الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مباحث في الاستخبارات (241) الاستخبارات وتدوير المجتمعات (القسم الاول)

بشير الوندي

2020 / 10 / 30
الارهاب, الحرب والسلام


مدخل
----------
يتردد اصطلاح غسيل الدماغ كثيراً في ادبيات علم الاجتماع وعلم النفس وفي الدوائر الاستخبارية للدلالة على الكيفية التي يتم بها تغيير الفكر لفردٍ ما ضمن ظروف خاصة , مما يجعل منه شخصاً آخر يختلف بقناعاته المزروعة فيه بعكس قناعاته السابقة , الا ان هنالك ماهو افضع من ذلك الا وهو التحكم بالشعوب وغسيل ادمغة المجتمعات , وتغيير بوصلتها الفكرية وقلب اتجاهاتها الى الجهة المعاكسة , وهي عملية معقدة تستلزم الكثير من الجهود , وبالنظر لأهمية الموضوع وخطورته نجد انه يستحق التعمق والتوسع به ليكون في عدة حلقات ليتم تناوله من زواياه المختلفة , وهذا هو القسم الاول من البحث.
-------------------------------
تساؤلات وزوايا مختلفة
-------------------------------
ان تناول موضوع الاستهداف الفكري للشعوب , لصالح هدف ما , يحتاج للاجابة عليه من زوايا مختلفة منها هل ان الاستهداف هو غاية بحد ذاته ام وسيلة ؟
وماهي طبيعة العلاقة بين شكل النظام السياسي الحاكم لشعب ما وبين القدرة على استهداف المنظومة الفكرية لهذا الشعب ؟
وهل ان الاستهداف الفكري هو استهداف خارجي دوماً , ام ان من الممكن ان يكون عملاً حكومياً داخلياً ؟ وماهي الآليات التي يتم من خلالها الاستهداف الفكري لشعب ما ؟
وما هو شكل البديل الفكري الذي يزرع مكانه ؟
وماهي الطرق الكفيلة بمقاومة الشعوب لعملية استهداف ثوابتها ؟
وقبل كل تلك التساؤلات هنالك سؤال مهم هو : هل ان هنالك قواعد علمية يقوم عليها هذا العمل بحيث نستطيع ان نشخصه حال حصوله على شعب ما ؟ .
وسنحاول الاجابة على تلك الاسئلة في عدة اجزاء من هذا المبحث المهم .
-------------------------------------
دروس من عبقرية معاوية !!!
-------------------------------------
يحدثنا التأريخ ان مفاجأة أهل الشام بخبر استشهاد الامام عليّ عليه السلام أثناء إقامته للصلاة كانت صادمة , الا ان مردّ الصدمة ليس من حادث استشهاده , وانما لأنه كان يصلّي !!!!! فالحرب الإعلامية والنفسية التي مارستها ضدّه أجهزة معاوية إبن أبي سفيان على اهل الشام كانت قد تمكنت من ان تقنعهم بكونه عليه السلام طالب سلطة ولايصلي ولاشأن له بالدين , وقد صدق الكثيرون تلك الإشاعات مع أن عليّاً كان رمزاً للتقوى والصدق والنبل والتضحية في سبيل أمته وإعلاء كلمة الحقّ , وهي الصورة التي تكررت عند اهل الشام حين استهجنوا خروج الحسين عليه السلام على يزيد بن معاوية بإعتباره خارجياً , وكانوا فرحين بالسبايا من آل بيته الكرام .
ان تلك الصورة قبل اربعة عشر قرناً تشير الى نجاح باهر في عملية غسيل ادمغة الشعوب رغم وسائلها البدائية باستخدام العصا والجزرة , كما تؤكد ان الغسيل الجمعي للادمغة قد سبق عمليات غسيل الدماغ الفردية التي كانت تتم في المختبرات السرية والمعتقلات .
وفي التاريخ شواهد لاتحصى عمّا يمكن ترسيخه في العقل الجمعي من قناعات عن طريق الحكم القهري مما خلق الكثير من العقائد والافكار والعادات الراسخة لدى الشعوب , حتى ان هنالك شعوب تم تغيير مذهبها الديني من التسنن الى التشيع او من التشيع الى التسنن بفعل السلطة الحاكمة وبحد السيف , ورغم ان تلك التغييرات كانت قسرية في بداياتها , الا انها تحولت بحكم توالي الاجيال الى حقائق وقناعات لاتدحض.
بل ان التاريخ الحديث يحدثنا عن بلد كتركيا تحولت من مركز الخلافة الاسلامية في العالم الى ان تتحول , على يد دكتاتورية عسكرية متوحشة , لدولة علمانية لاتقف عند فصل الدين عن السياسة بل وتغير حروف اللغة من العربية الى الحروف التركية , ففي مفارقة تاريخية مثيرة وملفتة قامت بريطانيا الاستعمارية بدعم اتاتورك في تقليم اضافر الدين في تركيا , وفي ذات الوقت تقيم اشرس حكم متشدد بصبغة اسلامية في شبه الجزيرة العربية على يد الوهابيين !!!!.
-------------------------------
من المفرد الى الجملة !!!!
-------------------------------
مع بدايات القرن العشرين برز العالم "إيفان بافلوف" 1849 ــ 1936 مؤسّس الدّراسات التجريبيّة للسلوك عند الحيوانات والإنسان، مستخدماً منهج المنعكسات الشرطيّة واللاشرطيّة ، فكانت نظريته حجر الأساس الذي أقيمت عليه دراسات وأبحاث خاصة بغسيل الأدمغة ، وبناءً على هذه البحوث والدراسات، تم التوصّل لعدّة أساليب منها "نفسيّة ـ وجسمانية "، تعتمد على إضعاف وإنهاك القوة النفسية للفرد من خلال حرمانه النوم وعزله عن الخارج وتحويله إلى آلة تعمل حسب رغبة مشغليها ؛ وقد اعتمدت هذه الأساليب في معسكرات الاعتقال التابعة للنازيين ضد أسراهم..
في يونيو 1951 استطاع الطبيب والعالم النفسي الكنديّ دونالد أولدينغ هيب اقناع عدة وكالات استخبارية منها الCIA بتمويل ابحاثه حول آثار حرمان الشخص من الشعور بحواسّه , الا انه عاد وقرر وجوب إيقاف هذه التجارب بسبب آثارها الكارثية على الافراد ، خاصة تشتت تركيزهم وعدم قدرتهم على التخيل والتحكّم الواعي بالتصرفات إضافة إلى المعاناة من الاضطرابات وفقدان الذاكرة .
الا ان البروفيسور أوين كاميرون رئيس قسم الطب النفسي في جامعة ماكغيل قرر ان يحل مكانه باجراء التجارب على عدد كبير من المرضى للوصول إلى طريقة فعّالة لكيفية محو القناعات القديمة وتكوين آراء وأفكار جديدة في عقول الخاضعين للتجربة، عبر تدمير القدرة على الحسّ والشعور وتشتيت الذاكرة بواسطة الصدمات الكهربائية وأدوية الهلوسة والعزل التام , وقد حوّلت CIA أبحاث د. كاميرون إلى دليل منهجي لكيفية التحقيق مع المعتقلين عبر تعريضهم لصدمات متتالية من التعذيب وجعلهم مستعدين للتعاون والتخلي عن أفكارهم بأساليب متعددة.
كانت الفكرة في إطار التطبيق على الأفراد حتى ظهر “ميلتون فريدمان”، “دكتور الاقتصاد في جامعة شيكاغو” الذي نادى بممارسة الصدمة على الشعوب عبر الكوارث، ثم تطبيق النظام الرأسمالي ، برفع يد الحكومات عن السيطرة على أسعار السوق , فكانت نظرية الصدمة لميلتون فريدمان , ومن المفيد ان نذكر هنا ان رامسفيلد وزير الدفاع في حرب احتلال العراق كان احد تلامذته!!!.
وتتلخص نظرية الصدمة بصدمة للمجتمع المستهدف وتحطيم اقتصادياته وآمنه كي يصبح خاضعاً لماتريد , من خلال سياسات تؤدي الى ارتفاع الاسعار وفوضى وبطالة وخلل في الامن , وحينها تكون الساحة مواتية في البلد المستهدف ليتخلى فيها المجتمع المستهدف عن قناعاته وموانعه الفكرية والخضوع الى الحلول التي تطرحها عليه الرأسمالية المتوحشة , حيث يقوم مذهب رأسمالية الكوارث على استغلال كارثة، سواء كانت انقلاباً، او هجوماً إرهابيا ، أو انهياراً للسوق، أو حرباً، أو تسونامي ، أو إعصارا، او (وباءاً !!!!) من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية.
كما برزت افكار لمشاريعَ تم تطبيقها للتأثير على الشعوب كمشروع مونارك "monarch" 1955 الذي طوّره النازيون ومن ثم أصبح حكراً على الأمريكان و تم من خلاله فرض هيمنة شبه كاملة على مجتمعات العالم الثالث من ناحية استبدال العناصر الغذائية بالوجبات الجاهزة وانتشار المشروبات الغازية والتسويق لها ، وفتح سلاسل ومتاجر للأطعمة الغربية في أنحاء العالم بالاضافة إلى أفلام الاغتيالات والحروب وألعاب البلاي ستيشن " PlayStation" الدموية ليتم من خلالها استعمار الحياة الاجتماعية للشعوب ، إضافةً إلى كسب الأموال الطائلة من هذه المشاريع التي تضاهي مشاريع استثمارية كبرى , فكانت تلك المشاريع بمثابة العمل التجاري الذي يترك البيع بالمفرد الى العمل الاكبر والاوسع بالبيع بالجملة .
--------------------
المحتل الوفي !!
--------------------
لقد اهتمت الاجهزة الاستخبارية في الدول الاستعمارية بفكرة السيطرة على الشعوب من خلال خطوات طويلة الامد وناعمة تؤدي اغراض قد لاتؤديها الآلة الحربية الاستعمارية , فعمدت الى الاهتمام بالتضاريس المجتمعية للشعوب المستهدفة (انظر مباحث في الاستخبارات 90 التضاريس البشرية). واصبح هنالك فريق في الجيش الامريكي لتلك المهمة , حيث يتكون فريق التضاريس في الجيش الأمريكي من ضابط قائد للفريق وأستاذ علم اجتماع ومحللين 2 ومرشد او مرشدين من أهل المنطقة المستهدفة ومدير أبحاث وفهرسة , ويتم استحصال تقيماتهم من مقابلات ميدانية مع السكان والاستبيان وإستطلاع الرأي ودراسة الحالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والجغرافيا والدين والتاريخ.
وادى فهم التضاريس البشرية للمجتمع المستهدف في انتاج الرسالة الاعلاميه الموجهة وصناعة الرأي العام وغسيل الدماغ المجتمعي , فكان على ضباط التضاريس دراسة المجتمع المستهدف والثقافة المحلية والقوى المسلحة فيه والعلاقات والتوترات بين تلك القوى وطبيعة الخطاب السياسي والفكري وشبكة المصالح التي تحكم المجتمع وطبيعة نظام الزعامة في المجتمع والقدرة الشرائية للافراد وموروثهم , فكل ذلك يوصلهم الى مفاتيح تمكنهم من تمزيق المجتمع او اشغاله وفهم سر قوته .
لقد ادركت الاجهزة الاستخبارية ان سر انتصارها يكون في مد خيوطها الى اعماق النسيج المجتمعي للشعوب المستهدفة , وفي تعميق الفجوة بين الشعب المستهدف وسلطته الحاكمة حتى لو كانت تلك السلطة صنيعتها (كما سيأتي) .
وحتى في البلدان التي كانت تحتلها الجيوش الاستعمارية , والتي كان من الطبيعي ان يكون من الصعب التعامل مع مجتمعاتها التي تنظر لها كجيش غاصب , فانها نجحت بعد كل احتلال في ايجاد روابط متعددة مع المجتمع المحتل ومد جذورها بقوة في مراكز القوة والتاثير السياسي والشعبي والاقتصادي وترك بصمات منظمة لمرحلة مابعد الخروج من خلال انتاج شبكات قوية وكثيرة من اللوبيات والعمل السري لتحل محل الجيوش عند خروجها من خلال العمل بسياسات خفية ودقيقة ونشر الاخبار والاشاعات ثم التثقيف عليها , فخلال بضعة سنوات من الاحتلال استطاع البريطانيون ان يصنعوا لهم هالة لدى العراقيين , فصار يشار الى الذكاء والتخطيط الدقيق الشيطاني في مجتمعنا , باستسلام , بعبارة (شغل ابو ناجي) وهو امر لم يستطع العثمانيون ان يفعلوه في عقول العراقيين رغم احتلال اربعة قرون (انظر مباحث في الاستخبارات (38) السيطرة الاستخبارية) .
وفي فترة الاحتلال الامريكي للعراق , عمدت الاجهزة الاستخبارية الى تعميق تأثيرها على رجال السياسة والاحزاب والقاده العسكريين ورجال الاعمال والتجار وشيوخ العشائر والمواطنين , وكذلك السيطرةعلى سوق المال و قطاع النفط و واوساط المثقفين والجامعات , وتنظيم شبكات واسعة من الواجهات كجمعيات الصداقة والاعلام وشراء الاقلام ومنظمات المجتمع المدني والتبادل الثقافي والزيارات والوفود ومنح الجنسية والحماية واسقاط القدوة الوطنية واثارة المجتمع وعقد المعاهدات المتنوعة التي تربط اقتصاد البلد بمجموعة من النشاطات الاقتصادية بالاضافة الى السيطرة على شبكات الاتصال , وهو بمثابة غزو اقتصادي وثقافي وسياسي كامل ينتج عنه اخضاع البلد لمجموعة معايير تسيطر عليها خيوط الاستخبارات.
ولعل من اهم المفاتيح التي استخدمتها الاجهزة الاستخبارية الاستعمارية لاخضاع الشعوب والعبث ببوصلتها الفكرية هو مفتاح التجهيل المعرفي !!!
ويركز هذا العلم على تخريب المنظومة الفكرية للافراد والمجتمعات من خلال اساليب عدة منها التخويف ومنها التضليل بالارباك ومنها التشكيك ومنها ترسيخ معتقدات زائفة او الالتفاف على معتقدات وتفريغها من محتواها واغراقها بالخرافة وغير ذلك من الاساليب , ومن هنا جاء اهتمام الدوائر الاستخبارية والدوائر الدعائية الحكومية والشركات الكبرى , في اهمية امتلاك ناصية هذا العلم والالمام بأدواته وخباياه (انظر مباحث في الاستخبارات 128 علم الجهل) .
ويُعرِّف الباحث روبيرت بروكتور علم الجهل" Agnotolgy بأنه "العلم الذي يدّرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية رصينة"! , والجهل هنا ليس انعدام المعرفة فقط وانما هو مُنتَج مشوّه مشوب بالزيادة او بالبتر والنقصان ويحوي على معلومات مفبركة الغرض منها تدمير الوعي من خلال عمليات تلاعب ذهنية .
لقد تم تطوير علم الجهل على يد خبراء التسويق في الشركات التي تنتج منتجات اثبتت الدراسات العلمية مضارها البالغة على صحة الانسان كشركة كوكا كولا وشركات التبغ , فحين تمت محاصرة منتجاتهم والتثقيف عليها علمياً واثبات ضررها , قامت تلك الشركات بضخ الاموال لمراكز بحثية لاصدار دراسات مزيفة ذات صبغ علمية لإثبات العكس , فشركات التبغ والسكاير تبنت دراسات تشكك بالعلاقة بين السكاير والاصابة بالسرطان , كما فعلت شركة كوكا كولا الامر ذاته للتشكيك بالعلاقة بين السمنة ومشروبها .
وقد تلقفت الحكومات والدول الاستعمارية ودوائر الاستخبارات الامر وطورته ليصبح علماً يساعدها في تكبيل الشعوب وتسهيل انقيادها , وقد قاد علم صناعة الجهل الى البحث عن افضل الطرق لتوزيع هذا الجهل بين أطياف المجتمعات ، فانبثقت الحاجة لماعاد يُعرف بشركات العلاقات العامة التي يعتبرها نعوم تشومسكي الابن الشرعي للحكومة الأمريكية , فكان لها تطبيقاتها البارزة في تضليل الرأي العام الأمريكي والزج به في الحروب وفي غزو العراق لاحقاً.
وتشكلت مؤسساتٍ تابعة لحكومات الكثير من الدولٍ الكبرى تخصصت في هندسة التجهيل وصناعته وتسويقه بعد ان تتم سلفنته بأغلفة مثيرة ومن ثم تسويقه على نطاقٍ واسع على المجتمعات في العالم لاسيما الاقليات الاجتماعية , (راجع مبحث 25 الحرب النفسية , مبحث 43 الاستخبارات وعلم النفس, مبحث 67 المعلومات الموجهة , مبحث 88 الاعلام والاستخبارات , مبحث 89 صناعة الرأي العام , مبحث 90 التضاريس البشرية , مبحث 96 الخداع والتضليل , مبحث 107 السحر والشعوذة.
------------
خلاصة
------------
تعمل آلية التجهيل المجتمعي على شل التفكير السليم وعدم القدرة على تحكيم المنطق في القياس والتحليل ، ثم تتحول الاراء غير المنطقية التي تضخ له إلى بديهيات صلبة لايمكن مجادلتها لتصبح من المكونات الثقافية للمجتمع والله الموفق, للبحث صلة ......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله ينفذ هجوما جويا -بمسيّرات انقضاضية- على شمال إسرائي


.. متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين يغلقون جسرا في سان فرانسيسكو




.. الرئيس الانتقالي في تشاد محمد إدريس ديبي: -لن أتولى أكثر من


.. رصدته كاميرا بث مباشر.. مراهق يهاجم أسقفًا وكاهنًا ويطعنهما




.. ارتفاع ضحايا السيول في سلطنة عمان إلى 18 شخصا