الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روزنامة الأسبوع مَا الدِّبَيلُو؟! وَمَا مُفَوَّضِّيَّتُهُ؟!

كمال الجزولي

2020 / 11 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


الإثنين
لا شكَّ لديَّ في أن عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء الانتقالي، كان راغباً، بجدِّيَّة، في الفصل بين مسألتي «الاتِّفاق على التَّطبيع مع إسرائيل»، و«رفع اسم السُّودان من قائمة الدُّول الرَّاعية للإرهاب»! فالأخيرة من أوجب واجبات الفترة الانتقاليَّة التي يرأس حكومتها، على حين لا تُعتبر الأولى من مهامها البتَّة، بل ينبغي أن تقرِّرها حكومة منتخبة، حالة كونها أتِّفاقاً دوليَّاً استثنائي الخطورة، يمس إحدى أهمِّ استراتيجيَّات الدَّولة السُّودانيَّة، وليس محض معاملة عاديَّة مِمَّا تبرمه الدُّول في ما بينها كلَّ يوم، وذلك في مواجهة ضلعين خطيرين، أمريكا بقضِّها وقضيضها، وإسرائيل، بكلِّ تعقيدات وضعها الدَّولي والإقليمي. وفوق ذلك، بل بسبب ذلك، يقتضي الاتِّفاق أن يُعرض على نوَّاب الشَّعب في مجلس تشريعي منتخب بغرض المصادقة ratification. فمنذ وقوع التَّحوُّلات الإنسانيَّة والدِّيموقراطيَّة العميقة، ابتداءً من القرن الثَّامن عشر، تطوَّرت الأنظمة السِّياسيَّة، وبالضَّرورة السِّياسة الخارجيَّة، باتِّجاه علاقات دوليَّة لم تعُد حكراً على الدَّوائر الضَّيِّقة المغلقة للملوك والشَّرائح الأرستقراطيَّة العليا، بل ازدادت انفتاحاً على الإرادات الشَّعبيَّة، وخضوعاً للعمليَّات الدُّستوريَّة الدَّاخليَّة، وارتباطاً بمناقشات الرَّأي العام الواسعة، في الصُّحف، والنَّدوات، ووسائل الإعلام المختلفة، ومن باب أولى داخل الأجهزة التشريعيَّة/ الرَّقابيَّة. لذا أجدني مختلفاً، تماماً، للأسف، مع أخي أحمد تقد لسان، القيادي الرَّفيع بحركة العدل والمساواة التي أكنُّ لها أعلى إعزاز وتقدير، وكذلك مع كلِّ من يحاول أن يؤكِّد مثله، بالفم الملآن، عدم لزوم، أو حتَّى أهميَّة عرض اتِّفاق «التَّطبيع مع إسرائيل» على نوَّاب الأمَّة، كما لو كان صفقة تصدير بطاطس أو لحوم مجمَّدة!
لقد وُفِّق حمدوك، في البداية، بإصراره على طرح القضيَّة في مسارين منفصلين، معتذراً، بهدؤ، كون تفويضه الانتقالي لا يشمل «التَّطبيع». غير أنه عاد وأخطأ خطأ كبيراً بالتَّكتُّم على الضُّغوط التي مورست عليه، وعدم مبادرته لمكاشفة الشَّعب، فوراً، بخلفيَّات وملابسات حصاره، خارجيَّاً وداخليَّاً، تاركاً لترامب وبرهان، أن يبادرا بإحكام ذلك الحصار حوله، واختطاف السَّبق بإعلان الاتِّفاق على «التَّطبيع»، عمليَّاً وتنفيذيَّاً، من خلال مسرحيَّة الهواتف الرُّباعيَّة الهزليَّة، بالجُّمعة 23 أكتوبر 2020م. ولو كان قد فعل، فلربَّما كان قد ساعد، على الأقل، في نقل القضيَّة إلى أيدي الجَّماهير، ومن ثمَّ في تفادي البلبلة التي بات يعاني منها المشهد السِّياسي في الداخل!
أحمد تقد لسان لم يكتف بنفي لزوم توسيع التَّشاور حول الاتِّفاق في مجلس تشريعي منتخب، إن لم يمكن عرضه على المجلس التَّشريعي الانتقالي المغيَّب، الآن، عمداً (!) بل زاد بأن أعلن، من خلال برنامج «محور الأحداث» على شاشة تلفزيون السُّودان، بالإثنين 26 أكتوبر 2020م، اتِّفاقه مع د. نصر الدِّين عبد الباري، وزير العدل الموقَّر، في قطعه، ضمن مقالة مثيرة للجَّدل بأننا «ليست لدينا في السُّودان ثوابت متَّفق عليها»! ويؤسفني، أيضاً، أن أختلف، هنا، مع كليهما، متعجِّباً من قولهما، إذ أن لدينا، في الواقع، من هذه الثَّوابت، ما يكفي، في الحقيقة، لحجب قرص الشَّمس! وإلا ففيم تضحيات الشُّهداء والجرحى، منذ فجر الحركة الوطنيَّة؟! أيمكن لعنزين، حقَّاً، أن تنتطحا على حقيقة أن من ثوابتنا، مثلاً، لا حصراً، احترام حقوق الإنسان، ومناهضة العنصريَّة، والصُّهيونيَّة، والاستعمار، قديمه وجديده، وكراهة الظُّلم، ومعاداة الظَّلمة، ومناصرة المظلومين، وأن منها، فوق كلِّ هذا وذاك، «الدِّيموقراطيَّة» التي ارتبطت، كقيمة، باستقلالنا السِّياسي نفسه، وأضحت، طوال تاريخنا الحديث، قانوناً «ثابتاً» لكلِّ ثوراتنا، وانتفاضاتنا، وهبَّاتنا؟! وهل، ترانا، نحتاج لأن نمضي إلى أبعد من ذلك، في إثبات ثوابتنا؟!
في مستوى آخر يصعب هضم التناقض الجَّهير في مواقف المؤيِّدين لتنازلنا في شأن «التَّطبيع» مقابل شطب اسمنا من قائمة الإرهاب، فما ينفكُّ كلٌّ يبثُّ بلسان مختلف، وعلى موجة مغايرة! إذ أوردت المصادر، مثلاً، أن الفريق أوَّل محمد حمدان دقلو حميدتي، نائب رئيس مجلس السَّيادة، نفى، بالاثنين 26 أكتوبر 2020م، أيَّة علاقة بين المسألتين. وبدا، للوهلة الأولى، أن الفريق أوَّل عبد الفتَّاح البرهان، الذي هو رئيس نفس المجلس، يتطابق مع نائبه، حين صرَّح، مساء نفس اليوم، في حوار مع لقمان على تلفزيون السُّودان، بعد سويعات من نشر حديث حميدتي، بأنهم لم يتعرَّضوا لأيِّ «ابتزاز» كي يقبلوا بـ «التَّطبيع»، وتحدَّى الأحزاب الرَّافضة أن تكشف عن هذا «الابتزاز»! غير أنه، بدلاً من أن ينتظر ردَّ الرَّافضين، سرعان ما ارتدَّ، هو نفسه، على عقبيه، في نفس الحديث، ليتولى، في التَّو والحين، إثبات علاقة «الابتزاز» هذه، حيث لم يتوان في التَّصريح، لا يلوي على شئ، بأن «التَّطبيع» هو، في الواقع، «محفِّزلأمريكا كي ترفع اسم السُّودان من قائمة الإرهاب»! وتماهى معه الفريق أوَّل ياسر العطا، عضو مجلس السَّيادة، مشدِّداً، ضمن تقرير لصحيفة «الدِّيموقراطي» بالثُّلاثاء 27 أكتوبر 2020م، على أن «التَّطبيع» مرتبط بإزالة اسم السُّودان من لائحة الإرهاب! ولم يتوان، من جهته، كذلك، أحمد تقد، النَّاطق باسم أحد أقوى مراكز الدَّعم السِّياسي لموقف البرهان، من خارج السُّلطة، في أن يعلن، صراحة، ضمن حديثه نفسه في برنامج «محور الأحداث»، وبعد سويعات، أيضاً، من حديث الأخير، أن من الصَّعب الفصل بين «التَّطبيع» وبين رفع اسم السُّودان من قائمة الإرهاب!
ورغم نفيه، في البداية، لهذه العلاقة، كما قد رأينا، إلا أن حميدتي نفسه عاد وأثبتها، بصراحته المعهودة، حين أضاف لشكره لترامب على القرار الذي قال إنه طال انتظاره 27 عاما، أن السودان «يعوِّل على الحصول على مساعدات من إسرائيل (!) في مجالات الزِّراعة والاقتصاد والتكنولوجيا وغيرها!» (سودانايل ـ وكالات)؛ علماً بأن الخبراء يجمعون على أن إسرائيل ليس لديها قلامة ظفر تقدِّمها، وأن وضعها الاستثنائي، في مضمار العلاقات الدَّوليَّة، هو وضع اليد السُّفلى، بالابتزاز، كمنهج صهيوني ثابت! لذا، فإن ما ينتظره حميدتي من إسرائيل لا يعدو قبض الرِّيح، في حين لم يعُد سرَّاً أنها، بجانب المكسب السِّياسي، ستحصل، بالمجَّان تقريباً، على أحد أكبر مكاسبها الاقتصاديَّة، منذ تأسيسها بعد الحرب العالميَّة الثَّانية، وهو فتح أجواء السُّودان أمام طيرانها كمعبر مختصر إلى وسط وجنوب أفريقيا!
من جهة مغايرة، وإن كانت ذات صلة بعلاقة الأخذ والعطاء هذه، فإن أحمد طه، الإعلامي بقناة الجزيرة، لم يجد ما يعبِّر به عن استغرابه من «دَفْعِ» السُّودان ثمن سلعة لم يستلمها بعد، غير اجترار مثل سوداني شوارعي شديد البذاءة، لا أدري من عرَّفه به، يقول: «الدَّفِع قبل الـ ...»!

الثُّلاثاء
سعدت بقضاء الأسبوع الماضي في أحضان جوبا السَّاحرة، عاصمة الجَّنوب الحبيب، مشاركاً في جولة مفاوضات غير رسميَّة انعقدت هناك مع وفد من الحركة الشَّعبيَّة/ الحلو، حول قضيَّة «العلمانيَّة/ الدِّين والدَّولة»، فَرَاقَ لي تضمين روزنامة هذا الأسبوع قصيدة كنت كتبتها في يوليو 2011م، وأسميتها «الذَّاهبون»، ولم أنشرها من قبل:
[هَا هُوَ النِّيلُ القَدِيمُ يَسرِي خَلْفَ أَضلاعِ الزَّمانِ واهِنَا/ هَا هُوَ النِّيلُ القَدِيمُ اليَسْتَجيشُ، كَانَ، نُضْرَةً، عَلَى ضِفَافِ القَلْبِ، دَانِياً، ومُمْكِنا/ هَا هُوَ ذَا يَفِيضُ، الآنَ، بِالوَهْمِ الفَصِيْحِ، قَبْضِ الرِّيحِ، والسَّرَابْ/ وبالتَّوَهُّجِ الحَارِقِ، السَّمكِ النَّافِق، الزَّوَارِق الغَرْقَى، وبالتَّمَاسِيحِ الكسَالَى، والكُهُوفِ الكَابِيَاتِ تَحْتَ دَخْنَةِ الضَّبَابْ/ طِوَالَ النَّهَارِ تَحْتَ دَخْنَةِ الضَّبَابْ/ وفي المَسَاءِ يَنْفُثُ الدُّخَانَ، والقِطْعَانَ، وَالزَّبَدَ النَّدِيْفَ، والعُبَابْ/ فَيَا أيُّهَا الذَّاهِبُونَ، خَبَباً، فِي طَريق الذِّهَابْ/ أيُّهَا المُوغِلُونَ فِي الرَّحِيلِ المُرِّ والغَيَابْ/ نَعْلَمُ لَمْ تعُدْ فِي دِنَانِ صَّبْرِكُم قَطْرَةٌ/ نعلمُ لَيْسَ مَا يُغْوِي فِي سِلالِنَا العِجَافِ بِالإِيَابْ/ لَكِنَّنَا نُقْسِمُ بالأِيْمَانِ، بِاللهِ العَظِيْمِ، "نَلْحَسُ سِنَّةَ القَلَمِ .. ونَلْعَقُ ذَرَّةَ التُّرَابْ"/ فُصُودُكُمْ سَتَبْقَى، خَالِدَاتٍ، فِي جِبَاهِنَا/ وأَغْنِياتِكُمْ نَدِيَّةَ، عَلَى الدَّوامِ، فِي شِفَاهِنَا/ فَذَرُونَا والذِي حَفَرَتْ أَيَادِينَا/ ذَرُونَا/ واذْكُرُونَا/ «أَذْكُرُونَا مِثْلَ ذِكْرَانَا لَكُمْ» .. يَا أَيُّهَا الأَحْبَابْ]!

الأربعاء
بما أن كلَّ مصطلح هو تاريخه على نحو ما، فيجدر، قبل أن نعمد إلى تقصِّى المواقف من مفهوم «العلمانيَّة»، أن نتلمَّس حقيقة دلالته الاصطلاحيَّة التَّاريخيَّة، عبر نشأته في الفكر الأوربِّى، مطلع عصر الحداثة، بحقبه الثَّلاث (النَّهضة ـ الإصلاح الدِّيني ـ التَّنوير). نفعل ذلك بإيجاز، كوننا سبق أن أسهبنا فيه، من خلال كتابنا «عتود الدَّولة»، حول إشكاليَّة الفارق بين الدِّين والتَّديُّن، بالإضافة إلى عدَّة أوراق ومقالات يمكن الرجوع إليها لمن أراد استفاضة.
وإذن فالعلمانية Secularism، بالمصطلح الغربى العام، أو اللائكية laicisme، في الطور الفرنسي الخاص، هي مفهوم محدَّد أنتجه الفكر البرجوازي الأوربِّي بدلالة تحرير «السُّلطة الزَّمنيَّة» من قبضة «الاكليروس الكنسي» ـ المؤسسة الاجتماعية ذات المصالح الدُّنيويَّة التي ارتبطت بكلِّ مظالم التَّشكيلة الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة للاقطاع، والحارسة الأيديولوجـيَّة لعلاقات إنتاجها، وصائغة تبريراتها الرُّوحية في التَّاريخ القروسطي الأوربِّي ـ قبل أن تهبَّ البرجوازيَّة، رافعة مجموع الشَّعب الكادح إلى منصَّات ثوراتها التَّاريخيَّة، وأشهرها الثَّورة الفرنسيَّة العظمى (1789م)، لتقوِّض سلطة ذلك «الإكليروس»، بمصادرة أملاكه الإقطاعيَّة، وإلغاء الأتاوات التي كان يفرضها على الفلاحين الأقنان «أنصاف العبيد»، بل وبتصفية الإقطاع نفسه، وإصدار «الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن»، تحت التَّأثير المباشر لفلسفة الأنوار، وإلحاق شؤون الأسرة، ومسائل التَّربية والتَّعليم، وما إليها، باختصاصات السُّلطة «المدنيَّة». وقد تلازم صعود المركانتليَّة مع عمليَّات التَّهميش الثَّوري المتسارع للاقتصاد الطبيعي، الريِّفي، الذي كان يشكِّل أساس نفوذ الإقطاع والكنيسة، مما هيَّأ لصعود مناهج جديدة في الفلسفة، والميتافيزيقيا، كتفكير في الوجود خارج مفاهيم اللاهوت، ورتَّب لواقع فكري مغاير، أصبحت فيه الفلسفة عقليَّة، على حين بقي اللاهوت نقليَّاً، بحسب برهان غليون.
ورغم أن «العلمانيَّة» لم تستهدف، أوَّل أمرها، إنجاز مفاصلة ما مع «الدِّين»، بقدر ما هدفت لإخضاع الكنيسة الكاثوليكيَّة لسلطة الدَّولة، باستقلال عن كنيسة روما، إلا أن ثمَّة عوامل تاريخيَّة محدَّدة دفعت بـ «العلمانيَّة»، خصوصاً طبعتها الفرنسيَّة «اللائكيَّة»، على طريق التحوُّل إلى أيديولوجيا مصادمة للدِّين، حسب ديفيد مارتن ورضا هلال. من تلـك العـوامـل وقـوف الكهـنـة، فـي أعقـاب الثَّـورة الفـرنـسـيَّة، ضـدَّ إعـلان الجُّمهوريَّـة (1793م)، مِمَّا رتَّب لوضع جماهيري عام اتَّخذت من خلاله المعركة بين «الجُّمهوريِّين» و«الملكيِّين» طابع العداء بين «العلمانيَّة/اللائكيَّة» و«الإكليروس» المتحوِّل، في الذِّهنيَّة العامَّة، إلى معادل موضوعي لمفهوم «الدِّين» نفسه. ثمَّ ما لبث الأمر أن تطوَّر ليفضي، فى «الجُّمهوريَّة الثَّالثة»، إلى مواجهة شاملة، بين «الدِّين» و«الدَّولة»، باسم القيم «اللائكيَّة الجُّمهوريَّة» في مواجهة القيم «المسيحيَّة الملكيَّة».
هكذا، وبما أن لكلِّ ثقافة وحضارة «عقلانيَّتها» الخاصَّة، فإن «العلمانيَّة» ليست سوى مظهر لـ لـ «العقلانية الأوربِّيَّة» الحداثيَّة كمنجز ثقافي حضارى تاريخي، في سياق وقائع محدَّدة لصراع «المجتمع ـ الاكليروس»، كما قد رأينا، بحيث أصبحت هذه «العقلانية rationalism» أسلوباً في التَّفكير والتَّفلسف، في الحياة اليوميَّة، وفي الممارسة المعرفيَّة، تتَّفق حوله أغلب الفلسفات السَّائدة في الغرب اليوم، والتي تعـود بجذورها، كما هو معلوم، إلى فلسفات تأسَّست، أصلاً، في أثينا وفي روما القديمتين.
بعبارة أخرى، فـ «العلمانيَّة» هي جنين «العقلانيَّة الأوربِّيَّة» الوضعيَّة، الطالعة من رماد الحرب الضَّروس التي اندلعت، في التَّاريخ القروسطي الأوربِّي، بين «إكليروس» حلَّ محلَّ السَّماء في الأرض، وأسبغ على إرادته البشريَّة سلطاناً «مقدَّساً»، وسيطر على السُّلطة الزَّمنيَّة، وعلى حركة الحياة الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والعلميَّة، والفلسفيَّة، والفكريَّة، والثَّقافيَّة، وبين «مجتمع مدني» صارع لتحرير سائر مقدراته من بين فكي تلك الهيمنة، فكان محتوماً أن يقع الصِّدام مع «الكهنوت»، في أفق ذلك الصِّراع، وأن يفرز مآلاته التَّاريخيَّة، وأن يطبع، من ثمَّ، «عقلانيَّة أوربَّا» بطابعه الخاص، إلى المدى الذي رتَّب فيه، وفق الأساليب والمناهج الثيوقراطيَّة theocratic التي اتَّبعها، للتَّماهي، في الذِّهنيَّة الغربيَّة العامَّة، بين ذاته والسَّماء، بحيث لم يعُد الفصل ممكناً بين المصطلح وتاريخه.

الخميس
سمعت الدِّبيلو، رئيس «مفوَّضيَّة السَّلام» الدُّستوريَّة، يشيد، في التِّلفزيون، بمنجز «السَّلام» الذي تمَّ في جوبا! لكنه لم يقل ما كان دوره، هو نفسه، في تلك العمليَّة، وما كان دور مفوَّضيَّته التي اختطفها ما يُسمَّى بـ «مجلس السَّلام» الذي «اخترعه» البرهان تحت إشرافه، علماً بأن هذا المجلس لا ذكر له في «الوثيقة الدُّستوريَّة»!
ولأن الشَّئ بالشَّئ يُذكر، فلا بُدَّ لنا من أن نلاحظ، هنا، أن البرهان أضحى يتصرَّف، يوماً عن يوم، كـ «رئيس جمهوريَّة!»، بينما «مجلس السَّيادة» نفسه قاعد ينظر دون أن يحرِّك ساكناً، وما ذاك إلا أثر من بقاء السُّودان ثلاثين سنة تحت حكم «سعادة السَّيد الرَّئيس»! فهكذا ظلَّ اسم البشير يتكرَّر عشرات المرَّات في اليوم الواحد، مقترناً، عبر المخاطبات، والمكاتبات الرَّسميَّة، والصحف، وأجهزة الإعلام المسموعة والمرئيَّة، بلقبه الرِّئاسي، سواء كان «رئيس الجُّمهوريَّة»، أو، قبل ذلك، «رئيس مجلس الثَّورة»!
هكذا، وبفعل تواتر الأنظمة الإنقلابيَّة العسكريَّة، فإن تنائي أكثر أجيال السُّودانيِّين عن الوضعيَّة الرَّمزيَّة الموروثة من عهد الاستقلال لـ «مجلس السَّيادة» و«رئيسه»، والاعتياد على وضعيَّة «الرَّئيس المطلق» من جانب الملايين من غمار النَّاس، دَعْ مئات الآلاف من مستخدمي الخدمة المدنيَّة، والقوَّات النِّظاميَّة، بوجه مخصوص، بكلِّ تقسيماتهم، وتراتبيَّاتهم، بما في ذلك «أعضاء مجلس السَّيادة» أنفسهم، يفضي، بلا شك، في نهاية المطاف، إلى تكوين سايكولوجيَّة اجتماعيَّة وسِّياسيِّة تشمل، في مستوى اللاوعي، للمفارقة، حتَّى المعارضين، لا القوى الدَّاعمة للأنظمة الشُّموليَّة فقط! ولا تفوتنا الإشارة، هنا، إلى ما تجده هذه الوضعيَّة من ارتياح ودعم أمريكيَّين!
المشكلة، إذن، ليست في البرهان وحده، أو في «مجلس السَّيادة» المستكين من خلفه، إنَّما، بالأساس، في تنشئتنا السِّياسيَّة، نحن أنفسنا، والتي باتت تتقبَّل هذه الوضعيَّة، في ما يبدو، فلا تحتجُّ عليها!

الجُّمعة
في تناولهم لزيارة فاتو بنسودا، المدَّعية العامَّة للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، بدا على كثير من الصَّحفيِّين، وحتَّى بعض القانونيِّين، المتحفِّظين على المحكمة، ونطاق اختصاصها، أنهم يركِّزون على فهم عبارة «تكامل المحكمة مع القضاء الوطني»، كما لو أنها تعني «وجوب» أن تمارس المحكمة مهامها بـ «الاشتراك» مع المحاكم السُّودانيَّة! وهذا، في رأينا المتواضع، فهم خاطئ. فمفهوم «التَّكامليَّة Complementarity»، حسب «ديباجة نظام روما لسنة 1998م»، والذي ربَّما أفضى لكلِّ هذا الخلط والتخليط، إنَّما يعني أن المدَّعي العام للمحكمة، إذا نما إلى علمه وقوع جريمة من الجرائم الدَّوليَّة في بلد ما، فقرَّر التَّحقيق فيها بموجب المادَّة/15 مقروءة مع المادَّة/13/ج من «النِّظام»، أو إذا قرَّر مجلس الأمن الدَّولي إحالة referral ملفَّ جريمة من الجَّرائم المذكورة إلى المحكمة، بموجب المادَّة/13/ب منه، مقروءة في ضوء الفصل السَّبع من ميثاق الأمم المتَّحدة، فإن المحكمة ستتريَّث ريثما ترى ما ستفعل أجهزة إنفاذ العدالة في الدَّولة المعيَّنة، فإن تصدَّت للجَّريمة المشار إليها، ولو بمجرَّد الشُّروع في التَّحقيق مع المتَّهمين فيها، دَعْ أن تحاكمهم، فإن المحكمة، في هذه الحالة، تنأى بنفسها عن التَّدخُّل في الدَّعوى. لكن إذا ثبت لديها أن الدولة المعيَّنة، أو أجهزة العدالة فيها، إمَّا غير قادرة على التعاطي مع الحالة، أو أنها غير راغبة في ذلك، حتي لو كانت قادرة، أو العكس، فإن الاختصاص ينتقل إليها، مباشرة، انطلاقاً من مبدأ «التَّكامل» بينها وبين القضاء الوطني.
وعلى ذكر التَّصوُّرات الخاطئة بشأن هذه المحكمة، فثمَّة اعتقاد بأن هناك قائمة تشمل 51 متهماً مطلوبين للمثول أمامها بشأن انتهاكات دارفور! ونرى أن الخطأ، هنا، عائد إلى كون إحالة ملف دارفور من مجلس الأمن الدَّولي إلى المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، بموجب القرار 1593م، في 31 مارس 2005م، قد تمَّت بناء على توصية التَّقرير الذي أعدَّته لجنة التَّحقيق الدَّوليَّة «لجنة كاسيوسي»، شاملاً لقائمة من 51 متَّهماً حسب رؤية اللجنة! لكنَّ لويس مورينو أوكامبو، المدَّعي العام الدَّولي السَّابق، والذي استلم الملف من كوفي أنان، الأمين العام للمنظَّمة الدوليَّة، وقتها، أكَّد، في أوَّل تصريح له، أنه غير مقيَّد، لا بالتَّقرير ولا بالقائمة، وإنَّما سيفتح تحقيقاً مستقلاًُ، وهذا ما حدث، بالفعل، ابتداءً من 6 يونيو 2005م.

السَّبت
لم أجد تعبيراً عن الفهم الإسلامي الصَّحيح للحكم، والدَّولة، والسُّلطة السِّياسيَّة، أبلغ من قول الخليفة الثَّاني (رض): «ولَّانا الله على الأمَّة لنسدَّ لهم جوعتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإنْ أعجزنا ذلك اعتزلناهم». فمن، تراه، يزايد على الفاروق؟!

الأحد
ما زلنا نعاني، ونحن في مطلع الألفيَّة الثَّالثة، من ظواهر التَّخلف المريع، بدليل الجَّمعيَّات النِّسائيَّة التي ما تزال تكافح، حتَّى يوم النَّاس هذا، ضدَّ زواج الطِّفلات! وفي مذكِّراته التي ترجمها، وقدَّم لها د. طارق عبد الكريم الهد، يروي الطبيب البريطاني ليونارد باوسفيلد الذي عمل في السُّودان أوائل القرن الماضي، على أيَّام استعمارهم لبلادنا، أن شيخ إحدى القرى طلب منه، ذات ليلة، زيارة مريضة في أسرته. وعندما ذهب إلى مسكن الشَّيخ وجد المريضة طفلة يتراوح عمرها بين 10 ـ 12 سنة، ببطن منتفخة، وجسم في غاية الهزال، فظنَّ، للوهلة الأولى، أنها مصابة بالملاريا، أو الكلازار، أو الالتهاب الدَّرني في غشاء البروتون. لكن، بالكشف عليها، تبيَّن أنها حامل في شهرها التَّاسع، وأنها إحدى زوجات الشَّيخ! وختم د. ليونارد حكايته بأن ذلك الشَّيخ العجوز زاره، في صباح اليوم التَّالي، طالباً منه أن يعطيه دواءً لزيادة قدرته الجِّنسيَّة مع زوجاته .. الطِّفلات!
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد كيف تحولت رحلة فلسطينيين لشمال غزة إلى كابوس


.. قتلوها وهي نائمة.. غضب في العراق بعد مقتل التيكتوكر -فيروز أ




.. دخول أول دفعة من المساعدات الإنسانية إلى خانيونس جنوبي قطاع


.. على وقع التصعيد مع إسرائيل .. طهران تراجع عقيدتها النووية |#




.. هل تتخلى حركة حماس عن سلاحها والتبعية لطهران وتلتحق بمعسكر ا