثير من الدوائر الرسمية اذن. وأن يحصل على الكثير من الأوراق. تباً!
يشاهدهم غالباً وهم يقفون واجمين في طوابير، كل منهم يمسك كيساً يحتوي العديد من الأوراق، ينتظرون دورهم ويتمنون الا يطلب أحدٌ منهم ورقةً ليست بحوزتهم. هذه قديمة إذهب واستخرج واحدة جديدة. قال الموظف المتجهم الوجه الجالس خلف الزجاج لأحدهم. يصير العالم حالك الظلمة بعينيّ الرجل. فقد فُتح للتوّ أمامه بابٌ من عذاب جديد، ممرٌ آخر من ممرات المتاهة.
الجالسون وراء الزجاج هناك غالباً ما يفصلنا عنهم لوح زجاجي فيه فتحة صغيرة. فتحة تربط الداخل المكيف الهواء حيث هم، والخارج الحار الجاف صيفأ والبارد الممطر شتاءً كما قيل لك في درس الجغرافية، حيث أنت. فتحة واطئة عليك أن تنحنى، بل تتكور لتجعل وجهك قربها من أجل أن تسمع ما يقول لك رجل الدولة المتجهم. هو لا ينحني ولا يقترب من الفتحة، بل أنت عليك فعل ذلك. لماذا لم يجعلوها بمستوى رأسك؟
رجل الدولة يدقق أوراقك، وهو الذي يقرر ما إذا كانت صحيحة، كافية، نافذة الصلاحية أم لا. وهو الذي يضع على أوراقك توقيعه، وختمه الأثير، و يمنحك مباركته. أما أنت فعليك أن تحمل تلك الأوراق وتسعى. تماما مثل ما كان يسعى أسلافك وهم يحملون نذورهم الى المعبد. عليك أن تصعد درجات الزقورة حتى تتقطع أنفاسك، ويجفُّ حلقك، وتوشك على البكاء من الإعياء، ولا تصل الى المعبد. فالمعبد لا يصل اليه مثلُك. ربما يوجد هناك مردوخ، أنليل، أنانا، أدد. غاية مُناك أن تضع نذورك بيد صغار الكهان. وتتمنى أن يتم قبولها.
كم ورقة رسمية عليك أن تحمل؟ كم تميمة؟ كم نذر؟ كم ورقة يمكنها أن تثبت أنك سليم؟ وموالي، ومن الرعية الذين دفعوا ما عليهم من نذور. هوية أحوال مدنية، شهادة الجنسية، بطاقة السكن، البطاقة التموينية، تأييد المختار، تصريح أمني، شهادة صحية تؤيد خلوك من الأمراض السارية والمتوطنة والانتقالية والأيدز والكورونا. بطاقة توصية من أحدهم، شهادات تثبت أنك قد اشتركت بكل الأيام والمهرجانات والأعياد، وحضرت عيد جزّ الصوف. وكل تلك الأوراق عليك أن تقف بالطابور صاغراً للحصول عليها. وستكون ضرورية لاستخراج أوراق أخرى. هي دوامة من الأوراق.
تشعر بضآلتك وصغر شأنك. وجودك يزعج كهنة المعبد. ماذا تريد؟ استخراج نسخة من شهادة تخرجك من المرحلة الابتدائية قبل أربعين سنة؟ يا لك من وقح! أين نجد لك ذلك؟ أتعلم كم مرة تم إحراق السجلات في الاحداث التاريخية التي جرت من أجلك والتي غيَّرت وجه العالم؟ أنت نائم.
تبدو الأبنية كئيبة، والممرات ضيقة، والهواء فاسد. وريقك مرّ. ترغب بالعودة الى البيت. تريد أن تنسى هذا الطلب. انتظر هناك. تنحَّ جانباً. اذهب اليوم وتعال غداً. الموظفون ذوو الوجوه المعدنية، هل يكرهونك؟ هل أنت مزعج الى هذا الحد؟ هل أن طلبك سخيف ومستحيل الى هذا الحد؟ اذهب الى بيتك، اخرج من بيت مردوخ الطاهر أيها الموبوء والا حل عليك غضبه.
في الليل تفكر بطرقة تطفيء فيها غضب الكهنة. وفي اليوم الثاني تأتي بصديق يعرف المدير، كاهن متقاعد كان عضواً في مجلس الكهنة. لا تحتاج لارتقاء درجات الزقورة وصولا الى المعبد الذي يتربع على القمة هناك في السماء الدنيا. بامكانك أن تستخدم مصعد المدير العام، ذلك المصعد المعدني الصقيل والسريع ذا الحركة السلسة. تبدو الوجوه محبّة، والبنايات جميلة، والممرات مهوّاة ومشمسة وذات رائحة عبقة. تفضل استريح استاذ، أهلاً وسهلاً. صار، نحن بخدمتك. تشعر وكأنك دخلت في الملكوت، مطمئناً، راضياً، مرضياً. هذا المعبد لك. هذا المبنى تم تشييده من أجلك. تكتشف أنك لا تستطيع أن تتوقف عن الابتسام. ما حاجتك لأوراق تساعدك في رحلة الهجرة؟ تفكر في نفسك، لماذا تريد أن تهاجر من وطنك أصلاً؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله