الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة نجمتين

راوند دلعو
(مفكر _ ناقد للدين _ ناقد أدبي _ باحث في تاريخ المحمدية المبكر _ شاعر) من دمشق.

(Rawand Dalao)

2020 / 10 / 29
الادب والفن


( قصة نجمتين )

قصة بقلم #راوند_دلعو

🦋 كان يا ما كان في قديم الزمان ، في ظلمةِ ما تحت البحار من عميق القِيعان ، حيث الزاويا المعتمة في دخاليج الكهوف و أخاديد الجروف و الوديان ... كان هناك نجمَتَا بحرٍ التقتا صدفة في قاع أحد الكهوف⭐ ، فتسامرتا تسامر اللهفة و الملهوف ، إحداهما ذهبية اللون فضولية مشاكسة ، و الأخرى حمراء بليدة ذات سجية هادئة مُعاكِسة ...

و في معرِضِ تجاذب أطراف الحوار ، و بعد الاطمئنان على الصحة و الرزق و الجوار ، قالت نجمة البحر الذهبية لصديقتها الحمراء البليدة :

《《 آه يا صديقتي إن الفضول يقتلني ، أريد أن أعرف طبيعة العالم خارج هذا الكهف المائي الذي وُجِدنا و أجدادنا فيه منذ القِدم ، يالحظّنا العاثر !ولدنا في أعماق البحر و سنموت في هذه الأعماق المظلمة !! آه كم أتمنى أن أزحف إلى الأعلى ، و أرتقي ثم أرتقي حتى أبلغ مدخل الكهف ، لعلّي أتحسس الموجودات خارجه ، فلا بد أن البحر كبير و فيه الكثير و الكثير !! 》》 .

فقالت لها النجمة الحمراء ببطء و بلادة :

《《 صدّقيني يا صديقتي ... لا شيء يهم ... فالخارِجُ كالدّاخل ... ظلام في ظلام في ظلام ... 》》

فقالت لها النجمة الذهبية :

《《 لا يا صديقتي ... أنا أحترم رأيك لكن لدي وجهة نظر أخرى ؛ إذْ كلّما وجّهتُ مِجَساتي نحو الكوّة العليا لمدخل الكهف ، استشعرتُ ظِلالاً متراقصة تختلف بتدرجاتها عن قتامة العتم الدَّكِين الذي يغمرنا في بطن الكهف ، لكأنها أنواع مختلفة من الظلام ، و من يدري ؟ لعلّها تكون بداية لعالم آخر مبهر ! 》》

فقالت لها النجمة الحمراء :

《《 إياك و مجرد التفكير في الزحف الانتحاري تجاه الكوة العليا ! ... فقد قال لي صديقي المرجان ذات مرة ، أن جدّهُ أخبره عن جَدّ جَدِّه أنّ نجمة بحرٍ حاولت الارتقاء مقتربة من كوّة الكهف ، فانقضّ عليها شيء أسود كبير ، و التهمها بلقمة واحدة ! 》》

فقالت النجمة الذهبية :

《《 يا إلهي ! مسكينة تلك النجمة ، يا لحظها العاثر !!! لقد خسرَتْ حياتها نتيجة اقتحامها للمجهول !

آه يا حسرتي ! يكاد يقتلني شغفي و فضولي و حبي للارتقاء و العلو ، فأنا لا أتوقف عن التساؤل عما يجري في الأعلى خارج الكهف ! تجتاحني آلاف الأسئلة ، لتصيبني بداء التفكير و كثرة الاستفهام ... أريد أن أعرف ... أريد أن أكتشف ... أريد أن أرتقي خارج هذا القاع المظلم اللعين !! 》》

ثم استطردت نجمة البحر الذهبية و قالت :

《《 تراودني يا صديقتي أسئلة غريبة باستمرار .... هل هناك كائنات أخرى خارج الكهف ؟ و إن وُجِدوا فكيف يزحفون ؟ ما نوع مجسّاتهم ؟ ما شكل أهدابهم و دسّاماتهم ؟ كم تبلغ أطوال أذرعهم ؟ ما نوع القيعان التي يلتصقون بها ؟ هل هي قيعان صخرية صلبة مثل قاع كهفنا ، أم أَنّ لها طبيعة مختلفة ؟ هل أخاديد جحورهم ضيقة كأخاديد كهفنا أم أنها أكثر رحابة و سعة ؟ كيف تعيش نجوم البحر خارج الكهف ؟

آه من فضولي الذي يكاد يقتلني !!! آه من رغبتي بمعرفة ما وراء هذه الكوة !!! 》》

💮 في زحمة تلك التساؤلات التي لا تنتهي ، تنهدت نجمتنا الذهبية من شدة الحيرة و الحسرة ، ثم استلقت حزينة محبطة في قاع كهفها العميق و شغفها يكويها بنار الفضول و لظى الرغبة في التعلم و الاكتشاف.

و بين زفرة و أخرى من زفرات الإحباط التي انتابتها ، مد حنكليس ظريف رأسه من جحر مجاور و قال :

《《 هيييه هيييه ، أنتِ أيتها النجمة الذهبية الساذجة ! لقد سمعتُ للتو بعضاً من ثرثرتك ، يا لك من نجمة فضولية مشاكسة ! لا بد أنك قد عذّبتِ أهلك كثيراً !! إذ لماذا تفكرين بهذه الطريقة الغبية ؟ لماذا تجلبين المشاكل لنفسك و تحملين السلم بالعرض يا صديقتي ؟ دعي الخلق للخالق و انظري إلى صديقتك النجمة الحمراء كم هي سعيدة في هذا القاع ، ها هي تزحف في باطن كهفنا بهدوء ، و تختبئ من المفترسات بين الصخور و الشقوق .... تأكل و تنام دون أن تكترث لبقيّة الأنام ، فعلامَ كل هذا الضجيج ؟

أنصحك يا حبيبتي أن تنزعي عن رأسك تلك الأفكار الشريرة و المغامرات الانتحارية الخطيرة ، و أن تعيشي حياتك بشكل طبيعي مثل باقي النجمات اللّاتي يستمتعن بالزحف في القاع ، و دعك مما وراء الكوة من مجهول قد يؤدي بك إلى الموت !!! 》》

فقالت نجمة البحر الحمراء بلهجة التعالي على صديقتها الذهبية :

《《 نعم ، كما قال عمنا الحنكليس الحكيم ، أم أنكِ تُشكِّكِين بحكمته و سداد رأيه ؟!!

انظري إليّ و تعلمي الهدوء مني ! فأنا أعيش حياة هادئة في القاع هنا ، لا أخالف أعراف نجوم البحر ، و لا شأن لي بما يحدث في الأعلى ... آكل مما تأكل نجمات البحر و ألتصق في القاع حيث يلتصقن ، فلماذا أُتعب نفسي بكثرة التفكير ؟
فما لي و لِلمخاطرة و اقتحام المجهول !

أما بالنسبة للعالَم الجديد الذي تتخيلين وجوده خارج الكهف ، فلن يفيدني اكتشافي له شيئاً ، و لن يضرني عدم اكتشافي له بأي شيء !!! بل على العكس تماماً ، إن محاولة اكتشافي لما وراء الكوة سيعرضني لمخاطر أنا بِغِنَىً عنها ، فلماذا أوجع رأسي بالتفكير ؟ فاسمحي لي بأن أقول لكِ بأنك مريضة ... م ر ي ض ة ... و أنصحك أن تطردي من رأسك هذه الأفكار السقيمة لتعيشي براحة و سلام !! 》

فقالت النجمة الذهبية و قد شعرت بالخجل :

《《 آسفة على إزعاجكم ، نعم أقدّر هذا الكلام و أحترمه ، لكن سامحوني أرجوكم ! فجمال المجهول يأسرني !!! أريد أن أعرف الحقيقة ، أريد أن أقتحم الماوراء ... أحلم بالوصول إلى تلك الكوة لأستشعر ما وراءها ! ... أحلم بالارتقاء و التحرر ، فالقاع هنا قد ازدحم بالظلام و الجثث و العفن و الروتين ! 》》

🐚 و مرت الأيام و نار الفضول تحرق النجمة المشاكسة بأُوارها ، إذ كلما زحفت نحو كوة الكهف جذبها خوفها من المجهول إلى بطنه مرة أخرى ....

و هكذا عاشت حياة التردد و الاضطراب ، يقودها فضولها و حبها للمعرفة نحو الكوة تارة ، ليعيدها خوفها إلى بطن الكهف تارة أخرى ، في حين التزمت نجمة البحر الحمراء بنصائح الحنكليس الحكيم ، فقيدت نفسها بمعايير الحياة النمطية المستقرة الهادئة ، و بقيت تزحف في بطن الكهف و تعيش بسلام في القاع ، تأكل و تختبئ و تنام مثل بقية نجوم البحر ....

🦈 و في يوم من الأيام ، وجدت النجمة الذهبية نفسها وحيدة و قد شعرَت بطاقة غامرة تفيض بها و تقودها لاشعورياً نحو الكوة ، فأجمعت قواها و بدأت تزحف بأقصى ما تملك من قوة محاولة الوصول إلى الأعلى لتخرج من الكهف !!

و بعد زحفها الطويل المتواصل على جدران الكهف ، تمزق نصف جسدها نتيجة للنتوءات الصخرية النافرة من الجدران ، لكنها نجت بأعجوبة من كل المفترسات على الطريق ، و ها هي تبلغ مدخل الكهف بعد عناء طويل ، و قد أرهقها التعب و آدَّهَا الإعياء ، فاستجمعت ما تبقى من قواها تريد أن تقفز خارج الكهف ...

و فِعلاً ...

هووووووب ..... !

قفزت النجمة الذهبية خارج الكهف مقتحمة تلك الظلال التي كانت تتراقص مع أمواج البحر !

و فجأة !!! تحولت النجمة الممزقة المنهكة إلى سمكة ذهبية 🐠 ذات جسم انسيابي مغزلي في قمة النشاط و الحيوية !! فذُهلت السمكة الذهبية مما حدث لها ، و طار عقلها فرحاً ! فأخذت تسبح في جميع الجهات ، محاوِلة اكتشاف رحابة البحر و الاستمتاع باللحظات الأولى للتحرر من ظلمات القاع.

□□□

لم تكتفِ السمكة الفضولية بذلك ، بل راحت تحقق حلمها بالارتقاء و العلو من خلال السباحة إلى الأعلى ثم الأعلى ثم الأعلى .... و هكذا ارتفعت ثم ارتفعت ثم ارتفعت حتى لمحت سرباً عظيماً من الأسماك الراقية التي تسبح في فضاء البحر الواسع ، فانضمت بهدوء إلى السرب !

و بعد فترة من الزمن ، نظرت السمكة الذهبية إلى الأعلى كعادتها و دَيدَنَها ، فلمحت سطحاً متموجاً يأخذ العقل جمالاً و انسيابيّة و هيبة ، لكنها لاحظت عدم قدرة الأسماك على تجاوزه !!! فما السِّرُّ وراء ذلك ؟

و هكذا عاد فضولها ليفرض نفسه على تصرفاتها و مشاعرها ، فسألت بعض الأسماك في الجوار عمن يعرف حقيقة هذا السطح الذي لا تجرؤ أي سمكة على تجاوزه ، فقيل لها :

《 اذهبي إلى قداسة كاهنة الأسماك ، فعندها سر الأسرار و إكسير التفسير ، كما أنها تحفظ الكتاب المقدس الذي يحوي كل شيء عن كل شيء !》》

فبحثت السمكة الذهبية عن كاهنة الأسماك 🐡 ... إلى أن وجدتها في المعبد البحري الأعظم ، تتوسّطُ مجموعة من المريدات اللائي يقمن على خدمتها و تنظيف زعانفها ...

فاستأذنت و انسلّت إليها لتسألها عن هذا السطح المتموج العظيم ، فقالت لها الكاهنة :

《《 إنه سطح البحر يا بُنَيَّتي !! إنه نهاية عالمنا و منتهى حدودنا.

حذار حذار !!! فمن دنا منه احترق و من تجاوزه مات و اختنق ! 》》

صعقت السمكة الذهبية و أصيبت بالحزن و الإحباط عندما سمعت هذا الكلام ... يالحظها العاثر ! فاختراق المجهول محظور في كل الأعراف و المجتمعات !!! لقد عاد الفضول ينتابها و التساؤل يجتاحها !!!

فقالت السمكة الذهبية لكاهنة الأسماك :

《《 آه يا قداسة الكاهنة ، كم أتمنى أن أخترق سطح هذا البحر لكي أعرف ماذا يوجد خارجه ، إذ كلما نظرت إلى أعلى اشتعلتُ شغفاً و رغبةً بمعرفة ما وراء السطح ... ! 》》

فقالت لها كاهنة الأسماك :

《《 أنصحُكِ أن لا تحاولي يا صغيرتي ، لا تكسري الأعراف و لا تتجاوزي التقاليد ، إذ لو كان في الأمر فائدة لَفَعلَتْهُ الأسماك قبلنا.

لقد قالت لي جدتي أن جدتها أخبرتها عن سمكة حاولت اختراق سطح البحر لعلّها ترى ما فوقه ، فاحترقت .... !! 》》.

فقالت السمكة الذهبية :

《《 يا إلهي كم هي مسكينة تلك السمكة ! لقد خسرَت حياتها نتيجة اقتحامها للمجهول !

آه يا قداسة الكاهنة آه ، لا أدري ماذا أقول لك !؟ لكن الفضول يقتلني !

كم أتمنى أن أخوض التجربة ، أريد أن أعرف ماذا يوجد فوق سطح البحر مهما كلفني الأمر !! أريد أن أعرف طبيعة عالم ماوراء السطح ، كيف يسبحون ؟ ما هو شكل زعانفهم ؟ ما هو نوع الماء الذي يبتلعونه ؟ كيف يختبؤون من المفترسات ؟ كيف يتكاثرون ؟ ما شكل غلاصمهم و ذيولهم ؟ 》》

🐙 وصلت شظايا الحوار الذي دار بين كاهنة الأسماك و السمكة الذهبية إلى أخطبوط يتعبّد في الركن المجاور ، فاقتحم المشهد مقاطعاً :

《《 هييه هيييه ... أنتِ أيتها السمكة الذهبية المشاكسة ! ... يا لك من سمكة عنيدة ثقيلة الدم ، لا بد أنك قد عذّبت أهلك كثيراً !! أعانهم الله عليك .... إذ لماذا تجلبين المشاكل لنفسك يا صديقتي ؟ لماذا تحملين السلم بالعرض و تصرين على المغامرة من خلال كسر الأعراف و اقتحام المجهول ؟ دعي الخلق للخالق و انظري إلى السعادة البادية على تلك الأسماك المطيعة و هي تسبح بتناغم و انسيابية و هدوء !

لاحظي كيف يأتيها رزقها بسهولة و يسر ، راقبيها و هي تختبئ من المفترسات بسرعة البرق في الجحور و تحت الرمال ! .... حياتها سهلة و مهامها يسيرة و كل ذلك ببركة طاعتها لقداسة كاهنة الأسماك التي تحمل سر حوت الملكوت الأعظم !!

أنصحك أن تنزعي عن رأسك تلك الأفكار الشريرة ، و المغامرات الانتحارية المستطيرة ، و أن تعيشي حياتك بشكل نمطي مثل بقية الأسماك التي تستمتع بالسباحة في هدوء و سكينة ، و أن تطيعي كاهنة الأسماك ... ثم دعك من التفكير في ما وراء السطح من مجهول قد يؤدي بك إلى الموت !!!》》

أضاف حبّارٌ مُتعصِّب لنصيحة الأخطبوط قائلاً :

《《 أيتها المارقة !! إن الأمور واضحة جداً ، بيد أنك فضولية مشاكسة و كثيرة الثرثرة ، بل أنت مغرمة بالخروج عن الأعراف و كسر التقاليد ... و هذه جريمة سيعاقبك عليها حوت الملكوت الأعظم دام جبروته ، إذ لم يسبق أن خرجت سمكة عن طاعته و طاعة كاهنتة بهذه الوقاحة !! و أنا شخصياً أطالب قداسة الكاهنة برفع أمرك إلى زعماء السمو الكهنوتي المعظم ، ليُنزلوا بك أشد العقاب !! 》》

فالتفتت كاهنة الأسماك 🐡 إلى السمكة الذهبية و قالت لها :

《《 مممم أعتقد أنك ممسوسة بالجن يا صغيرتي ، أو أن سمكة حسودة قد سحرتك !! ... عليك باحتساء شراب الطحالب المقدسة ، بعد أن تمزجيه بمسحوق تيجان المرجان الذي ينبت في الركن الأيمن من الحيد المبارك ، و أن تقرئي على الشراب نهاية الفصل الرابع من كتاب ( القُدسان ) ... و ستشفين بإذن حوت الملكوت الأعظم دام جبروته !! و ستذهب عنك هذه الوساوس و الأفكار الخطيرة 》》.

فقالت لها السمكة الذهبية :

《《 شكراً لك يا قداسة الكاهنة ، لكن اسمحي لي أن أخالفك الرأي ، فأنا أرى أن الارتقاء ما وراء سطح البحر ليس حالة مرضية ، بل مغامرة تستحق المحاولة ، فجمال المجهول يأسرني !!! أريد أن أعرف الحقيقة ، أريد أن أرتقي ... لن يهنأ لي عيش حتى أكتشف طبيعة العوالم العلوية فوق سطح البحر ! ...

نعم قد يكون في ارتقائي فوق سطح البحر كسراً للأعراف و خروجاً عن التقاليد السمكيّة ، لكن اعذريني ... فتراتيل الكهان و أعرافهم لم تعد تعنيني ، إذ لا أراها صحيحة ، فهي مجرد موروثات نتجت عن أساطير و أوهام و ادِّعاءات بلا أدلة ، أما حب الاكتشاف فغريزة أشعر بها في داخلي و لا أستطيع إلّا أن أُلبِّيها ، فجمال الاكتشاف يأسرني ! 》》

ثم انصرفت السمكة الذهبية بأدب دون أن تأبه لما سمعته من الأخطبوط و كاهنة الأسماك ...

🌸 و هكذا يمر الزمن ، و ضجيج التساؤلات التي لا تنتهي يمضغ رأس السمكة الذهبية الصغيرة إلى أن استفحلت حالتها و تأزمت ، فأضحت تحترق يومياً بنيران التساؤل و الاستفهام ... !

فلو أَلقَيْتَ نظرة عليها لرأيتَها في حِيرة من أمرها ، تعيش حياة التردد و الاضطراب ، إذ كلما قادها فضولها و حبها للمعرفة نحو السطح ، عاد بها خوفها من المجهول و كلام الكهان إلى الالتحاق بالسرب مرة أخرى !!

في حين التزمت بقية الأسماك أعراف و قواعد السرب و نصائح كاهنة الأسماك ، فتقيدت بمعايير الحياة النمطية الهادئة ، حيث تمارس السباحة بسلام دون الاقتراب من السطح.

و في يوم من الأيام شعرت السمكة الذهبية بطاقة غامرة تفيض بها و تقودها لاشعورياً نحو السطح بالرغم من خطورة الرحلة و كثرة المفترسات ... !


لكنها أستجمعت قواها ثم انطلقت بأقصى ما تملك من سرعة محاولة اختراق سطح البحر نحو الأعلى !! فسبحت ثم سبحت ثم سبحت حتى أُنهِكت و تساقطت حراشفها من شدة سرعتها ، لكنها نجت بأعجوبة من كل المفترسات التي صادفتها على الطريق !!

و عندما بلغت سطح البحر اندفعت بأقصى ما تملك من قوة ... و فعلاً ... هووووووب ..... !

قفزت السمكة خارج الماء !!! فرأت الطيور تحلق في كبد السماء 🕊، فأغرمت بمنظرها و هي تنتشي بالرفرفة في الفضاء !

و المفاجأة المذهلة كانت عندما لامسَ الهواء حراشف السمكة الذهبية ، إذ تحولت إلى طائر ذهبي بجناحين رائعين 🦅 !!!

□□□

أخذ الطائر يحلق و يحلق في الهواء بحرية ... فها هو يرتفع و يرتفع و يرتفع ، حتى انضم إلى سرب عظيم من طيور الحرية ....

🦅 و بعد فترة من الزمن نظر الطائر الذهبي كعادته نحو الأعلى ، فرأى السماء العليا و النجوم تتصدر الآفاق متلألئة بكبرياء لمعانها العظيم ... فازداد عشقاً لها و هُياماً بأنوارها !

فقال الطائر الذهبي لصديقه الطائر الحر :

《《 آه يا صديقي الحُر ! ... انظر إلى النجوم ما أجملها ! كم أتمنى أن أرتفع و أرتفع حتى أبلغ عوالم تلك النجوم ، كم أتمنى أن أخترق سطح السماء ، لعلّي أعرف ما هي أسرار تلك اللُّمع ! ما طبيعة تلك النجوم ؟ لماذا تتلألأ هكذا ؟ ما نوع أجنحتها ؟ و هل يكسوها ريش مثلنا ؟ 》》

فقال له الطائر الحر :

《《 لا تنظر إلى النجوم يا صديقي ، فقد تصاب بالعمى !! فلتستمتع بالحرية و كفى ...

لقد كنتَ بالأمس القريب نجمة بحر سجينة في قاع كهف مظلم ، ثم أصبحت سمكة سجينة في أعماق البحر ، أما اليوم ؛ فها أنت حر و حر و حر في هذا الفضاء الذي لا نهاية له ، فمالك و للنجوم ؟ دعك من وهج السماء و أحلام الملأ الأعلى و لتكتفي بالأثير الطلق و الفضاء الرحب .... 》》

فأجاب الطائر الذهبي :

《《 و ما يدريك يا صديقي الحر ؟ لعل ما نحن فيه الآن قاع لبحر عظيم أو قعر لواد سحيق ، فكل من مررتُ بهم في رحلتي التي حدثتُك عنها ظنوا بأنهم قد امتلكوا ناصية الحقيقة !! و أنهم بلغوا غاية العلو و الارتقاء ، و أن خارج الجحور التي عاشوا فيها لا يتواجد إلا الخطر و الظلام و الفناء !!

أما بالنسبة للحرية التي نتمتع بها ، فما الذي جعلك على يقين من أن ما نحن فيه الآن حرية ؟ لعلَّنا أسرى القيود التي لا تنتهي !! فأنا لا أرى الحرية في فراغ نحلّق فيه أو رغبة نلبيها ، أو لذة نرويها أو حياة هادئة سعيدة نعيشها ، فقد كانت صديقتي نجمة البحر الحمراء سعيدة في حياتها !!! و إنما أرى الحرية في أن نطلق غريزة حب الاكتشاف في فضاءات رحبة لا تنتهي ، و أن نروي غليل شغفنا للتعلم ببحار المعرفة التي لا شواطئ لها ، و أن نحرر فضولنا في رحاب المدى الأقصى ، و أن نسمح لتساؤلاتنا بأن تذهب ما وراء الآفاق و آفاق الآفاق ، و آفاق آفاق الآفاق ... 》》

ثم ما لبِث أن دسّ نسر ضخم منقاره في تضاعيف الحوار و قاطع الطائر الذهبي قائلاً :

《《 هيييه هيييه ، أنت أيها الطائر الذهبي ، يا لك من كتلة مزعجة من الريش الذهبي المتفلسف !

ألن تكف عن الثرثرة بالكلام الفارغ ؟ فلتصغي إلى الطائر الحر الحكيم يا صديقي ، و إياك أن تبالغ في التحليق عالياً ، لأنك ستخرق عرف الطيور بذلك ، فلقد أخبرني جدي عن جده أن نسراً عظيماً حاول التحليق و الاقتراب من النجوم فأصيب بالعمى و الاختناق ، ثم احترق و سقط في واد سحيق !! 》》


فقال الطائر الذهبي :

《《 نعم أنا أحترم رأيك يا عزيزي النسر ، لكن الفضول يقتلني ، و جمال لألاءِ السماء يأسر قلبي و يأخذ عقلي !! أشعر أن كل الجمال يختبئ في تلكم العوالم العلوية بين النجوم ....

كم هي رائعة !! ... ألم تسأل نفسك يوماً كيف استطاعت أن تحلق عالياً عالياً فوق كل الشواهق و الأعنان ؟ ما شكل مناقيرها ؟ كيف ترفرف ؟ هل يخرج هذا النور من عيونها ؟ أم من تراقِيّها ؟ أم لعله يفيض عن ريش أجنحتها ؟

أريد أن أعرف طبيعة حياتها و تكوينها ، أريد اكتشاف عالمها !!! 》》

🪶و هكذا عاش الطائر الذهبي حياة التردد و الاضطراب ، يقوده فضوله و حبه للمعرفة نحو الأعالي تارة ، ليعيده خوفه من المجهول و اختراق عرف الطيور إلى التحليق في السماء الدنيا مع أسراب الطيور تارة أخرى !!

في حين التزم الطائر الحر بالعرف السائد ، و اتّبع ما أخبر به النسر عن جده ، و قيّد نفسه بمعايير الحياة النمطية المستقرة الهادئة ، فبقي يحلق في السماء الدنيا مع بقية الطيور ....

و في يوم من الأيام ، شعر الطائر الذهبي بطاقة غامرة تفيض به و تقوده لاشعورياً نحو السماء العليا ، يريد النجوم و الأعنان في أعالي الأعالي !


فأجمع قواه و انطلق محلقاً بأقصى ما يملك من سرعة محاولاً اختراق طبقات الجو العليا نحو الملأ الأعلى !!

فارتفع و ارتفع و ارتفع حتى تمزق جسده و تساقط ريشه من شدة سرعته و لهفته لاكتشاف المجهول ... لكنه نجا بأعجوبة من كل المفترسات و المخاطر ...

و فعلاً ... هووووووب ..... !

اخترق الطبقات العليا فانكشفت له الحجب و انضم إلى عوالم النجوم ... !

و فجأة !

تحول الطائر الذهبي إلى قرص عظيم يتلألأ نوراً و بُهرجاً !! ... قرص يفوق كل النجوم الأخرى ألقاً و إشعاعاً و جمالاً ....

ارتفع ثم ارتفع ثم ارتفع حتى تصدر السماء ، فنفض عن نفسه الضياء ، و انتشر الوميض في كل الكون و انبهرت الأحياء ، ثم ما لبثت أن أذعنت له الكواكب و اجتمعت تدور حوله احتراماً و إكباراً لنوره العسجدي العظيم ....

و هكذا يا أطفالي الصغار وُلدت شمسنا التي تتربع في كبد السماء و توزّع طاقة الحياة و الشغف و الفضول على كل الأحياء بلا استثناء ...

إنها شمسنا العظيمة التي ولدت من رحم الشغف و الفضول الذي انتاب نجمة البحر السجينة في ذلك القاع المظلم العميق ... ذلك الفضول و حب الاكتشاف الذي ارتفع بنجمة البحر من أعمق الأعماق و أحلك الظلمات ، لتتحول إلى سيدة النجوم و أميرة الارتقاءات ، متصدرة كبد السماء ، موزعة ضياءها على كل الأحياء !

لقد استطاعت نجمة البحر الذهبية بفضولها و جُرأَتِها أن تنال العظمة و الأُبّهة و النور و السؤدد و الخلود في السماء ، في حين ماتت صديقتها نجمة البحر الحمراء مجهولة في ذلك القاع السحيق ، و هي تظن أن لا شيء خارج ذلك الكهف إلا الظلام و فقط الظلام ...

□□□

#الحق_الحق_أقول_لكم سيداتي و سادتي الكبار ... إنها عملية الخروج من الصندوق ، إنها مغامرة الارتقاءات المستمرة في سماوات العقلانية .... إنها الهجرة الأبدية لقيعان المغالطات المنطقية و ظلمات الأديان !

إنها الولادة متجسدة بعناصرها المتكاملة من فضول و جرأة و رغبة في التعلم و الاكتشاف و الارتقاء ... و هجرة للموروثات العفنة و الأفكار النمطية البالية من أديان و خرافات و أساطير و أعراف ...

تلك العملية التي تنتهي بصاحبها شمساً في كبد السماء ... يصافح الإنسانية بعقلانيته الحرة و سمو منطقه و لألاء واقعيته ...

إنها عملية الخروج عن الوعي الجمعي الرجعي و صناعة وعي جمعي جديد على أسس من التطوير و البحث و الارتقاء ...

فمن أنكر ثورة العقل و ما نتج عنه من ثورة علمية تصدرت الآفاق ، كمن أنكر الشمس في رابعة النهار !

و ما كان لكلام الكهنة و دعاة الكهوف و قيعان الأديان من أن ينسجم مع شمس العلم في ارتفاعها و تصدرها سماء الإنسان ....

" فبأي آلاء العِلمِ تُكذِّبان !! "

قلم #راوند_دلعو








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب


.. شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً




.. عوام في بحر الكلام - الفن والتجارة .. أبنة الشاعر حسين السيد