الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدل بيزنطي

ضيا اسكندر

2020 / 10 / 30
كتابات ساخرة


قبل استدعائه لأحد الفروع الأمنية بأسبوع، كُلِّفَ وليد بالخضوع لدورة تدريبية في العاصمة إبّان عمله الوظيفي. وكانت بعنوان «أصول التخاطب الإداري». سافر إلى العاصمة يحدوه الأمل بالاستفادة من هذه الدورة، لتكون ذخراً له في منصبه الجديد كرئيس للدائرة القانونية في شركته. فقد اضطرّت إدارتها مكرهةً إلى اختياره؛ فهو الوحيد في الشركة الذي يحمل إجازة في الحقوق، بعد أن زُجَّ بسلفه في السجن بسبب فساده العلني الفاجر. ومن سوء حظّ وليد المعروف بميوله السياسية المعارضة للنظام، أنه أُصِيب بصدمة قاسية منذ اليوم الأول للدورة. فقد اشتبك بجدلٍ ساخنٍ مع المُحاضر أثناء شرحه لفقرة حول آلية مخاطبة الآخر عندما قال:
«عادةً يا أبنائي ما يّذيّل الكتاب الموجَّه إلى إحدى الجهات ذات العلاقة بإحدى العبارات الآتية، والتي سوف أوردها مع التوضيح:
- للاطلاع والتقيّد: يجب أن تكون بصيغة الأمر إذا كان موجّهاً إلى المرؤوسين.
- يرجى الاطلاع: كما تلاحظون فهي لطيفة إذا كان الكتاب موجّهاً للرئيس الأعلى مباشرةً.
- يرجى التفضّل بالاطلاع: وهي في غاية الدماثة والتهذيب إذا كان الكتاب موجّهاً إلى المدير أو الوزير.
أما فيما يتعلّق بمخاطبة الزملاء في العمل، فيجب استخدام كلمة (سيد) لمن يحمل شهادة معهد متوسط، بكالوريا.. فما دون. وكلمة (أستاذ) للحائز على الشهادة الجامعية فما فوق..»
رفع وليد يده محتجّاً ومستنكراً هذا التمييز المجحف في لهجة الخطاب وقال:
- لماذا أستاذ لا نوحّد صيغة الكتاب بعبارة واحدة تشمل كافة الجهات المرسل إليها؛ كقولنا (يرجى الاطلاع) أيّاً كان المخاطَب. هل يقلّ من مقدار مُوجِّه الكتاب مثلاً إذا ما خاطب مرؤوسيه بكلمة (يرجى)؟! ثم لماذا هذا التمييز الجائر ما بين (سيّد وأستاذ)؟ فقد يكون حامل الشهادة الأدنى أكثر عِلماً وثقافةً ونزاهةً وشرفاً من حامل الشهادة الأعلى.
حدجه المحاضر بازدراءٍ وهو يهزُّ رأسه رافضاً قوله جملةً وتفصيلا وقال وهو على ثقة بإفحامه:
- يا ابني الدنيا مقامات. هناك مثلاً كلمات استُحدِثت لهذه الغاية كقولنا (فخامة الرئيس، جلالة الملك، معالي الوزير، سعادة السفير، فضيلة القاضي، سماحة الشيخ، نيافة المطران، غبطة البطريرك..) وهكذا. هل يرضيك أن نخاطب أحد أولئك باسمه فقط دون اقترانه بما يليق به من صفات الاحترام والتكريم، والتي أجمعت الدنيا على ضرورة استخدامها؟! والله أمرك عجيب فعلاً!
ردَّ عليه وليد متصبّراً على عبارته الأخيرة الاستفزازية:
- رأيي الشخصي أن كل هذه الألقاب لا ضرورة لها، ويمكن توحيدها بكلمة واحدة (الأخ أو الرفيق) ولن يكسب صاحب اللقب احتراماً إضافياً إذا ما أغدقنا عليه تلك الصفات التي ذكرت. خذ مثلاً في الاتحاد السوفييتي وباقي المنظومة الاشتراكية، فاللقب الشائع هو كلمة (رفيق) تُطلق على الجميع؛ من أكبر رتبة لمسؤول مدني أو عسكري وحتى أدناها.. ولم يكن يشعر أيٌّ منهم بالغضاضة من تلك الكلمة.
أجاب المحاضر المشهور بميوله الإسلامية، بعد أن رفع حاجبيه دهشةً واستنكاراً مستفظعاً جرأة وليد بطرحه المخالف للموروث الديني والاجتماعي:
- غير معقول أنت أبداً! هذه الدول الكافرة التي ذكرتها سقطت بسبب فشلها الذريع، وما زلتَ تقتبس منها تلك الخزعبلات؟! يا أخي إذا الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ». وتأتي حضرتك لتنسف بآرائك حتى كلام الله؟! اتّقِ ربّك يا رجل!
أجابه وهو الذي لا يطيق الغوص مع أحد في سجالات دينية:
- أستاذ أرجوك، لا أريد الخوض في مواضيع الدين. ولكن أحبّ أن أذكرك بآية من القرآن تحضّ وتؤكّد على المساواة بين البشر تقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» والنبي محمد يقول: «الناس كلهم سواسية كأسنان المشط». وبالتالي فإن الاستشهاد بآية من هنا وآية معاكسة لها من هناك لا يفيد الحوار. فالقرآن حمّال أوجه كما يقول الإمام عليّ.
تجهّم وجه المحاضر وبدأت شرارات الغضب تتقافز من عينيه وهتف بصوتٍ مجلجل:
- ألم تلاحظ بأنك تجاوزتَ كل حدود اللباقة؟! هل يُعقل ألّا تقول عند ذكرك للآية أنها من القرآن الكريم؟ ولا تقول عن الإمام عليّ، كرّم الله وجهه؟ وحتى عندما ذكرتَ النبيّ لم تتلفّظ باللازمة (صلّى الله عليه وسلّم)؟ ألستَ مسلماً يا رجل؟
صوّب إليه ما اعتقد ابتسامة مضادّة لتقريعه صنعها على عجل، وقال له بهدوء:
- حتى لو كنتُ ملحداً، لا يحقُّ لك مساءلتي ومحاسبتي. فكلّ الديانات التي تسمّونها سماوية وكذلك الأرضية.. تترك الخيار للمرء في التديّن أو سلوك نقيضه..
رمقه المحاضر وهو يكزُّ على أسنانه بنظرة جزّارٍ يجلخ سكّيناً، وقد نفرت شرايين رقبته من الغضب وصاح:
- (تُسمّونها سماوية!؟) يا لوقاحتك! اخرج من هذه القاعة حالاً. وإيّاك ثم إياك التواجد في محاضراتي من الآن فصاعداً.
بقبقت في داخل وليد مشاعر الغيظ وأوشكَت على الغليان. لكنه أراد أن يُبقيها موصودة في قلبه. وآثرَ تجنّب معركة سيكون خاسراً فيها في تلك الظروف التي كانت سائدة في البلاد. وقال له بصوتٍ قويّ وهو يُرغم نفسه على الابتسام:
- اسمح لي أن أردّد الشعار قبل انصرافي: «أمةٌ عربيةٌ ساجدة، ذاتُ رسالةٍ خاوية».
ومضى متجهاً إلى باب القاعة وهو يسمع من خلفه تلاطم عبارات التهديد والوعيد، وقد أيقظت خوفاً كامناً في داخله، تجسَّد بكلّ أبعاده المهولة بعد أيامٍ قليلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير