الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رأي وحوار عن المثقف العراقي … الدور والمسؤولية والخطاب ( 4-1) !!!

محمد ناجي
(Muhammed Naji)

2020 / 10 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


واجه العراق ويواجه اليوم أزمات وتحديات خطيرة سياسية/اجتماعية/اقتصادية/ثقافية ، تهدد حتى وجوده ، وفي كل هذا لاشك أن للمثقف دور وعليه مسؤولية ، فهو المنتج للفكر والأدب والفن والعلوم والرأي أيضا ، وليس عبثا أن يسمى (ضمير الأمة - صانع الرأي). ولتجاوز الدخول في موضوع تعدد وتغيّر (تعريف المثقف) ، لذا نوجه السؤال انطلاقا من تعريفك وفهمك للمثقف ودوره :

١ - هل ترى أن المثقف العراقي اليوم بمستوى دوره ومسؤوليته ؟
٢ بعيدا عن تأطير الابداع ، هل ترى ضرورة لوجود خطاب ثقافي عراقي عام في ظل فوضى المواقف والمفاهيم المشوهة ؟

!!! هذه الحلقة خاصة لأن الصديق والباحث عقيل الناصري أضاف لها نكهة وبعدا آخر في دراسة موثقة عن الانتلجنسيا في العراق ننشرها في جزئين ، ثم طرح بعدها رأيه في الأسئلة موضوع الحوار مع هوامش البحث في الجزء الثالث .


محاولة لتأرخت فئة الانتلجنسيا في العراق **


عقيل الناصري - باحث وكاتب

(١)

المقدمة :

لابد من التنويه من أن مصطلح (الانتلجنسيا Intelligentsia) هو روسي الأصل ، أطلق في حينها على الفئات العاملة في الحقل الفكري قبل الثورة البلشفية عام 1917، وبالتحديد في منتصف القرن 19، للدلالة على الفئة الاجتماعية الصغيرة في حينها ذات الثقافة الأوربية الغربية ، والذين تلقوا تعليما جامعيا أوربياً . وتطور مضمونه بالترافق مع التطور العاصف للعلاقات الرأسمالية وتعمق تقسيم العمل الاجتماعي ، في سيرورة الإنتاج المادي .
لمصطلح الانتلجنسيا عدة تعاريف ذات دلالات متقاربة وحسب رؤية من يستخدمه ، وتتفق أغلب التعاريف على أنه "...معيار التحصيل العلمي والجامعي ، وهو المعيار الرئيس المعتمد في الكثير من التعاريف ، لا سيما بالنسبة للمثقف في البلدان النامية . وفي هذا الصدد يذهب ريمون آرون ، وهو يتحدث عن شمال أفريقيا ، إلى القول : يكفي أن يكون المرء قد قضى عدداً قليلاً من السنين على مدرجات الكليات لكي يستحق هذا اللقب . وانهم سيستحقون هذا اللقب بمعنى أنهم اقتبسوا الكفاءة التي تمكنهم من إشغال بعض الوظائف ... ". ولقد لقى مصطلح الانتلجنسيا الغموض لروائجه وكثرة توظيفاته وتباين مدلولاته ، خصوصاً أنه يجاور مفهوم المثقف فيغدو (أحياناً) مرادفاً له .
ويحاول بعض الكتاب من التمييز بين " المثقفين Intellectuals ، والانتلجنسيا Intelligentsia ، ويعزون هذا التفريق إلى أن مصطلح الانتلجنسيا عندما تم استخدامه لأول مرة في روسيا وبولونيا ، قصدوا به آنذاك أولئك الذين تلقوا تعليماً جامعياً يؤهلهم للإشتغال بالمهن الفنية العليا . وقد اتسع استخدامه وامتد مدلوله إلى كل الذين ينخرطون في مهن غير يدوية . وأصبح ما يميزه هو المثقف الذي تقترن همومه بهموم شعبه وعمله الدؤوب إلى التغيير الاجتصادي ليخلق تاريخيا جديداً .
أما المثقفون فهم أولئك الذين يسهمون مباشرة في ابتكار الأفكار أو نقدها . وتضم هذه الفئة المؤلفين والعلماء والفلاسفة والمفكرين والمتخصصين في النظريات الاجتماعية والمحللين السياسيين .. والمثقف هو الذي يضع أوسع نظرة لتغيير المجتمع وأشملها ، وهو الذي يعمل لصالح القطاعات العريضة فيه ، وهو الذي يتميَّز بما لديه من قدرة على النقد الاجتماعي والعلمي . بمعنى أن هذه التعاريف المتعددة تتفق على الجوهر ، الذي معياره العام هو التحليل المعرفي/العلمي في حلته الابداعية المقترنة بالنقدية الموضوعية ، أي نوعا من المعرفة الحديثة ، ولكنها تختلف في سعة الشمول للفئات المنضوية تحته . ونحن نطلقه في ظروف البلدان النامية ، والعراق منها ، على العاملين في إنتاج المعرفة والثقافة وإعادة انتاجهما . وبدورنا استخدمنا المفهومين بمعنى واحد .. طالما أن المثقفين "... هم أولئك الأشخاص من المتعلمين الذين يمتلكون المعرفة ولهم طموحات سياسية ، وعلى أساس هذه المعرفة الموضوعية والطموحات السياسية وتأملاتهم الذاتية .. يسعون إلى التأثير في السلطة السياسية في اتخاذ القرارات الكبرى ، والى صياغة ضمير مجتمعهم ، وكذلك صياغة أحكامهم على الواقع دون أن يستخدموا هذه الأحكام مباشرة أو بالضرورة من خبراتهم الحسية... ".
أما غرامشي فقد نظر ووسع من ماهيات الدور الذي يؤديه المثقفون ويربطه بتطور القوى الإنتاجية والمعرفية ، يقول : " ... لم يعد بالإمكان أن يتمحور نسق حياة المثقف الجديد حول الفصاحة والإثارة السطحية والآنية للمشاعر والأهواء بل صار لزاماَ َعليه أن يشارك مباشرة في الحياة العملية كبانِ ِومنظم مقنع دائماَ ، لأنَّه ليس مجرد فارس منابر . بات لزاما عليه أنْ يتغلب على التفكير الحسابي المجرد ، فينتقل من (التقنية – العمل) إلى (التقنية – العلم) ، وإلى النظرة التاريخية الإنسانية ، وألا يبقى اختصاصيا دون أنْ يصبح – قائداََ- أي رجل سياسة بالإضافة إلى كونه اختصاصيا " . كما أن غرامشي قد ميز بين نوعين من المثقفين هما : "... المثقف العضوي والمثقف التقليدي (traditional intellectual) وقد عنى بالمثقف العضوي ( organic intellectual ) ذلك المثقف الذي ينتمي انتماءا عضوياَ للكتلة السياسية والاجتماعية التي ينتمي إليها وما يبديه من أجل إنجاح مشروعها ، وهو غير المثقف التقليدي الذي يوظف أدواته الثقافية للعمل على استمرار هيمنة الكتلة التاريخية السائدة المشكَّلَة من الإقطاع والبرجوازية والفئة العليا الأكليروس ، مقارناَ هذا بالأول الذي يمثل الفلاحين في الجنوب والعمال في الشمال الإيطالي . والمعني بالدرجة الأولى هنا هو المثقف العراقي العضوي الذي تكون كتلته التاريخية هي المجتمع والوطن العراقي والمشروع الديمقراطي الحضاري الذي واتت فرصته الآن . المثقف العضوي الذي تكون أهدافه ومعطيات إنتاجه الثقافي البحت ومن ثمَّ معيار نجاحه متمثِّلة في العراق والعطاء المقدَّم له . إنَّ المثقف هو الذي يضع أوسع نظرة لتغيير المجتمع وأشملها وهو الذي يعمل لصالح القطاعات العريضة فيه وهو الذي يتميَّز بما لديه من قدرة على النقد الاجتماعي والعلمي . والمثقف كما يرى جان بول سارتر أيضاَ هو إنسان يتدخل ويدس أنفه فيما لا يعنيه..."
ظهرت تاريخياً الطبقة الوسطى مع الثورة التجارية في أوروبا في عصر النهضة وأسهمت بقوة "... في تغيير النظام الاجتماعي الذي كان قائماً على وجود طبقتين أساسيتين هما : الطبقة الارستقراطية وطبقة العوام ... ". ومن ثم ظهرت فئة الانتلجنسيا الجديدة وبوادرها التأثيرية ، بصورة عامة ، منذ اضمحلال العلاقات الإقطاعية في أوروبا ، وتطور المدن والتي كانت آنذاك تمثل أجنة العلاقات المستقبلية في البناء الفوقي ، بالمفهوم الماركسي ، والمعبرة عن التطلع الانساني ضمن صيرورات تحقق غائية الارتقاء بالانسان وواقعه إلى مراحل تطويرية أعلى، فكانت فئة لذاتها.. تطورت وتبلورت كفئة في ذاتها أثناء التحولات الدراماتيكية المرتبطة بالتطور العاصف لقوى الإنتاج الاجتماعي وعلاقاته ضمن تطور النمط الرأسمالي ، عندما ولد في رحم الاقطاعية ، وتطور إلى التشكيلة الاجتماعية للرأسمالية ، عندما تم الانتقال من المانيفاكتورة الحرفية حيث العمل اليدوي ، إلى العمل الآلي ، الذي ينبثق منه تقسيم العمل الاجتماعي ، والذي بدوره يلغي فوارق الجنس والسن (عمل النساء والأطفال) . بمعنى أخذ تطور القوى المنتجة يشق طريقه في الورشات والحرف في البدء ، ومن ثم تطور في المصنع (شبه الميكانيكي) ومن ثم (الميكانيكي) وبعدها العمل المؤتمت ، كل هذا التطور رافقه نقلة من الاقتصاد القومي إلى الاقتصاد القاري ومن ثم العالمي وأخيرا الاقتصاد الكوني .
كان نمو المدن في العراق ما بعد تشكل الدولة الملكية ، يُماثل "... الحال مع أوروبا في فترة أسبق . كان نمو المدن شرطا مسبقا لتغيير أنماط الهوية السياسية وظهور النزعة الوطنية بوجه خاص . فإحياء المناطق المدينية قدر تعلق الأمر بالسكان وبالنشاط الاقتصادي ، جعل أعداد كبيرة من العراقيين يتواصل بعضهم مع البعض الآخر ، كما أدى إلى نمو في الصحافة وزيادة التعليم . ورغم أن نمو هذه المؤسسات كان ضئيلا جدا حتى بالمقاييس الإقليمية لكنه مثّل مع ذلك ، يقظة لوعي سياسي هام لدى سكان المدن المتعلمين . فالصحافة والمؤسسات التعليمية جمعت معاً أعداداً من طوائف العراق المتنوعة في إطار لم تكن تهيمن عليه بالضرورة ، الهويات الطائفية والاثنية... ".
وتعد ثورة الاتحاديين عام 1908 مهمة في تاريخ الولايات العربية التي تطلعت لنيل حريتها من الاستبداد العثماني ، وقد اسهمت المتغيرات في تلك المرحلة إلى ظهور تيارات فكرية وسياسية جديدة في المجتمع العراقي ، وكان المثقفون في طليعتها . ومن سماتها ايضا ظهور التطلعات من الانتلجنسيا العراقية لحرية الفكر وتحرر المرأة والتنوير والمتنورين وبواكير الفكر الاقتصادي ومعالجاته قبيل الحرب العالمية الأولى . ثم ظهور النزعة الوطنية لدى الانتلجنسيا والتحرك القومي بين (1908-1914) . وعندما اندلعت الحرب في عام 1914 كانت الانتلجنسيا العراقية بين عهد التخلف السابق وبين حرب كونية انتقلت شرارتها الى العراق والمنطقة واحتمالات الاحتلال البريطاني لبلادها .
لو عدنا لصيرورة تاريخ العراق الخاص بالانتلجنسيا ، ففي نهاية القرن التاسع عشر حيث أرسيت للبناء المادي لتلك الفئة ، فبالإضافة إلى أن العراق تأثرت الانتلجنسيا العراقية الناشئة تأثراً عميقاً بالأفكار الصادرة عن مصر وسوريا ، إلا أن الإسهام العراقي في الحوار كان محدوداً جداً . ذلك أن الظروف المحيطة بالعراق حرمته من المستلزمات الضرورية لقيام نهضة فكرية عميقة .
لم يتمتع بالحريات السياسية والفكرية التي تمتعت بها مصر ، كان القمع سائداً ، والتبادل الحر للافكار غير مسموح الا نادراً . وكان التعليم العالي الحديث في العراق يختلف كثيرا عنه في مصر وسوريا ، فما بين عامي 1872 و 1912، كان مجموع عدد الطلبة العراقيين في اسطنبول يبلغ 1400 فقط ، منهم 1200 تخرجوا كضباط في الجيش العثماني . وخلال الفترة نفسها كان عدد الطلبة العراقيين في الجامعة الأمريكية في بيروت لا يتجاوز السبعين . وبإستثناء عدد قليل من المسيحيين أبرزهم الكرملي ، لم يكن معظمهم يميل إلى ممارسة دور فكري مماثل لذلك الذي مارسه نظراؤهم السوريين . ومع ذلك لقد كان العراقيون متأثرين بالتيارات الصاعدة ، وكان هذا التأثير ينعكس في كتابتهم... ".
وسنلاحظ أن التربة العراقية لم تكن مهيأة لولادة الانتلجنسيا العراقية كفئة في ذاتها بصورة نسبية ، فلم تكن للعراق اتصالات علمية وثقافية وثيقة بالأفكار الأوروبية أو الثقافة الأوروبية المتجددة ، فضلاً عن ذلك كان مستوى التعليم في العراق غير عالٍي ، وكان عدد الطلاب الذين يرتادون المدارس غير كبير ، مقارنة بمصر . ولكن رغم ذلك كانت بذور التغيير تشق طريقها في صيرورات الحياتية ، مادياً ومعنوياً ، وبصورة خاصة بعد الاحتلال البريطاني ، إذا كانت التحولات والظروف الاجتصادية (الاجتماعية / الاقتصادية) ، بعد سنوات من القحط والركود نتيجة الحرب العالمية الأولى ، وما لحق العراق من نهب الدولة العثمانية بصورة الخاصة الفائض الاقتصادية على قلته ، وفي هذا الظرف كان محسوسة على النطاقين المادي والمعنوي .
وتأسيسا على كل هذا فالاستنتاج الذي نتوصل إليه هو : أن عصر التنوير العراقي الحديث قد تزامن مع عصر التحديث في البنية الاقتصادية وما أعقبها جدلياً من تغيرات في البنية الاجتماعية والسردية الثقافية والانعتاق من الزمن الساكن (اللا عقلاني العاجز عن تمثيل نفسه ، والراغب بأن يُخضع ، وأن يُمثّل) ، وهالة التفسير الديني للظواهر الاجتماطبيعية، من خلال الاحتكاك بالآخر الأوروبي من خلال العلاقات الاقتصادية الدولية ، ومن ثم ما فرضه الاحتلال الأول (1914-1932) من قيم ومنظومات فكرية و مؤسساتية وبداية نشوء منظمات المجتمع المدني ، ومن ثم استكشاف الذات الجمعية والاختيار في ماهيتها بين العراقوية والعروبية . عاشت الانتلجينسيا العراقية منذ أن خطت سنوات فتوتها ، وبخاصة بعد تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 ، في صراع مستديم مع واقعها ومحيطها الاجتماعي من جهة ؛ ومع ذاتها الطامحة إلى تغيير ذلك الواقع من جهة ثانية ؛ ومن جهة ثالثة ضد التخلف بكل أنواعه ؛ ومن جهة رابعة ضد الاستراتيجية البريطانية في العراق والمنطقة ؛ ومن جهة خامسة ضد صيرورات الإقطاع الذي تجسد بتطور المَلكية في أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات ، وتجسدت في أواخر الثلاثينيات وتحديدا في عام 1938 .
كل هذا تجسد في صراع تنافسي/تناقضي حول الأفق لشكل الدولة السياسي ونظامها الاقتصادي ، وتجسداً مادياً في الوقت نفسه في جملة من الصراعات الاجتصادية والسياسية والفكرية والاثنية . إذ ترتب على هذا الصراع عواقب جمة صاغت من الكثير منهم ما يمكن أن نطلق عليهم (مثقفين عضويين)، ربطوا بين مهماتهم الحياتية السياسية والفكرية وغائية التغيير التي نظروا إليها كصيرورة اجتماعية سياسية فكرية .. وبالتالي وسموا الثقافة العامة بطابعها الاجتماعي ذو المنحى اليساري وبنزعته التقدمية ، تبلورت بكل أبعادها في تجليات الوعي الاجتماعي : الجمالية والحقوقية والفلسفية والسياسية والدينية . هذا النزوع يمكن رصده في مختلف مراحل التطور التاريخي لسيرورة الظاهرة العراقية المعاصرة .
ويمكننا رصد قرينة أخرى ارتبطت بهذه الصيرورة ، مفادها أن كل عقد زمني قد أفرز مجموعة أنجزت بعض من المهام السياسية والاجتماعية والفكرية ، فمعاضل بعد تأسيس الدولة هي غيرها في الثلاثينيات والأربعينيات وهي غيرها في الخمسينيات .. وما حصل في ثورة 14 تموز من مهام هي ما حصل بعد انقلاب 8 شباط الدموي وهلم جرا ، وهذا ما ينطبق على السبعينيات والثمانينيات والحروب العبثية (للقائد الضرورة !!) هي غيرها من المهام الاجتصادية والسياسية والفكرية ، وغيرها ما بعد الاحتلال في عام 2003 . لأن الحياة مستمرة وتتطلب مهام غير تلك ، وربما الكثير منها تحقق حسب ما أمكن ، وبعضها الآخر كان ذا منزع استعجالي يحاول مصارعة الواقع بأدوات تغييرية غير متلائمة مع ذات المهام ، كما لو أنهم يصارعون السماء بأيديهم العارية ، ويحفزهم إلى ذلك إيمانهم بعدالة غائية التغيير وضروراته لواقع ديناميكية التطور المرغوب وأهميته . وثالثة القرائن التي يمكن رصدها هنا .. أن الكثير من هؤلاء دعاة التغيير الاجتماعي قد نذروا أنفسهم لهذه الغائية التي هي : بمعايير الأخلاق فكرة سامية ، وبالجمال إيثار سيمفوني وبالسياسة غائية نبيلة ، وبالتطور ضرورة موضوعية .
إن هذا التطور من جانب آخر ، عمق الصراع الطبقي ، وفي الوقت نفسه عمق من ماهيات صيرورة عملية الإنتاج الاجتماعي وقسمها إلى عمل عضلي فيزياوي ، وعمل عقلي ذهني ، إذ تضاءل الأول لصالح الثاني ، والذي حسب السوسيولوجي القدير فالح عبد الجبار (يجد تعبيره في تعاظم القطاع الرابع - صناعة المعلومات) . ومن هذا الصنف الثاني تكونت فئة الانتلجنسيا الاجتماعية . وكلما تطورت قوى الإنتاج ، وبضمنها العلوم والأفكار، كتجسيد معبر عن ذاته ضمن هذه القوى المنتجة ، وعليه إزداد موقع المنتجين الماديين للمعرفة والثقافة سواءً كان انتاجا مجرداً أو عملياً .
ورب سائل يسأل عن العلاقة بين التخلف بمفهومه العام وظهور مثل هذه الأراء المتقدمة التي سادت في بداية القرن العشرين وبخاصة بعد تأسيس الدولة العراقية (1921) ، بين المثقفين وبخاصة العضويين منهم ، وظروف العراق ذات القيم المتباينة والتخلف العام بأشكاله المتنوعة ، وبخاصة الفكرية ، وعلى الخصوص إذا انطلقنا من الفكرة الهيغلية للتاريخ التي مفادها : {التأريخ هو عملية تغيير الإنسان لبيئته ، وأنه حيثما لا يوجد تغيير فليس ثمة تأريخ } . والتي عكستها الظروف الموضوعية والمستجيبة لواقع التطور وسنن قوانينه . أقول أن التحليل الأكاديمي الذي قدمه د. عامر حسن فياض في تتبع هذه العلاقة ، قد أصاب جوهر الحقيقة ، طالما أنه : "... ليس الوعي هو الذي يحدد الكينونة ، بل الكينونة هي التي تحدد الوعي ، وهو حجر الأساس لنظرية ماركس المادية . ويرى جورج طرابيشي إمكانية تعديل وليس عكس ، هذه الأطروحة على مستوى البلدان النامية ، انطلاقا من مقولة لينين (الوعي يحدد الموضوعي) ، وهذا يعني ، وهنا موضع المسألة الأساسي ، عدم وجود علاقة حتمية اشتقاقية آلية بين الفكري النظري المتقدم ، والواقع المتخلف ، بل وجود علاقة جدلية متحركة لا تمنع من أن يكون هناك واقع اجتماعي متخلف وفكري نظري متقدم في مرحلة تاريخية واحدة ... إن الكينونة التي تحدد الوعي في البلدان النامية هي كينونة مزدوجة ، كينونة تخلف هذه البلدان وواقع بؤسها من جهة ، وكينونة سائر العالم المتقدم والمتطور من جهة أخرى . ومن التوتر بين هاتين الكينونتين يتحدد المثل الأعلى لبلدان العالم الثالث ، أي بالنتيجة فإن المسألة ، أي مسألة الاختيار الواعي ، يتمحور حول إدراك المثل الأعلى ... وهذا الاختيار هو الوظيفة التي لا يقدر على إجادتها سوى المثقفين ... "، وبخاصة العضويين منهم وبالتالي خلق وعي اجتماعي متقدم .
ولهذا دخل الصراع بين المؤسسة التقليدية والفئة الجنينية للإنتلجنسيا ، وعلى ضوء هذه المواقف والظروف وما تبناه الانقلاب العثماني عام 1908 وقبله المشروطية في إيران 1906 ، فقد وقفت المؤسسة الدينية (بمختلف مذاهبها) ضد العلمنة (Secularization ) وقد أدانت دعاتها ، بل والأكثر من ذلك كفرتهم وألصقت بهم صفة الإلحاد . لذلك رفضت أي اقتراح لإصلاحها . "...الأمر الذي أدى إلى أن تتخذ هذه النزعة (العلمانية) في المشرق الاسلامي أشكالا متعددة يحددها الدكتور مجيد خدوري بأربعة أشكال وهي :
- تبني اجراءات لها علاقة بسيطة بالاسلام ، أو لا علاقة أبدا به ؛
- تبني إجراءات تنسجم مع الإسلام من حيث المبدأ لكن لا تعالجها نصوصه بتفصيل يناسب الأوضاع القائمة ؛
- تبني إجراءات يمكن أن تكون بديلة لبعض جوانب الإسلام التي مر عليها الزمن ؛
- فصل الدين عن الدولة ... ".
وهكذا تفاعلت جدلياً في مطلع القرن المنصرم ، جملة الظروف الموضوعية والذاتية للبلد والمنطقة برمتها ، هيأت مناخاً مواتياً لظهور قوى جديدة مثقفة غير تلك القوى المتعلمة التقليدية والمتمركزة في المؤسسات الدينية ومدارسها ، وقد استنهضت واستوعبت ماهيات التغيير المزمع والمنتظر منذ نهايات القرن التاسع عشر وتبلورت في العقدين الأولين من القرن الماضي ، لتتحول إلى ظواهر قادت إلى فكرة التغيير الواعد . وأعتقد أن هذه القوى التغييرية قد انطلقت من فئات أرأسية أربعة هي :
1- الفئات المتعلمة الليبرالية المنطلق من نبتات المدارس التعليمية الحديثة ؛
2- فئة الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني منذ آواخر القرن التاسع عشر ؛
3- بعض من متعلمي الدراسة التقليدية المتنورين ؛
4- بعض من تجار المدن القروسطية .
ولكن يمكن تقسيم هذه الفئات، حسب معيار الاستمرار في مساندة صيرورة فكرة التغيير وسيرورته الاجتصادية السياسية والفكرية ، إلى ثلاث فئات :
1- مثقفون رافضون لفكرة التغيير .. ويقف على رأسهم الكثير من الفئات الثلاثة الاخيرة ؛
2- مثقفون مسايرون للتغيير .. يتركزون في الفئة الأولى والجزء القليل من الفئات الثلاثة الأخرى ؛
3- مثقفون مؤيدون للتغيير وعاملون في حقوله السياسية والفكرية .. ويتمثلون في المثقفين العضويين من الفئة الأولى .

يتبــــــــــــــــــــــع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح