الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق مستودع أزمات

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2020 / 10 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


ما إنفك العراق منذ تأسيس دولته الحديثة في مطلع القرن العشرين وحتى يومنا هذا , يواجه دوامة أزمات لا تنتهي, لعل ما يعرف بالقضية الكردية أبرز هذه الأزمات وأكثرها تعقيدا وهدرا للمال العام ونزفا للدماء العراقية . فعند تأسيس المملكة العراقية عام 1921 ,قاد الشيخ محمود الحفيد البرزنجي سلسلة من الانتفاضات المسلحة ضد السلطة العراقية في وقت الاحتلال البريطاني , ولاحقًا ضد الانتداب البريطاني على العراق. سُجن الحفيد بعد محاولة تمرده الأولى في مايس من العام 1919 ونفي للهند لمدة سنة واحدة وعند عودته تم تعيينه محافظا , لكنه ثار مجددًا بعد وقتٍ قصير معلنًا نفسه حاكمًا لمملكة كردستان. استمرت مملكته من أيلول 1922 حتى تموز 1924. عارض شيخ كردي آخر هو أحمد البرزاني بقوة, الحكم المركزي في العراق الانتدابي خلال عقد العشرينيات . بدأت أولى ثورات البارزاني في العام 1931، التي خسرها وأصبح بعدها لاجئا في تركيا. كانت محاولة الانفصال الكردية التالية تحت قيادة مصطفى البرزاني الأخ الأصغر لأحمد البارزاني في 1943، لكنها قمعت كسابقاتها، وتسببت في نفي مصطفى إلى إيران، حيث شارك هناك في محاولة انفصال الأكراد تحت لواء جمهورية مهاباد التي تم القضاء عليها هي الأخرى.
لم تمارس الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي أية سياسات عنصرية ضد الأكراد , بل كان حالهم حال المواطنين الآخرين سواء بسواء, وكان منهم قادة مدنيين وعسكريين ووزراء في الدولة العراقية , وقد شغل البعض منهم منصب رئيس الوزراء, وكان منهم قادة بارزين في أحزاب المعارضة العراقية المناوئة للنظام الملكي, وبخاصة الحزب الشيوعي العراقي الذي تزعمه أكثر من مرة شيوعي كردي.
وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز وتأسيس نظام الحكم الجمهوري عام 1958 , أقر دستور الجمهورية المؤقت ولأول مرة بتاريخ العراق أن العرب والأكراد شركاء في الوطن.وسمح بعودة الملا مصطفى البرزاني من منفاه في الأتحاد السوفيتي وسط ترحيب حكومة الثورة عام 1958, ليشارك في الحياة السياسية عبر حزبه , الحزب الديمقراطي الكردستاني.إلاّ ان ذلك لم يحد من النزعة الإنفصالية المتأصلة لدى القادة الأكراد , إذ سرعان ما أعلن الملا مصطفى تمردا واسعاعام 1961 ضد حكومة الثورة, ومشاركته بمؤامرة أسقاطها عام 1963, لتعقبها سلسلة إنتفاضات مسلحة طوال عقد الستينيات. توقفت بعدها هذه الإنتفاضات لمدة قصيرة , بصدور ما عرف ببيان آذار عام 1970, بعد الإتفاق المبرم بين الحكومة العراقية والقادة الأكراد . إعتبر البيان اللغة الكردية لغة رسمية دستوريا في المحافظات ذات الغالبية الكردية,والتدريس باللغة الكردية في تلك المحافظات, ومنحهم حكما ذاتيا في المحافظات ذات الغالبية السكانية الكردية ,التي تشمل السليمانية وأربيل ودهوك المستحدثة عام 1969 ,وعلى أن يتم حسم موضوع محافظة كركوك وبعض المناطق المتعددة القوميات في غضون خمس سنوات بعد تطبيع أوضاعها .أعلنت الحكومة العراقية عن تشكيل منطقة كردستان للحكم الذاتي عام 1974.
تدهورت العلاقات ثانية بين الحكومة والقادة الأكراد عام 1974 بسبب عدم الإتفاق على عائدية محافظة كركوك , ليندلع بعدها تمردا كرديا واسعا بمساعدة إيران وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية الذي كلف العراق خسائر كبيرة , لم تتمكن الحكومة العراقية من إخماده , إلاّ بعد توقيعها مرغمة لما عرف بإتفاقية الجزائر التي إضطرت فيها الحكومة العراقية , التنازل لإيران عن نصف مجرى شط العرب الذي إستولت عليه قسرا وخلافا للقانون الدولي عام 1969, لتضع حدا للدعم الإيراني للتمرد الكردي الذي سرعان ما تلاشى فور تنفيذ الإتفاقية .وبإنتهاء التمرد عام 1975 قامت الحكومة العراقية بإنشاء منطقة كردستان للحكم الذاتي , التي شملت محافظات السليمانية وأربيل ودهوك , متخذة من أربيل عاصمة لها . تمتعت المنطقة بصلاحيات معينة لإدارة شؤونها الداخلية وفق ما تقرره حكومتها المحلية في إطار سياسة الحكومة العراقية.
وبإندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 تحركت بعض المجاميع المسلحة الكردية بمساعدة ودعم الحكومة الإيرانية في بعض قرى ومناطق كردستان الجبلية النائية ببعض العمليات المسلحة دون تحقيق نتيجة تذكر لصالحها. تأتي بعدها حرب تحرير الكويت عام 1991 وما أعقبها من تمرد واسع ضد الحكومة العراقية في وسط وجنوب العراق ومحافظات كردستان , أدت إلى قيام الولايات المتحدة الأمريكية ,إجبار الحكومة العراقية بإخراج موظفيها وقواتها المسلحة من منطقة كردستان , وعدم السماح لها بالتدخل بشؤونها بأي شكل من الأشكال , وجعلها تحت حمايتها بوصفها ملاذا آمنا للأكراد , وتسليم إدارتها إلى الحزبين الكرديين الرئيسين , الحزب الديمقراطي الكردستاني وقواته المسلحة المعروفة بقوات البشمركة , ومركز نفوذها الرئيسي محافظتي أربيل ودهوك , وحزب الإتحاد الديمقراطي الكردستاني وقواته المسلحة المعروفة هي الأخرى بقوات البشمركة المتمركزة في محافظة السليمانية , لتندلع حرب بينهما عام 1996 تستولي فيها قوات بشمركة السليمانية على مدينة أربيل , الأمر الذي إضطر فيه مسعود البرزاني حاكم أربيل الإستعانة بصدام حسين لإخراج هذه القوات من أربيل وتسليم مفاتيح حكمها له ثانية , فكان له ما أراد , حيث قامت قوات الجيش العراقي بإخراج قوات البشمركة من أربيل في غضون أيام وتسليمها ثانية إلى مسعود البرزاني.
وبعد غزو العراق وإحتلاله عام 2003 الذي لعبت فيه الأحزاب الكردية دورا أساسيا بمساندة القوات الغازية التي مكنتها من بسط نفوذها دون منازع في محافظات الحكم الذاتي , وجعلت منها أشبه ما تكون دولة مستقلة قائمة بذاتها , تشارك بقية محافظات العراق بثرواتها لتمويل بناء دولتها, وتتحكم كثيرا في قرارات الحكومة العراقية , إذ لا يمكن تشكيل حكومة عراقية أو إتخاذ أي قرار أو إصدار أي قانون أبدا دون إستحصال موافقتها , والعكس ليس صحيحا إذ لا يمكن للحكومة العراقية التدخل بأي من شؤون المحافظات الكردية , كما لا تخضع هذه المحافظات للقوانين العراقية إذ لها قوانينها الخاصة ودستورها وعلمها , فهذه المحافظات أشبه ما تكون بدولة مجاورة ذات نفوذ واسع في العراق , وليس جزءا من العراق . إستحدثت حكومة كردستان محافظة حلبجة وبعض الوحدات الإدارية دون الرجوع للحكومة العراقية التي هي وحدها من يحق له إستحداث المحافظات والوحدات الإدارية .تتصرف حكومة الإقليم على هواها بثروات الإقليم وتعقد الإتفاقات مع الدول الأجنبية بمعزل عن الحكومة العراقية , ولها قواتها العسكرية والأمنية الخاصة بها , وتسمح بإقامة القواعد العسكرية الأجنبية والتحالف معها بما يضمن مصالحها .
وبرغم كل ذلك ما إنفك القادة الأكراد يهددون بمناسبة أو بدونها بإنفصالهم عن العراق وكأنهم متفضلين على العراق ببقائهم ضمن الدولة العراقية . ويسعى القادة الكرد لضم مناطق سكانية مختلطة القوميات في محافظات واسط وديالى وصلاح الدين ونينوى وكركوك إلى منطقة حكمهم الحالية بدعوى عائديتها وبخاصة محافظة كركوك التي تتناقل الأنباء عن سعيهم الحثيثة لتغيير تركيبتها السكانية بتهجير الكثير من سكانها العرب تحت هذه الذريعة أو تلك وجلب عوائل كردية من السليمانية وغيرها بهدف تكريد المحافظة , دون أن تحرك الحكومات العراقية المتعاقبة منذ العام 2003 ساكنا. أن وضعا شاذا كهذا مستمرا منذ سنين ويتفاقم عاما بعد آخر ينبغي وضع حدا له بإتخاذ إجراءات قانونية سليمة تضمن لجميع العراقيين حقوقهم , وهذا يتطلب الآتي :
1. تحديد منطقة كردستان على وفق الغالبية السكانية في كل محافظة على وفق التعداد السكاني لعام 1957 كما هو مثبت في السجلات الرسمية , وعدم السماح بالتلاعب بالوحدات الإدارية في كل محافظة, إذ أنه أمر طبيعي أن تكون هناك محافظات ومدن متعددة القوميات في الكثير من دول العالم , ولا يصح تهجير السكان على أساس التطهير العرقي.
2. إجراء إستفتاء عام لتحديد مصير منطقة كردستان , كدولة مستقلة بذاتها عن العراق , أو بقائها ضمن الدولة العراقية في إطار نظام الحكم الفيدرالي المتعارف عليها عالميا الذي يمنح الأقاليم والولايات حكما ذاتيا لإدارة شؤونها الداخلية فقط , وتتولى الحكومة المركزية شؤون البلاد الخارجية والأمنية والعسكرية بحيث لا يكون هناك تعارض أو تداخل في الصلاحيات.
3. حسم موضوع ما يعرف بالمناطق المتنازع عليها , إذ يفترض أن لا وجود لمناطق متنازع عليها بين الدولة وأي جزء منها , فجميعها تعود للدولة .
4. إدراك جميع العراقيين أنه لا يمكن قيام دولة كردية مستقلة على أرض العراق , دون موافقة العراقيين أولا , ودول جوار العراق ثانيا , إذ أن منطقة كردستان منطقة داخلية مقفلة لا يمكنها التواصل مع العالم الخارجي دون منفذ بري أو بحري , وهو أمر لا يمكن تحقيقة إلاّ عبر أحد دول الجوار. ولعل الإستفتاء الأخير الفاشل الذي أجرته حكومة الإقليم لإستعراض قوتها , إلاّ دليلا ساطعا على صحة ذلك .
5. إدراك أبعاد قيام دولة كردية , إنما يعني إعادة رسم خرائط المنطقة برمتها , فهناك مناطق عراقية واسعة ضمت إلى إيران , كما أن كل من إيران وتركيا بلدان متعددة القوميات مما يهددها بخطر تقسيمها وشرذمتها على أساس قومي, وأستحدثت دول لم يكن لها وجود سابقا , مما يهدد بفوضى عارمة في المنطقة التي تعاني حاليا من عدم الإستقرار.
ولتحقيق هذا الهدف السامي الذي يخدم العراقيين بمختلف قومياتهم , فأنه يستلزم بناء جسور الثقة بين جميع الفرقاء من منطلق المصلحة الوطنية وبعيدا عن المناورات السياسية والنظرة المصلحية الضيقة والإتكاء على القوى الأجنبية , وتهيئة الظروف المناسبة لإجراء التعداد السكاني في عموم محافظات العراق للوقوف على حقيقة تركيبته السكانية وكثافتها . وأخيرا نقول يتوهم كثيرا من يراهن على الزمن الذي يأمل أنه يعمل لصالحه بعد أن دب الوهن والضعف في جسد العراق المتهالك حاليا جراء الفساد ونهب المال العام وسوء الإدارة وتردي الأخلاق والقيم , نقول سينهض العراق إن عاجلا أو آجلا من كبوته قريبا إن شاء الله.
سنتناول بإذن الله في مقالاتنا القادمة بعض أزمات العراق التي باتت تبدو أنها أزمات مستعصية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة