الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع عشر/ 1

دلور ميقري

2020 / 10 / 31
الادب والفن


العام التالي، كان عام الأحزان بالنسبة لبيان، وكانت تحمل في رحمها كاتبَ سطور هذه السيرة السلالية.
بقيت امراة جمّو إلى آخر عُمرها، تعتقد أنّ عيناً شريرة شاءت تدبيرَ مآسي ذلك العام. لقد عرفت في حينه عدةَ نساءٍ، يملكن هكذا عين غير بريئة: امرأة كَوتشي، التي طارت أرواحُ أطفالها مع ملائكتهم وهم صغار؛ وكانت عيناها، للمصادفة، زرقاوين. مزيّن، امرأة فَدو، التي علمنا مشكلتها مع الإنجاب ومبلغ كراهيتها لنساء العائلة وأطفالهن. على نفس الوتيرة من الخلق والمسلك، يُمكن تسمية هَدي، امرأة سلو.
شيرين، ذات الأعوام الأربعة، كانت تبدو أكبر من سنّها الحقيقية، بالأخص في الزقاق عندما تشارك في ألعابِ أطفالٍ من جيل الشقيقة البكر. كذلك كانت تعتبر نفسها مسئولة عن حماية شقيقها، الذي يصغرها بعام واحد. كان الأب متعلقاً بها بشدة، وكثيراً ما جعلها ترافقه إلى دار صديقه بديع، لتلهو هنالك بينما هوَ يعتني بأزهار الحديقة. في وجود الأصدقاء الآخرين، المعتادين على التواجد في الدار، كانت تدهشهم بوعيها المبكر حينَ يطرحون عليها الأسئلة على سبيل التسلية والمداعبة. بسبب اصغائها الدائب لأحاديث أولئك الأصدقاء وغيرهم، وكان محورها السياسة، صار في مقدورها أن تتباهى بالزقاق أمام أقرانها بأن الزعيم الفلانيّ هوَ صديق والدها.
في بداية ذلك العام، المنذور للأحزان، وقعت شيرين ذات مساء فريسة الحمّى. تم سقيها منقوع ورق الليمون الحلو، المعروف بنجاعته. لقد زرع جمّو شجرة الليمون الحلو في الحديقة، وكانت تمنح بركتها للأقارب والجيران. عقبَ شربها المنقوع، غطت الطفلة في نوم عميق. لكنها لم تفق بعد ذلك، أبداً. في ساعة متأخرة ليلاً، استيقظت بيان وكما لو أن أحداً هزها من كتفها. ألقت نظرةً على شيرين، الراقدة بالقرب منها، وما أسرعَ أن أطلقت صرخة رعب وجزع. جمّو، استدعيَ على عجل من دار بديع، الذي قضى فيه ليلته. غبَّ علمه بوفاة الصغيرة، لم ينبس ببنت شفة. ترك حجرة نوم امرأته، ليتجه إلى حجرة المؤونة، الباردة في هذا الوقت من الشتاء، فتكوم على نفسه فوق دكّة خشبية. كان العويل في المنزل لا يهدأ، يخترق أعماقه المغمورة بموجات من الحزن والقهر والأسى.

***
بيان، سهرت على النعش طوال الليل، وكان معها أمها وأخواتها. الجارة الطيّبة، سارو، كانت تأتي بين حينٍ وآخر برفقة ابنة حميها. جارة أخرى، اسمها " نجوى "، وكانت مقترنة حديثاً من أكبر أولاد حج عبدو، حضرت أكثر من مرة. خفتت حدة النواح مع الوقت، وفي الأثناء نامت ابنتا بيان الكبيرتان على ركبتيها بعدما شبعتا بكاءً. في اليوم التالي، عاد العويلُ يشتد وقد اقترب موعد وداع الطفلة الراحلة. جمّو، ولم يكن قد نام إلا فترات متقطعة، بكّرَ في الذهاب إلى منزل حفّار القبور، الكائن في زقاق آله رشي. عزّاه الرجل، ثم خاطبه بطريقته العملية: " القبر، سيكون جاهزاً ظهراً فيما أنتم تؤدون صلاة الميت "
" لا تشغل بالك بالصلاة، لأنني سأمضي بابنتي رأساً إلى المقبرة "، قالها جمّو بجفاء. حدجه حفّار القبور بنظرة ملية، ثم ما لبثَ أن تساءل: " أعتقد أن الدفن سيكون في مقبرة مولانا خالد، بجانب أبيك وجدّك؟ ". وكان الجوابُ هزّةً من الرأس، المثقل بالوسن والارهاق والاضطراب. بعدما نقدَ الرجل أجرته سلفاً، اتجه إلى دار صديقه بديع. مكث هناك وحيداً لحين موعد الدفن، المتّفق عليه بعيد صلاة الظهر. عاد إلى المنزل، ليجد حبيبته الراحلة مسجاة على الأريكة في صدر الإيوان. نساء الجيران، كن قد هُرعن إلى حجرة النوم كي لا ينكشفن لأنظار الرجل. حمل الطفلة برفق، وكما لو أنها ما زالت تتنفس وتتبسّم، ثم مضى بها وسط الندب والنواح. ابنتاه الكبيرتان، لحقتا به ولم ينصتا لكلماته الزاجرة. كانتا تبكيان بحرقة، وعلى لسانيهما هاتان الكلمتان: " أريدُ أختي.. ". توقف محتاراً، وكان قد أشفق عليهما لكون الطريق إلى المقبرة طويلاً وشاقاً بالنسبة لعمريهما. وإذا فيّو، ابن أخيه، يظهر عند باب دار أبيه. بناءً على طلب العم، أمسك الشابُ بيد كلّ من البنتين ليتّجه بهما إلى والدتهما.
رجع جمّو من المقبرة مباشرةً إلى دار صديقه بديع، وذلك ليأخذ قسطاً من النوم. استلقى على أريكة في الصالون، ملتحفاً ببطانية، وسرعان ما أغفى. استيقظ وكانت العتمة شاملة، وقد ازدادت البرودة في الحجرة. بطنه أخذ يؤلمه، كونه لم يتبلغ بلقمة مذ مساء يوم أمس. نهض إلى المطبخ، فوجد في البراد فاكهة ما تفتأ صالحة للأكل. كان يقضم تفاحة، لما صدر رنينُ جرسِ الباب. إذا بهم عصبة الأصدقاء. تقاطروا إلى الداخل، الواحد بأثر الآخر، وكل منهم يعانقه معزياً. على عادة ذلك الزمان، أحضروا معهم العَرقَ لأجل المناسبة الحزينة. لأول مرة منذ ليلة زفافه، يقبل جمّو الدعوة إلى كأسٍ من الشراب الناريّ.

* الرواية الأخيرة من خماسية " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن