الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التلوث البيئي الكهرومغناطيسي قاتل صامت

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2020 / 10 / 31
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


يدور الحديث حالياً في الأوساط العلمية التخصصية والشعبية المهتمة بشؤون الصحة العامة عموماً والبيئية خصوصاً، عن نموذج من التلوث البيئي أصبح يحتل كثيراً من الاهتمام لرصده بدقة أكبر والوقوف بوضوح أكثر في وجه آثاره السلبية التي تتناول المحيط الحيوي عموماً بشقيه البيئي الطبيعي والإنساني. وهذا النموذج الجديد من التلوث هو التلوث الكهرومغناطيسي، والذي يمثل في وجهه الأول الضريبة الباهظة الثمن لمنجزات الوعي الاستهلاكي التي يبدو أن ضحيتها عبارة عن مجتمعات بأسرها غير محدودة بأفراد بعينهم.

وفي هذا السياق فقد تم إجراء مجموعة من الأبحاث مؤخراً في جامعة امبريال كولج – لندن تناولت علاقة الإشعاعات الكهرمغناطيسية الناجمة عن مرور التيار الكهربائي في دارة معينة صغيرة كانت أم كبيرة مولدة بذلك حقلاً كهرمغناطيسياً قد يشمل مساحة كبيرة محيطة بتلك الدارة ترتبط أساساً بشدة التيار وتواتره حين مروره في هذه الدارة. وتناولت الدراسة المصادر الثلاثة التي أصبحت تشكل خطراً عضوياً على حياتنا الحاضرة وهي أسلاك ومحولات الكهرباء ذات التوتر العالي، وأجهزة الهاتف المحمول، وشاشات الحواسيب وعتاده غير المطابق للمواصفات المرتبطة بشروط السلامة، وخاصة وحدات توزيع إشارة الانترنت اللاسلكية المعروفة بـ WiFi.

وكانت النتيجة المؤلمة للدراسة التي عملت على تحليل البيانات الصحية لآلاف من المرضى تشير إلى ازدياد متسارع لعلاقة التناسب الطردي بين الأسباب الثلاثة المذكورة وبين زيادة وقوعات السرطانات عموماً، وسرطان الدم خصوصاً، وبالتحديد عند الأطفال.

ولا تخفى على أحد منا حقيقة التعتيم الذي تسعى إليه الشركات الاحتكارية الكبرى التي تسوق تلك المنتجات المتهمة بزيادة التلوث الكهرومغناطيسي، وسعيها إلى إغلاق كل الطرق لوصول الحقيقة إلى المستهلك، وبدلاً من ذلك تعمل على تأصيل كل تنويعات و تمظهرات الوعي الاستهلاكي المنفلت من كل عقال عقلاني في حياة الإنسان العادي اليومية، بحيث تعمل على تخليق وعي فردي و جمعي شامل عمقاً و سطحاً يرى بأن هذا المنتج الجديد أو ذاك يمثل حاجة عضوية لا يمكن الحياة دونها على الإطلاق، وأن الفرد بعدم تكامله معها سيكون متخلفاً عن الركب الحضاري وموكب العولمة، و هو ضالة المنهج العام للشركات الاحتكارية الكبرى لتحويل الإنسان من كائن فاعل نقدي في هذا العالم إلى مجرد مستهلك تستطيع اللعب بعواطفه وأهواءه وقيادته إلى الجهة التي تراها مناسبة لإنفاق أمواله ومدخراته.

وسنحاول فيما يلي عرض مجموعة من الحقائق والتحليلات العلمية وبشكل مبسط محاولين تتبع جوهر العملية الإمراضية التي تقود إلى زيادة وقوع السرطانات عند أولئك المتأثرين بذلك التلوث الكهرومغناطيسي.

يقوم التفسير العلمي الأول على كون الحقل الكهرومغناطيسي، الذي أشرنا إلى كيفية تكونه أعلاه، يمثل مساحة من الفضاء تتولد فيها جاذبية ناجمة عن هذا الحقل الذي يشبه وبكثير من البساطة تجربة صنع المغناطيس الكهربائي عن طريق صنع وشيعة من سلك كهربائي وربطها ببطارية صغيرة وجعلها بالتالي تجذب برادة الحديد عن طريق الحقل المغاطيسي المتولد عنها، ولكن الحقل الكهرمغناطيسي في حالة مسببات التلوث البيئي الكهرمغناطيسي يتميز باتساع المساحة التي يستطيع أن يشملها والتي قد تصل في حالات كابلات التوتر العالي حتى 500 م2، وتستطيع هذه الجاذبية التي ولدها الحقل الكهرمغناطيسي جذب كل الجزئيات الدقيقة المنتشرة في الهواء الذي ينتشر من خلاله هذا الحقل. وهذه الجزئيات الدقيقة هي أساساً عبارة عن مجموعة متباينة العناصر عمادها دخان السيارات وأبخرة المصانع والصناعات المختلفة. وتسمى هذه الجزئيات الدقيقة طبياً بضبوطات التلوث. وأهم سمة لهذه الجزئيات الدقيقة وخاصة في المدن المزدحمة والمكتظة بالأكداس الهائلة من السيارات العاملة بمحركات الديزل، أنها مواد أثبت علمياً تأثيرها السرطاني الذي سوف نشير فيما يلي كيف يؤدي الحقل الكهرمغناطيسي من خلاله جذبه لهذه الجزئيات إلى زيادة وقوع السرطان.

ويمكن توضيح ذلك من خلال معرفتنا بكون هذه الجزئيات تتعرض عند وقوعها في حقل جاذبية الحقل الكهرومغناطيسي إلى تأثر بقوته الجاذبة فيزداد تركيزها، ولكنها أيضاً تتأثر بقوته الكهربائية مما يكسبها شحنة كهربائية ساكنة وذلك يجعلها أكثر قدرة على الالتصاق بجسم الإنسان زيادة على تكاثرها من حوله جراء الجاذبية التي تعرضت لها، وإن أكثر جهازين يتعرضان للتأثير المباشر لزيادة التصاق هذه الجزئيات المسرطنة الدقيقة هما الجلد والجهاز التنفسي، فزيادتها على الجلد أدت وتؤدي إلى التسارع المذهل في وقوع سرطان الجلد الذي أثبتت الأبحاث ترابطه الدقيق مع زيادة الملوثات وخاصة ذات المصدر النفطي على سطح الجلد، بالإضافة إلى أنها أثبتت أن تلك الملوثات يزيد تركيزها بمقدار 20 –30 ضعفاً عند أولئك المتأثرين بالتلوث الكهرمغناطيسي.

أما زيادة التصاقها بالجهاز التنفسي فهي حقيقة ذات تأثير بائس مزدوج فأولاً تؤدي من خلال تأثيرها المباشر على مخاطية الطرق التنفسية إلى زيادة وقوع سرطان الطرق التنفسية ومن ضمنها الرئة والقصبات وخاصة إذا ترافق ذلك مع التدخين؛ وثانياً وهو ما يمثل درجة عالية من الخطورة التي تتمثل بإمكانية عبور هذه الجزيئات من خلال جدر الأسناخ الرئوية إلى الأوعية الدموية لتدور مع الدم في مختلف نسج الجسم. ويعتبر النسيج المولد للدم هو من أكثر النسج حساسية للتأثر بالمواد المسرطنة ذات المصدر النفطي والتي تمثل العماد الأساسي للجزئيات الدقيقة التي يجذبها إليه الحقل الكهرمغناطيسي، وهذا ما يفسر زيادة وقوع سرطان الدم عند الأطفال المتأثرين بمثل هذا الحقل إلى 13 ضعفاً وقد وضحت ذلك الدراسة التي أشرنا إليها سابقاً وأجريت في بريطانيا.

ومع اختلاف المظهر بين الأسباب الثلاثة المولدة للتلوث الكهرمغناطيسي أي كابلات ومحولات الكهرباء ذات التوتر العالي، الهواتف المحمولة، وعتاد وشاشات الحواسب غير المطابقة لشروط السلامة و خاصة وحدات توزيع إشارة الانترنت اللاسلكية المعروفة بـ WiFi، فإن الجوهر للأزمة والمشكلات الناجمة عنهم يتمثل أولاً وقبل كل شيء في السعي المحموم للشركات الاحتكارية ومروجيها للربح السريع والفاحش وغير الأخلاقي في معظم الأحيان – وجهل المستهلك بحقيقة الأمر وتحوله تدريجياً إلى كائن استهلاكي منفعل فقط ومتلقي نسي في إطار هزيمته الشاملة كإنسان معني بأن يكون إنساناً فاعلاً وناقداً ومنتمياً إلى مجتمع يشعر بالترابط معه و الانتماء إليه، ويدافع عنه ليحتمي به في وقت الشدة، دون أن يقع في شرك الوعي الاستهلاكي البائس والانعزالية والأنانية واستقالة العقل الفاعل متحولاً إلى محض اسفنجة ماصة لكل ما يتم زرقه بها.

وينبغي أن نشير إلى أن التوجهات والرؤى التي تستهدف حماية الفرد من هذا التلوث يجب أن توضع في إطار مؤسسي مجتمعي شامل وليس في إطار رؤى فردية قد تكون مصيبة ومخلصة ولكنها في معظم الحالات مقصرة عن الإلمام بالحاجة الشاملة للمجتمع الذي يجب أن تشترك فئاته وشرائحه كافة في حماية صحتها ومستقبلها ومستقبل أطفالها الذين يشكلون اللبنة الأولى لضمان عيوشية ذلك المجتمع وقدرته على إعادة إنتاج نفسه.

وفي العموم يجب أن تتناول التوجهات محاولة التعديل أو إزالة الأسباب المؤثرة من خلال زيادة المسافة بين كابلات الكهرباء التي تنقل التوتر العالي وكذلك المحولات وبين الساكنين قربها، بالإضافة إلى وضع شروط صارمة تتناول الصفات الفنية لعتاد الحواسب الذي يجب أن يطابق المواصفات العالمية، وتنوير المستخدمين للهاتف الجوال حول الأخطار التي يمكن أن يتأثر بها باستعماله، وتحذيرهم من عدم جواز استخدام الهاتف الجوال في التجمعات المكتظة بالسكان، وفي الأماكن المغلقة غير المهواة، و خاصة تلك التي يتواجد فيها أطفال تحت سن 16 سنة.

وبالإضافة إلى ذلك يجب السعي وبشدة بشكل يتسق مع الخطوات الجبارة سابقاً في منع الإعلام الذي يروج للتدخين، فيجب كذلك الحد من كل الإعلام والدعاية الجائرة التي تروج لتلك المنتجات الاستهلاكية المتهمة بتسبب التلوث البيئي الكهرومغناطيسي، وخاصة الهواتف الجوالة التي أصبح الإدمان على استخدامها كارثة صحية قائمة بذاتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا، أي تداعيات لها؟| المسائية


.. الاتحاد الأوروبي يقرر فرض عقوبات جديدة على إيران




.. لماذا أجلت إسرائيل ردها على الهجوم الإيراني؟ • فرانس 24


.. مواطن يهاجم رئيسة المفوضية الأوروبية: دماء أطفال غزة على يدك




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا الحربية أغارت على بنى تحتية ومبان