الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اميركا المهندس الاكبر للدور الجيوستراتيجي التوسعي لتركيا

جورج حداد

2020 / 11 / 3
العولمة وتطورات العالم المعاصر


إعداد: جورج حداد*


لا شك ان العلامة المميزة الاولى لحرب اكتوبر-تشرين الاول 1973 كانت، كما وصفتها غالبية المحللين الموضوعيين، "حرب تحريك"، مكنت النظام المصري بقيادة انور السادات من الخروج من حالة اللاسلم واللاحرب، والتقدم نحو اقرار "السلام" مع اسرائيل، مقابل انسحابها من شرقي القناة ومن سيناء المحتلة.
ولكن من زاوية نظر معينة يمكن ايضا اعتبار ان حرب اكتوبر 1973 مثلت نقطة تحول في الجيوستراتيجية الاميركية المطبقة في "الشرق الاوسط الكبير" (حسب التوصيف الاميركي للاقليم).
فحتى ذلك التاريخ كانت الجيوستراتيجية الاميركية المطبقة في المنطقة تتمحور حول الدعم المطلق لاسرائيل، اولا في سياستها التوسعية جغرافيا، وثانيا كي تكون اقوى قوة عسكرية في المنطقة، قادرة على سحق جميع الجيوش العربية مجتمعة. ولهذه الغاية كانت جميع الامكانيات الاستخبارية (الاقمار الصناعية وغيرها) والمالية واللوجستية والعسكرية، الاميركية، موضوعة في خدمة الدولة والجيش الاسرائيليين.
ومؤخرا سرّبت معلومات الى الصحافة الاميركية تفيد انه عشية حرب اكتوبر 1973 تمت اتصالات سرية بين السادات ووزير الخارجية الاميركية السابق هنري كيسنجر، حيث اتفق الطرفان ان لا تقوم القيادة الاميركية بابلاغ الاسرائيليين مسبقا عن حشودات الجيش المصري، كي يتمكن من مفاجأة خط الدفاع الاسرائيلي على الضفة الشرقية للقناة وتحقيق اختراق محدود، لاظهار السادات بأنه "بطل الحرب" ("بطل العبور" و"بطل التحرير")، وتمكينه بهذه الهالة البطولية من العبور الى "السلام" مع اسرائيل بصفته "بطل السلام" ايضا.
ويبدو ان المخابرات العسكرية الاميركية كانت موقنة ان "المفاجأة" العسكرية المصرية لن تمثل اكثر من "عملية ازعاج محدودة" للجيش الاسرائيلي القوي، القادر على استيعاب المفاجأة وتجاوزها بسرعة، بفضل المساعدة الاميركية الاكيدة.
ولكن التطورات الميدانية على الارض بددت هذا الافتراض. فالجيش المصري اخترق بشدة خطوط الدفاع والمواقع الاسرائيلية. وكذلك الجيش السوري في مرتفعات الجولان المحتل. ولولا المساعدة المعلوماتية واللوجستية والعسكرية، السريعة والكثيفة، التي تلقاها الجيش الاسرائيلي من اميركا، لكانت هزيمة هذا "الجيش الذي لا يقهر" احتمالا كبيرا جدا.
وقد استنتجت القيادة الاميركية من ذلك ان زمن الاعتماد الاميركي المطلق على "القوة الساحقة" للجيش الاسرائيلي لاجل السيطرة على المنطقة العربية ذات الاهمية الجيوستراتيجية الاستثنائية، ـ هذا الزمن قد ولى الى غير رجعة، بفضل اختلال موازين القوى التسليحية العالمية لصالح تزوّد الجيوش العربية المعنية بالاسلحة السوفياتية المتطورة، وبفضل وطنية وشجاعة وبطولة وكفاءة القوات المسلحة العربية وكوادرها القيادية الصادقة. وقد تأكد هذا المعطى لاحقا في الهروب العشوائي لجيش الاحتلال الاسرائيلي من الاراضي اللبنانية في ايار 2000، ثم في الانسحاب الاسرائيلي المذل من قطاع غزة في 2005، واخيرا في هزيمة العدوان الاسرائيلي على لبنان في 2006.
وتشير الدلائل انه انطلاقا من هذا المعطى الجديد الذي ظهرت بوادره بوضوح في حرب تشرين الاول-اكتوبر 1973، قررت القيادة الاميركية إجراء تعديلين جوهريين في الجيوستراتيجية الاميركية المطبقة في "الشرق الاوسط الكبير"، وهما:
اولا ـ وبدون التخلي عن دعم السياسة العدوانية التوسعية ـ التفوقية لاسرائيل، ـ العمل لنقل نقطة الارتكاز في الصراع العربي ـ الاسرائيلي نحو السعي المحموم لانتزاع شرعية وجود اسرائيل، عن طريق السعي لتظهير الاعتراف العلني باسرائيل من قبل الانظمة السايكس ـ بيكوية العربية. ومن ثم تحقيق "السلام" بين تلك الانظمة واسرائيل، وان كان ذلك "بثمن" تقديم بعض التنازلات والتسهيلات و"المساعدات" للانظمة السايكس ـ بيكوية التي ترضى بركوب قطار "السلام الاسرائيلي". وقد دشن هذا التعديل الجيوستراتيجي الاميركي في توقيع "اتفاقية كامب دايفيد" في 1979، التي اخرجت النظام المصري من حلبة الصراع مع اسرائيل، مقابل الانسحاب الاسرائيلي من سيناء، واستعادة مصر لمكامن النفط والغاز فيها، واعادة تشغيل قناة السويس، التي كانت متوقفة منذ هزيمة حزيران 1967.
وبعد اتفاقية كامب دايفيد، جاءت "اتفاقية اوسلو" بين اسرائيل والقيادة التفاهمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي وقعت سنة 1993. واعقبتها اتفافية "السلام" الاسرائيلية ـ الاردنية، المسماة "اتفاقية وادي عربة" سنة 1994. والان تكرّ سبحة اعترافات الانظمة التطبيعية العربية باسرائيل. وهي العملية التي تديرها القيادة الاميركية بالتنسيق الكلي مع النظام السعودي المارق، الذي يخطط بدوره للاعتراف باسرائيل في "يوم تاريخي مشهود" لعودة "السلام والوئام" بين احفاد ايزاك وصموئيل، ابني نبي اليهوه ابرام عليه افضل الشالوم!
والتعديل الجيوستراتيجي الاميركي الثاني في المنطقة هو ـ وبدون التخلي عن الدور الاقليمي المركزي لاسرائيل في المنطقة، بوصفها الركيزة الرئيسية للامبريالية الاميركية ـ اليهودية، ـ التوجه اكثر للاعتماد على العامل الاسلامي وخصوصا على دور تركيا في تطبيق الجيوستراتيجية الاميركية المعادية للشيوعية وللحركة التحررية لشعوب المنطقة. وبعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، وفشل القضاء عليها في الحرب الظالمة العراقية ـ الايرانية في 1980 ـ 1988، ترسخ بشدة التوجه الجيوستراتيجي الاميركي للاعتماد على تركيا كقوة اقليمية كبرى يجري تأهيلها للوقوف بوجه محور المقاومة بقيادة ايران الثورية، وهو ما لا تستطيعه لا اسرائيل ولا انظمة الخيانة الخليجية، معا.
وعلى خلفية التوجه الجيوستراتيجي الاميركي الجديد، قام الجيش التركي في تموز 1974 بغزو شمالي جزيرة قبرص، بحجة منع توحيد الجزيرة مع اليونان وحماية الاقلية التركية في شمالي الجزيرة، وكانت تمثل نسببة 18% من السكان. وقد تغلب الغزاة الاتراك بسرعة على الجيش القبرصي الصغير والضعيف، واحتلوا 35% من اراضي الجزيرة، اي ضعف نسبة عدد السكان القبارصة الاتراك وهو 18%، ونظموا "حمام دم" حقيقيا ضد القبارصة اليونانيين (قطع الرؤوس وقتل النساء والاطفال الخ، تماما على الطريقة "الداعشية" فيما بعد) وطردوا اكثر من 160 الف قبرصي يوناني من شمالي الجزيرة، الذين فروا الى الجنوب. ومنذ ذلك التاريخ تحولت منطقة الاحتلال التركي في شمالي الجزيرة الى "منطقة ادارة ذاتية" استوطن فيها عشرات الوف المواطنين الاتراك. وفي عام 1983 تم اعلان منطقة الاحتلال التركي بوصفها "جمهورية شمالي قبرص التركية"، التي لم تعترف بها اي دولة في العالم سوى تركيا وحدها. وترتبط هذه "الجمهورية" الان اقتصاديا ارتباطا كليا بتركيا وتستخدم فيها الليرة التركية، وهي تعيش على المساعدات التركية فقط. ويربط المحللون الموضوعيون عملية احتلال تركيا لشمالي قبرص، مدعومة ضمنيا من اميركا، بالاكتشاف الاميركي المبكر لمكامن النفط والغاز في شرقي المتوسط.
ومنذ ذلك الحين بدأت عملية تشكيل "الجيش الارهابي الاسلاموي العالمي"، وجعل تركيا مركزا اساسيا وقياديا له، مما يتطابق تماما مع العقيدة التوسعية "العثمانية الجديدة" (الاسلاموية ـ الاتاتوركية) لحزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب اردوغان.
وقد اضطلع "الجيش الارهابي الاسلاموي العالمي" بدور اولي في تنظيم الحرب "الجهادية" ضد السوفيات في افغانستان في ثمانينات القرن الماضي. وقد كانت تركيا قاعدة التمركز والانطلاق الرئيسية لهذا الجيش في الغزوة الداعشية لسوريا والعراق سنة 2014 تحت شعارات "الربيع العربي" المشؤوم. وبعد سقوط "الخلافة الداعشية"، قامت القوات النظامية التركية مباشرة بالتوغل في الاراضي السورية والعراقية، ولا تزال هناك، بحجة "حماية الامن القومي التركي". ثم تدخلت تركيا مباشرة في ليبيا، وارسلت الوف المقاتلين التكفيريين من سوريا، اجانب وسوريين، بالاضافة الى قوات نظامية تركية، للقتال في ليبيا الى جانب حكومة السراج الكراكوزية الانفصالية، التي وقعت مع نظام اردوغان اتفاقية بحرية لايجاد ممر بحري عريض من تركيا الى ليبيا، خلافا لجميع القوانين الدولية، من اجل السيطرة على مكامن النفط والغاز في شرقي المتوسط، وفي تعد صارخ على الحقوق البحرية لليونان وقبرص ومصر وفلسطين المحتلة وسوريا ولبنان. وبعد توقيع الاتفاقية التركية ـ الليبية (السراجية) عمدت تركيا الى ارسال سفينة تنقيب الى المياه الاقليمية اليونانية والقبرصية، بحماية الاسطول الحربي التركي، وافتعلت ازمة عسكرية مع اليونان لا تزال محتدمة الى اليوم. ومؤخرا عملت تركيا على اشعال الصراع المسلح بين ارمينيا واذربيجان لاهداف عدوانية عديدة، من اهمها محاولة إلهاء روسيا والضغط عليها من اجل تقديم تنازلات في سوريا ولبنان وشرقي المتوسط. ويرشح الان من الصحافة اللبنانية انه في الفترة الاخيرة تعمل المخابرات التركية لخلق بؤرة مسلحة موالية لتركيا في شمال لبنان، تتألف نواتها من المسلحين التكفيريين الذين كانوا يقاتلون في اطار التنظيمات التكفيرية في سوريا، كما تفيد ان المراجع التركية تعمل على منح الوف المواطنين اللبنانيين في الشمال الجنسية التركية، على اعتبار انهم من اصول تركية او تركمانية. وهي تهدف من راء كل ذلك الى خلق "حالة تركية" مصطنعة في شمال لبنان، تمهيدا للتدخل التركي المباشر في الاوضاع اللبنانية.
وفي 18 تشرين الاول 2020 المنصرم، جرت في "جمهورية شمالي قبرص التركية" غير المعترف بها، انتخابات رئاسية، فاز فيها المرشح القومي اليميني ارسين تتار (بنسبة 51،74%)، الذي يدعو الى الاتحاد مع تركيا، على منافسه مصطفى اكينجي الذي يدعو الى اعادة توحيد الجزيرة بأي صيغة يتفق عليها الطرفان اليوناني والقبرصي. ويقول اكينجي ان تركيا تدخلت بشكل فظ جدا لدعم منافسه تتار، وانه هو وافراد عائلته تلقوا تهديدات للانسحاب من الانتخابات. ويقول بعض الخبراء ان القيادة الاردوغانية تخطط لحشد الوف الارهابيين التكفيرييين المرتبطين بها، في شمالي قبرص، ولافتعال مذبحة تركية ـ اسلاموية جديدة ضد القبارصة اليونانيين وطرد غالبيتهم من الجزيرة، وتوسيع الاحتلال التركي للجزيرة، واعلانها ارضا تابعة للدولة التركيةتقطنها "اقلية" يونانية، اي كما كانت في الحقبة السوداء للاستعمار العثماني لقبرص حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومن ثم تحويل الجزيرة الى معسكر حربي تركي كبير، لتطويق اليونان في الشمال، وسوريا ولبنان في الشرق، وفلسطين المحتلة ومصر في الجنوب، والتنسيق الكامل مع الكيان الاسرائيلي، ومع اميركا، لفرض سيطرة اسرائيلية ـ تركية ـ اميركية كاملة على شرقي المتوسط، وعملية استخراج النفط والغاز من مكامنه الغنية، واحتكار مد الانابيب الى اوروبا.
ويحظى هذا المخطط بدعم الدول النفطية الخليجية (وعلى رأسها السعودية) المتهافتة للتطبيع مع اسرائيل، والتي تجد في تحقيق هذا المخطط مدخلا ليكون لها حصة في اعادة بعث "الخلافة الداعشية"، التي سقطت في سوريا والعراق، بوجه "عثماني جديد"، ومن ثم المشاركة في ريعيات استخراج النفط والغاز من شرقي المتوسط.
والجدير بالذكر ان اميركا تحاول ان تضع مسافة هامش بينها وبين تركيا، وان تضفي على سلوكية القيادة الاردوغانية طابعا من "الاستقلالية" الظاهرية والشكلية والتاكتيكية. ولكن جميع القرائن الواقعية تشير الى ان اميركا هي المهندس الاكبر لسيناريو تعظيم الدور الجيوستراتيجي للتوسعية العدوانية "العثمانية الجديدة" لتركيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألمانيا والفلسطينين.. هل تؤدي المساعدات وفرص العمل لتحسين ال


.. فهودي قرر ما ياكل لعند ما يجيه ا?سد التيك توك ????




.. سيلايا.. أخطر مدينة في المكسيك ومسرح لحرب دامية تشنها العصاب


.. محمد جوهر: عندما يتلاقى الفن والعمارة في وصف الإسكندرية




.. الجيش الإسرائيلي يقول إنه بدأ تنفيذ -عملية هجومية- على جنوب